}

احتفاء إعلامي فرنسي غير مسبوق بالثورة الجزائرية

فائزة مصطفى 9 مارس 2022
هنا/الآن احتفاء إعلامي فرنسي غير مسبوق بالثورة الجزائرية
معلم أثري في باريس مخلّد لذكرى 19 آذار/مارس 1962

 

"2022 هي سنة تذكارية فرنسية بنكهة جزائرية خالصة"- هذه العبارة هي عنوان اختاره الصحافي جان دومينيك مارشي لمقاله المنشور في مجلة "لوبنيون"، وهي أحسن تعبير عن الاهتمام المنقطع النظير للسلطات الفرنسية ومؤسساتها ونخبها بإحياء ذكرى ستينية استقلال الجزائر. وعليه، تتنافس وسائل الإعلام سواء الموالية لليمين أو اليسار، على تخصيص ملفات وملاحق عن الثورة الجزائرية، وكل ما ميّز الحقبة الاستعمارية الفرنسية طيلة 132 سنة، حيث يتناوب المؤرخون والسياسيون والمثقفون على إثارة حتى المواضيع الشائكة والممنوعة، إضافة إلى نشر صور حصرية ووثائق سرية وشهادات نادرة.

أكثر ما يلفت الانتباه في ظاهرة الاهتمام الفرنسي بالتاريخ الجزائري، هو تخصيص عشرات المجلات نسخًا ثرية لهذا الملف وجعله موضوعًا رئيسًا على واجهة أغلفتها، كما استكتبت عددًا كبيرًا من المؤرخين والسياسيين والباحثين والمثقفين على غرار: بنجامين ستورا، أهم متخصص في هذه الحقبة، ترامور كيمينور، وموريس فايس، فاطمة بسناسي لونكو، أحمد هني، رفائيل برونش، سيلفي ثينولت، نجيب سيدي موسى، أني راي غلوزينغر.. إلخ، تطرقوا بحياد وإنصاف حتى إلى الملفات المحظورة في البلدين لأسباب سياسية، مثل: النقاط السرية في اتفاقيات إيفيان 19 آذار/ مارس 1962 التي أدت إلى إعلان استقلال الجزائر في 5 تموز/ يوليو من العام نفسه، تابوهات التجارب النووية في الصحراء الجزائرية التي استمرت إلى غاية 1966، وتورط حلف شمال الأطلسي- الناتو- فيها. إضافة إلى كشف عن التعذيب الوحشي الذي مارسه المستعمر في حق المناضلين الجزائريين، خاصة أعضاء ومناصري حزب جبهة التحرير الوطني (الأفلان)، إلى جانب التنكيل والتقتيل والمحارق والإبادة الجماعية. فضلًا عن تسليط وسائل الإعلام الضوء على الأعمال الانتقامية ضد الحركى (الجزائريون الذين وقفوا في صف المستعمر)، والاقتتال بين رفقاء الثورة الجزائرية من الأفلانيين والمصاليين (أتباع الزعيم السياسي الجزائري مصالي الحاج)، عن جرائم المنظمة العسكرية السرية الفرنسية، عن المحتشدات الاستعمارية التي ضمت أكثر من مليونين و350 ألف جزائري.

من اليمين واجهة مكتبات فرنسية لجديد الإصدارات عن التاريخ الجزائري، وموسوعة ضخمة خصصتها مجلة هيستوريا الفرنسية للثورة الجزائرية، وسلسلة وثائقية عن  الثورة الجزائرية



موسوعة ضخمة من التقارير والصور النادرة

بدلت مجلة هيستوريا (تاريخ) العريقة في هذا الإطار مجهودًا جبارًا، إذ أشرفت على مشروع قوامه 150 صحافيًا لإعداد  3700 صفحة من التقارير والمقابلات وصور من الأرشيف عن الثورة الجزائرية ( 1954-1962)، وقد بدأ هذا العمل الصحافي إيف كوريير (1935-2012، الحائز على جائزة ألبير لوندر) في عام 1972، لتنبثق عنه بمناسبة الذكرى الستين لتوقيع اتفاقيات إيفيان موسوعة ضخمة مكونة من 128 كتيبًا، وصفها المؤرخ بنجامين ستورا بمنجم لا ينضب من الاكتشافات، إذ يستحضر مشروع هذه المجلة أحداثًا وصورًا حية عن الثورة الجزائرية، مما يتيح للأجيال الجديدة في البلدين الإحاطة بكل جوانب هذه الذاكرة المشتركة.

واختارت مجلة هيستوريا لعددها الخاص عنوان "حرب الجزائر، صدام الذاكرة: وقائع، فاعلون، وشهادات"،  كما نشرت استقصاء منفردًا عن العلاقات الجزائرية الفرنسية، في محاولة لمعرفة آراء الشعب في كلا البلدين بعد مرور ستة عقود على الحرب بين أسلافهما،  لا سيما وأن هذه الحقبة تؤثر بانتظام على العلاقات السياسية بين الدولتين، لكن نتائج الاستطلاع أظهرت أن الماضي ليس له أي تأثير يذكر على رأي الشباب، بعدما تبين أن 70% من الجزائريين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و24 عامًا يعتبرون العلاقات مع فرنسا جيدة، وأن 67% من الفرنسيين تحت سن 35 عامًا لديهم "صورة جيدة" عن الجزائر. كما أجرت المجلة حوارات مع مؤرخين وكتّاب.

أما مجلة الجغرافيا- التاريخ، فنشرت في عددها الخاص: "حرب الجزائر: الوقائع، الرجال، الجدالات" صورًا نادرة من أرشيف الجيش الفرنسي، ومقالات وحوارات قيمة، كما أعدت ملفًا عن المنظمة العسكرية السرية، بعنوان" أواس، سياسة الرعب". الملحق الأدبي لصحيفة "لوفيغارو"، اليمينية التوجه، اختار لملفه الأسبوعي عنوان: "فرنسا، الجزائر: التمزق"، حيث قدّم قراءات في جديد الإصدارات التي تطرقت لتاريخ الاستعمار في الجزائر، من أبحاث ودراسات، وأعمال أدبية وكذلك كتب الشريط المرسوم، سواء تلك التي نشرت أم التي ستصدر لاحقًا على مدار هذه السنة، تلقي في مجملها الضوء على مختلف الإشكاليات والحقائق المرتبطة بالاحتلال. وفي عددها الخاص والثري بالمادة التاريخية، استحضرت مجلة "أوبس" اليسارية التوجه محرقة جبال الظهرة التي وقعت سنة 1845، قرب مدينة مستغانم في غرب الجزائر؛ التي استخدم فيها الغاز لأول مرة في التاريخ. كتبت المجلة عن مجازر وممارسات همجية ومتوحشة مارسها الاستعمار، أو ما نعته كاتب الافتتاحية بالسرطان الخبيث والذي واجهته ستة أجيال من الجزائريين.

المؤرخ بنجامين ستورا مع الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون أثناء تسليمه تقرير عن الذاكرة والمصالحة التاريخية مع الجزائر 



شهادات حصرية ووثائقي غير مسبوق حول الثورة الجزائرية

يشبه الفيلم الوثائقي "في حالة حرب من أجل الجزائر" شظايا مزهرية مبعثرة، حاول المخرج رافائيل ليفاندوفسكي والكاتبة والمؤرخة رافائيل برانش تجميعها قطعة قطعة لإعادة تشكيل ذاكرة تلك الحرب رغم ما يشوبها من جراح، فعلى مدار ست ساعات وست حلقات و66 مقابلة، شارك في إنجاز السلسلة الوثائقية كل من المعهد الوطني للسمعي البصري وقناة "أرتي" الفرنكوألمانية وإذاعة فرنسا الثقافية، كما ساهمت مجلة "التاريخ" وسلطات منطقة باريس وضواحيها. تشكل فريق العمل من المؤرخين والصحافيين وصانعي الأفلام الوثائقي، وبعد بذل جهود كبير في الإعداد والاتصال والبحث عن تلك الشخصيات في البلدين، تم التصوير معهم من 2019 إلى 2021، وسُجلت أكثر من 180 ساعة. بثت السلسلة الوثائقية بشكل متتال في الأول والثاني من آذار/ مارس الجاري على قناة أرتي، وقامت الفنانة الشابة لينا خوذري بالتعليق.

يلمس المشاهد منذ الوهلة الأولى مدى الحرية التي تحدّث بها المتدخّلون، لا سيما وأنه قد مر وقت طويل على تلك الأحداث، وتراوح اختيار الشهود بين الأقدام السوداء (الأوروبيون المولودون في الجزائر) ومناضلين سياسيين وثوار في جبهة التحرير الوطني والحركة الوطنية الجزائرية أو المصاليين، جنود ومجندين في جيش الاستعمار، الحركى، أعضاء في منظمة الجيش السري المعروفة باسم "أواس"، موظفين إداريين، أعضاء شبكة "جونسون" الداعمة للثورة الجزائرية والمعروفة باسم "حاملي الحقائب"، يهود، مسيحيين، مسلمين، مثقفين، طلبة...الخ. حيث صاغت كل شخصية روايتها عما عايشته خلال سبع سنوات من الحرب الدامية، وما تخلل تلك الفترة من ممارسات التعذيب والحرق والمطاردة والتهجير والتفجيرات والاغتصاب والمظاهرات التي امتدت إلى الداخل الفرنسي سواء تلك المعارضة للاستقلاليين أو المساندة لقضيتهم، وحتى الاقتتال بين رفقاء السلاح الجزائريين. كما تحدث هؤلاء الشهود عن التيارات السياسية ورموزها، وأيضًا الوضع الاقتصادي السائد آنذاك، كل وفق توجهاته الأيديولوجية وظروف حياته في الحقبة الاستعمارية. لقد استطاعت كاتبة الوثائقي نسج روابط رفيعة بين حياة كل هؤلاء الشهود بمهارة، وإبراز عواطفهم مع توظيف صور من الأرشيف الشخصي، وشهادات تبث لأول مرة بعيدًا بشكل مذهل ومدهش وعنيف أحيانًا، إلى جانب إظهار شهود قدر كبير من الحنين إلى ما يعتبرونه وطنهم، فيما يرى شهود آخرون أن الثورة حددت انتماءهم ورسمت ثوابت هويتهم.

يشرف المؤرخ الفرنسي ترامور كيمينور على مشاريع كبيرة تخص إحياء ذكرى استقلال الجزائر وذكرى توقيع إيفيان  



إذاعة فرنسا الثقافية .. "صوت الجزائريين"

تبث الإذاعة "فرانس كولتور" برامج حول الثورة الجزائرية منذ نهاية السنة الماضية، ويستمر بثها طوال العام الجاري، مثلًا، يقدم رافائيل ليفاندوفسكي على أثيرها حوارات أجراها مع شخصيات جزائرية فاعلة في تلك المرحلة، ويخرج رفيق زنين الحلقات الإذاعية. فضلًا عن إثارة الإذاعة نقاشات، وبث مقابلات، وتنظيم موائد مستديرة تقدمها أوليفيا جيسبار، وإعداد سلسلة وثائقية بعنوان "ذكريات حية لحرب الجزائر" من إنتاج آلان لوكوفيتش، وتعليق سوماني نا.

كما تقوم مختلف القنوات التلفزيونية بتغطية مختلف الفعاليات المخصصة لهذه الذكرى من معارض وندوات وأفلام، وتخصيص بلاتوهات للحديث عن تلك الأحداث الفاصلة في تاريخ البلدين، عبر استضافة أهم المؤرخين والكتاب والمبدعين الفرنسيين والجزائريين، كل ذلك تماشيًا مع برنامج الحكومة الفرنسية في إحياء ذكرى الستين لاستقلال الجزائر، وأيضًا في إطار تنفيذ توصيات المؤرخ ستورا، بعدما كلفه الرئيس إيمانويل ماكرون بإعداد تقرير حول الذاكرة والمصالحة التاريخية.

وفي زخم غير مسبوق على صعيد الكتاب، ستصدر دور النشر الفرنسية عشرات الكتب التي تتناول تاريخ الجزائر خلال الفترة الاستعمارية، مثلًا دار سيلبس التي تنفرد بنشر مذكرات المؤرخ والسياسي الجزائري محمد حربي بعنوان "الإدارة الذاتية في الجزائر - ثورة أخرى في الجزائر؟ (1963-1965)"، كما صورت المؤسسة 23 مقابلة معه في منزله.

يسعى القائمون الفرنسيون على هذه الاحتفالية، سواء الرسميين أو النخبة، إلى رواية حكاية واحدة عن ماضي بلادهم في الجزائر لكن بأوجه متعددة، والأهم هو توثيق ما تبقى من الشهادات الحيّة عن أعنف حرب خاضتها قوة استعمارية في القرن العشرين.

محاضرات في كل مكان في فرنسا عن التاريخ الجزائري

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.