}

فنٌّ يحيّي أبطالَ "نفق الحرية"

مليحة مسلماني 11 سبتمبر 2021
هنا/الآن فنٌّ يحيّي أبطالَ "نفق الحرية"
(عماد حجّاج)
يشهد حدثُ نجاح ستة أسرى فلسطينيين في الهروب من سجن جلبوع الإسرائيلي، بعد حفرهم نفقًا أسفل السجن، تفاعلًا واسعًا فلسطينيًا وعربيًا. وسرعان ما تفاعل كذلك فنانون ورسامو كاريكاتير، فلسطينيون وعرب، مع العملية التي يُطلق عليها في الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي اسم "نفق الحرية"، فانتشرت أعمالهم على مواقع التواصل الاجتماعي تعبيرًا عن البهجة بهذا الانتصار البطولي الذي حققه الأسرى الستة، وترسيخًا لقيم المقاومة والتحرر كحقوق مشروعة للأسرى وللشعب الفلسطيني بعامّة.

يتطرّق هذا المقال إلى بعض الأعمال الفنية التي انتشرت بعد عملية "نفق الحرية"، وإلى أهم المضامين التي تتناولها والمعاني والقيم التي ترسّخها.



صباح الخير فلسطين ـ رؤوف كرّاي



بعد ساعات من انتشار خبر عملية "نفق الحرية"، نشر الفنان التونسي رؤوف كرّاي على صفحته على فيسبوك عملًا فنيًا مُذيّلًا بعبارة "صباح الخير فلسطين ـ Buongiorno Palestina"، وسرعان ما حقّق العمل، الذي يصّور ستة طيور تخرج من فوّهة في الأرض، انتشارًا واسعًا على مواقع التواصل الاجتماعي. تتميّز أعمال كرّاي في عمومها بروحٍ طفوليّة تتجلّى من خلال ألوانها الزاهية وزخارفها، وهو كان قد أنجز خلال مسيرته الفنية رسومًا للعديد من كتب الأطفال. يخلق الفنان في هذا العمل مواءمة وتناغمًا بين أسلوبه المعهود، وبين الحدث- "نفق الحرية"، فالحرية في ذاتها، كمعنىً وقيمة، كثيرًا ما تحيل إلى الطفولة، كما تقول فيروز في أغنيتها "يا حرية": "طفلة وحشية يا حرية"، وهي تختزل معاني الانطلاق والاكتشاف، وكسر الحواجز، وتخطّي الحدود الموضوعة والمتعارف عليها، تمامًا كما يفعل الأطفال في سعيهم لاكتشاف العالم من حولهم، إذ لا يعيرون أهمية للقوانين والمنطق والحدود. وكذلك حطّم الأسرى في عمليتهم تلك المعايير الاستعمارية، البروباغنديّة منها (والتي تشير إلى قوة دولة الاحتلال وتشيد بها)، والمعاييرَ الأمنية والعسكرية كذلك.




كما أن في تصوير الفنان للأسرى طيورًا زاهية ألوانها مزيّنة بالزخارف، تعزيزًا آخر لهذا المعنى، أي "الحرية الطفلة"، فالحرية تحيل أيضًا إلى التحليق والطيران، وكثيرًا ما يُوظَّف الطير كرمزٍ يحيل إلى الحرية؛ وتحتشد الذاكرة البصرية الجمعية برسومٍ تصوّر حمامة تحطّ على حافّةِ نافذةِ زنزانة، في إشارة إلى الأمل والحلم بالحرية، غير أنها غالبًا تظهر في وضعية من السكون والانتظار.
في عمل كرّاي، تتحرر الطيور من وضعية الانتظار تلك، وتنطلق في ما يشبه عملية ولادة تحيل إليها الفوّهة التي في باطن الأرض ــ الأم، والتي تشبه في دورها، أي الفوّهة، بوابةَ رحمٍ يتأهّب لعملية ولادة. أسفل هذه الفوّهة مخاضٌ عسير، ليالٍ من الحفر والتخطيط والقلق والخوف والأمل، غير أن ما تقبض عليه لوحة كرّاي هي لحظة الولادة، لحظة الانطلاق إلى الفضاء النورانيّ ــ الحرية، وهذا هو بالضبط سرّ جمال لوحة كرّاي، وهو التقاطها جماليّات الوجدان العميق الذي انتاب الأسرى الستة لحظة الخروج من النفق، والذي تمتزج فيه مشاعر الفرحة والتحرر والولادة والانطلاق نحو بداية جديدة.



ثنائية المقاومة والتحرّر ــ عماد حجّاج



يصوّر رسمٌ للفنان الفلسطيني الأردني عماد حجّاج علم الكيان الصهيوني باللونين الأبيض والأسود، بحيث يتحول الخطّان الأزرقان، في الأصل، واللذان يميزان العلم، ويحيطان بالنجمة التي تتوسطه، إلى نفقيْن داخل كل منهما فدائيّ ملثّم يقوم بالحفر بواسطة فأس، تسبّب عملية الحفر تصدّعًا في كافة مساحة العمل ــ العلم. وباعتبار العلم رمزًا يشير إلى دولة الكيان الصهيوني، فإن الرسم يحمل رسالة تنبؤيّة مفادها أن عملية "نفق الحرية" تحدث خلخلة وتصدّعًا في الأسس التي ينبني عليها هذا الكيان، في هويته ووجوده ككل؛ فهي باعتبارها عملية فدائية، وهو ما يؤكد عليه رَسْم الفدائيّيْن، تُحدِث تراكمًا على ما سبقها من عمليات فدائية نفّذها فلسطينيون خلال مسيرة التحرير الوطني الفلسطيني، فمع كل عملية فدائية يتأكد إصرار الفلسطينيين في الدفاع عن حقهم في الأرض والسيادة عليها، وهي تعزّز كذلك خيار المقاومة كسبيل نحو التحرر.



ولا شكّ في أن عملية "نفق الحرية"، وكل عملية هروب من السجن، هي عملية فدائية تشبه إلى حد كبير العمليات الفدائية التي تُنَفّذ في الخارج، فعمليات الهروب، أيضًا، تعتمد على التخطيط والسرّية التامة، وقد يكون ثمنها الاستشهاد. وكما أن عملية استعادة الحقوق الفلسطينية المشروعة لم تتحقق عبر مفاوضات السلام، فإن عملية تحرير الأسرى كذلك لم تتحقق عبر الوسائل السلمية واتفاقيات السلام، بل تمّت تاريخيًا عبر تنفيذ عمليات تبادلٍ للأسرى بعد اختطاف جنود إسرائيليين، أو عبر تنفيذ عمليات هروب. يختزل عماد حجّاج كل ذلك في رسمه الذي أنجزه عقب عملية "نفق الحرية"، وفي الرسم كذلك إحالة إلى أنفاق المقاومة في غزة، ما يعزّز قيمة المقاومة التي يؤكد عليها العمل، كسبيلٍ لخلخلة أسس الكيان الاستعماري، وتحويلِ زُرقة نهاره ــ بزوغهِ، إلى ليلٍ أسود ــ موت، فباستمرار الحفر ــ العمليات الفدائية، وأعمال المقاومة، يَحدُث التراكم المقاوِم السّاعي لإسقاط هذا الكيان.



"يا حرّية" ـ رائد قطناني



كان الفنان الفلسطيني، رائد قطناني، كذلك، من بين الفنانين الذين تفاعلوا سريعًا مع الحدث، إذ نشر على صفحته على فيسبوك ثلاثة أعمال فنية يصور أحدها باب مغارة تغلقه خيوط عنكبوت، ومن أمامه حمامة ترقد في عشٍّ على بيض. يزاوج الرسم بين الموروث الديني والحدث المعاصر (عملية نفق الحرية)، وذلك بالإحالة إلى القصة الشهيرة حول هجرة النبي محمد صلى الله عليه وسلّم من مكة إلى المدينة المنورة، حيث اختبأ مع أبي بكر الصدّيق في غار "ثور" هربًا من بطش كفار قريش، ثم جاء رجال قريش ووقفوا عند باب الغار، وحينما رأوا خيوط عنكبوت على واجهة الغار، ظنّوا أنه لا يوجد أحد فيه، إذ لو دخله أحدهم لكان تحطّم شباك العنكبوت، ويُروى كذلك عن وجود حمام وضعَ بيضًا أمام الغار(1).




بإشارة العمل إلى معجزات كتلك التي تحصل مع الأنبياء، كذلك تتم رؤية عملية "نفق الحرية" على أنها معجزة، ففي ظل الظروف المعقدة والصعبة في السجون الإسرائيلية، وفي ظل المنظومة الأمنية العسكرية الإسرائيلية في تلك السجون، تصبح عملية الهروب أمرًا أشبه بالمستحيل. ينطوي العمل كذلك على أمنية وطلبٍ للعون الإلهيّ للأسرى بعد عملية الهروب لتأمينهم وإبعاد أعين الأعداء عنهم، كما حصل في قصة غار ثور مع النبي وأبي بكر.



ويصوّر عمل آخر للفنان قطناني ملعقة يسير عليها ستة فدائيين، والملعقة رمز يحيل إلى الأداة التي يستخدمها الأسرى الفلسطيينيون عادة في حفر الأنفاق، حيث يُمنع إدخال أدوات حادة إلى غرف الأسرى في السجون الإسرائيلية، ورغم تضارب الأنباء حول الكيفية التي حفر بها الأسرى الستة النفق في العملية الأخيرة (يشير أحد التقارير أنه تم استخدام عمود سرير في الحفر)(2)، إلا أن الملعقة استخدمت تاريخيًا في عمليات هروب من السجون الإسرائيلية. وهي بعد العملية الأخيرة، وبعد انتشار صورٍ لها بشكل كبير على مواقع التواصل الاجتماعي، واستلهام الفنانين لها إشارة إلى العملية، من بينهم هذا العمل للفنان قطناني، تصبح رمزًا يحيل إلى المقاومة الفلسطينية، وينضم إلى بقية أدواتها الأخرى، مثل الحجر، والمقلاع، والإطارات المشتعلة، وغيرها. يتأكد هذا المغزى المقاوِم للملعقة برفقة الفدائيين لها في الرسم. ويعزز وجود كلمة "حرية" في كل من العملين ثنائيةَ المقاومة والفدائي كسبيل للتحرر.



شمس الحرية ــ محمد سباعنة



أخيرًا، يصور عملٌ نشره الفنان الفلسطيني، محمد سباعنة، على صفحته على فيسبوك عقب عملية "نفق الحرية" رسمًا لفدائيّ ملثّم يحفر نفقًا، وفي الخلفية تسطع شمس ذهبية مشعّة؛ الشمس رمز للحرية والحياة والدفء والبزوغ والولادة، وهي تناقض بنورها وأشعتها ظلام النفق المحيل في دوره إلى الأسر والزنازين.




النفق يشبه القبر، وكذلك عملية الحفر في الأرض تتم إما لدفن الموتى، أو دفن وإخفاء أي شيء آخر، إلا أن "نفق الحرية" وعملية حفره كان لهما الدور النقيض؛ إذ هما المسار المؤدي إلى "الشمس"، أي إلى الحرية والحياة. مرة أخرى، كما في أعمال سابقة ذكرت أعلاه، يحيل عمل سباعنة ليس فقط إلى "نفق الحرية" والأسرى الستة، وإنما إلى الكلّ الفلسطيني أيضًا، حيث تطلع شمس التحرر الفلسطيني عبر السعي الحثيث والمقاوِم في ظلمات الأنفاق ـ في ليل فلسطين تحت الاحتلال.


هوامش:
(1) يذكر أن قصة العنكبوت ثابتة وصحيحة بينما قصة الحمام والبيض ليس هناك نص على ثبوتها من العلماء. يُنظر: "هل قصة نسج العنكبوت على الغار في هجرة النبي صحيحة وثابتة؟ دار الإفتاء تجيب"، اليوم السابع، 31/08/2019، https://bit.ly/3trb8t9
(2) ينظر أيضًا: موقع إسلام ويب، 11/01/2011، https://bit.ly/38PUtG3
وماجد حبته، "الملعقة والبانوبتيكون"، الدستور، 07/09/2021: https://www.dostor.org/3563944

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.