}

هل ثمة حداثة بصريّة في السينما العربيّة؟

أشرف الحساني 22 أبريل 2022

 

تعيش السينما العربيّة في السنوات الأخيرة مخاضًا جماليًا، ذلك أنّ التفكير في صُوَرها ومكانتها المركزيّة في نفوس ومَشاغل المُشاهد بالعالم العربيّ، تجعلنا نُفكّر في جوهر هذه السينما والمكانة التي حقّقتها والمخاضات السياسيّة والاجتماعية التي مرّت بها منذ أواسط القرن الـ 20، بعد تحوّلاتٍ فنّيةٍ وجماليّةٍ شهدتها، تدفعنا اليوم إلى طرح سؤالٍ مركزيّ حول موقع السينما العربيّة من مفهوم الحداثة البصريّة، التي طالت مفهوم الصورة ومُتخيّلها في العالم ككلّ. وليس غريبًا إذا اعتبرنا أنّ الكثير من الأفلام اليوم، تحتكم في مُنطلقاتها الفكريّة وتشكّلاتها الجماليّة إلى مرجعياتٍ سينمائية غربيّة تأثّرت بها في لحظةٍ من مَسارها الفنّي، ما يجعل بعض صُوَرها مُستلبة وخاضعة إلى منطقٍ جماليّ مُتباين، يتأرجح خطابه البصريّ بين واقعٍ عربيّ مُفكّك، مقابل صورةٍ جماليّة غربيّة موغلة في الرومانسية الفانتاستيك، وبعيدة كلّ البعد عمّا يشهده الواقع العربيّ من شروخٍ وتصدّعات. من ثمّ، فإنّ هذه الازدواجية البصريّة تخلق دومًا نشازًا فنيًا داخل عدّة أفلامٍ عربيّة. لأنّ الصُوَر مهما ارتبطت تقنيًا بنسقٍ بصريّ مُتناغم، فإنّ الاخلال بالشرط التاريخيّ المُتمثّل في السياق، يجعلها تعيش مفارقة صادمة بالنسبة للمُتلقّي، ذلك أنّها تبقى رهينة سياقها التاريخيّ ولا يُمكن استئصالها منه واستخدامها داخل مشروعٍ سينمائي آخر، قد تتناقض صُوَره أحيانًا مع الفيلم الأوّل. لكنْ حين نتحدّث عن مفهوم الحداثة البصريّة داخل السينما، فإنّنا نعني بدرجة أولى التحوّلات الأنطولوجية التي يشهدها براديغم الصورة داخل سياقاته الدلالية، بدءًا من الصورة التقريرية والوثائقية ووصولًا إلى الشعريّة، حيث تتحرّر كلّ الأنماط من المُباشرة الفجّة وتغدو الصورة مجرّد نظامٍ تقنيّ أو مدخلٍ جمالي يهُمّ إلى التقاط اللامفكّر فيه داخل سيرة اللامرئي. لذلك فإنّ الأفلام التي ندعوها بـ "العظيمة" أو "الكبيرة" هي تلك الأفلام التي تخلق الدهشة بصُوَرها وخطابها البصريّ، حيث تتشابك الصُوَر فيما بينها تشكيليًا ويُشكّلان وحدة بصريّة يصعب اختراقها أو إعادة إنتاجها بنفس المُعطيات الحسّية داخل فيلمٍ آخر.

إنّ تشكيل الصورة فنيًا يُعدّ أبرز عاملٍ فنّي يُساهم في خلق حداثةٍ بصريّة داخل السينما، رغم أنّ المفهوم لم يتبلور كثيرًا داخل السينما العربيّة، إذْ يصعب العثور على فيلموغرافية مُتكاملةٍ اشتغلت على هذا البُعد التشكيليّ في صناعة الصورة السينمائية كنوعٍ من الحداثة البصريّة القائمة على التخييل والإبداع والابتكار. لا توجد حداثة سينمائية تبدأ خارج الصورة أو بمنأى عن تحوّلات أنماطها وعناصرها. لذلك راهنت الكثير من التجارب الفرنسيّة المعاصرة على هذا الميسم الجماليّ لحظة التصوير والذي يجعل الصورة السينمائية تعيش حداثة وجوديّة مُكتملة، لا تقرأ ذاتها أمام مرآة الآخر، بقدر ما تنطوي على جسدها وتُرمّم جسدها، حتّى يتسنّى لها اجتراح صورة سينمائية من داخل الواقع الذي تنتمي إليه فيزيقيًا ومُتخيّلًا. ففي سينما "الحرب الأهلية اللبنانية" استطاع كلّ من جان شمعون ومارون بغدادي وبرهان علويّة وجوسلين صعب ورندة الشهّال وغيرهم، اجتراح صورة سينمائية يكاد المُشاهد لا يعثر لها على أيّ مصدرٍ غربيّ، لأنّها ظلّت نابعة من عُمق الواقع اللبناني؛ حيث نعثر على الكاميرا مُرتجّة تجاه واقعها، لكنّها في نفس الوقت، تمتلك حساسيّة جماليّة تجاه الحدث، حيث تعمل على تجميل الواقع وتخلق مسافةٍ بصريّة معه في آن واحدٍ. ونفس الأمر، نُشاهده عن كثب في سينما يوسف شاهين وداوود عبد السيّد، حيث الكاميرا مفتوحة على تحوّلات الاجتماع المصري، غير أنّها معنيّة في نفس الوقت بجماليّات الصورة الواقعيّة، فالجميل هنا مُرتبط بمدى تجذّر الصورة في بيئتها واجتماعها، فهو يخترق وعي الصورة السينمائية، صوب مفهوم الخطاب ليُحوّله إلى صُوَرٍ فنّية تهجس بالتوثيق والتجريب والتخييل. كل هذا في مقابل سينما مغربيّة، نعرف مُسبقًا أنّ أغلب المخرجين أضحوا يتبنون في صناعتهم توجّهًا غربيًّا (ليس كونيًا) لأنّ الصُوَر تكاد لا تنأى عن المُنجز السينمائي العالمي، وحتّى إنْ اختلف الموضوع والمُعالجة وزوايا النظّر، فإنّ بعض الصُوَر أو المَشاهد تعثر لنفسها على إحالاتٍ داخل تاريخ السينما الغربيّة، سيّما الفرنسيّة المُتّصلة بـ "الموجة الجديدة" بحكم الثقل التاريخيّ في تاريخ العلاقات الدوليّة بين المغرب وفرنسا منذ مطالع القرن العشرين بسبب الاستعمار الكولونياليّ.

عن مصادر الحداثة البصريّة داخل السينما العربيّة وتمثّلاتها وتجلّياتها، كانت لنا هذه الوقفة الخاصّة مع نقّاد ومخرجين من العالم العربيّ:

 

ناجح حسن 

 

ناجح حسن (ناقد أردني):

الحداثة البصرية في السينما العربية ليست وليدة الحاضر

الحداثة البصرية في السينما العربية لم تكن وليدة الحاضر بقدر ما أعلنت عن نفسها كظاهرة ودلالات مع بدايات التحرر والانفتاح لكثير من البلدان العربية والتي حملت معها أفلامًا آتية من قدرات إبداعية شابة عادت للتو من المهجر أو ممن انخرطوا في حراك الأندية السينمائية أو ممن اطلعوا على نظريات وتيارات جماليات السينما من بطون أدبيات الثقافة السينمائية التي أخذت تفرض نفسها على حيز المكتبة العربية. 

من هنا نستذكر تجارب اللبناني جورج نصر في خمسينيات القرن الماضي بفيلميه (إلى أين؟) و(الغريب الصغير) وأيضًا تجارب العراقي قاسم حول (بيوت في ذلك الزقاق) و(الأهوار) والمصري كمال سليم بفيلمه المعنون (العزيمة) وأيضًا في أفلام مواطنه صلاح أبو سيف (بداية ونهاية) و (الزوجة الثانية) مثلًا..  وصولًا إلى ما نشهده حاليًا من تجارب جديدة تستفيد من مقومات الكاميرا الرقمية ألوانًا من التعابير البصرية لكن القليل منها يبقى بالذاكرة وذلك للتوظيف العشوائي للصورة التي تغيب فيه المخيلة لدى العديد من المخرجين!

بيد أن حقبة السبعينيات من القرن الفائت كان لها وقعها الأثير على صناع السينما عندما جرى تقديم جملة من الأفلام الموازية للأنماط السينمائية السائدة وحملت مسميات مثل تيار الواقعية الجديدة في السينما العربية وأفرزت أفلامًا لافتة بجمالياتها البصرية الرحبة أنجزتها قدرات من الجيل التالي في السينما العربية وتركزت في بلدان المغرب العربي في أفلام مرزاق علواش (عمر قتلته الراجلة) وأحمد المعنوني (آليام.. آليام) ورضا الباهي (شمس الضباع) وكانت هناك أفلام الكويتي خالد الصديق (بس يا بحر) و(عرس الزين) وفيلم اللبناني برهان علوية (كفر قاسم) وتوجت بفيلم السوري محمد ملص (أحلام المدينة).

إلا أن السنوات الأخيرة للقرن الماضي ووصولًا إلى السنوات العشرين الأخيرة أظهرت قدرات شابة متمردة على السينما الدارجة وأخذت مكانها تحت مسمى السينما المستقلة أو سينما المؤلف نأت فيها عن المباشرة في الخطاب السياسي والاجتماعي وبثت إشكالات من البحث والتأمل في أساليب بصرية تنهض على مفردات من الحداثة البصرية التي بشرت بها تجارب أوروبية  من تيار سينما (الدوغما) في بلجيكا وهولندا والدنمارك، وآسيوية من الجيل الخامس في السينما الصينية أو التجارب الجديدة في السينما الكورية والإيرانية وبذلك انتقلت من الشعبي إلى النخبوي وظلت عروضها أسيرة المهرجانات! مثلما اتسمت بانحياز البعض منها إلى الجرأة في التجريب وإلى أبعاد فلسفية في رؤى وأشكال سينمائية متردّدة في البحث عن هويتها الخاصة وتعاين بصعوبة وخوف من الانغماس في الواقع وإشكالاته أو في الصدام مع المحاذير ومفارقات العلاقات الإنسانية.

 

مراد مصطفى 

 

مراد مصطفى (مخرج مصري):

تطور أجهزة العمل السينمائي ساعد في إسهام بصري حديث

إن الحداثة البصرية دفعت الجيل الحالي من الشباب السينمائيين العرب إلى النهوض بالفيلم العربي خلال مرحلة جديدة، من كونها سينما عربية إلى سينما عالمية لها تواجد قوي في المحافل الدولية. وهذا نتيجة لمقاومات الأجيال التي تسبقنا ومخرجين عرب كبار مثل يوسف شاهين ومصطفى العقاد وغيرهما، وذلك عن طريق ابتكار ومحاكاة جديدة لما تعانيه الشعوب العربية في الآونة الأخيرة وذلك بسبب التأثير السياسي وتغير المناخ والذي يلحقه تغير سينمائي واضح، وتطور استخدام التكنولوجيا وأجهزة العمل السينمائي ساعد في إسهام بصري حديث.



وكل هذا إلى جانب أساليب السرد الحديثة وارتفاع سقف المنافسة مع الأفلام الأوروبية خلق منافسة شريفة وتحدّيًا لدى الشبان العرب باستخدام تلك التكنولوجيا وأساليب السرد الجديدة مما نقل الفيلم العربي من سينما الحوار إلى سينما الصورة وذلك كان واضحًا على سبيل المثال في أفلام المخرج التونسي علاء الدين سليم، حيث يعتبر من الجدد المفضلين بالنسبة لي، لأنه يمثل نموذجًا جيدًا للتعبير عن الذي أقصده.

علي سفر 



علي سفر (ناقد سوري):

من المبالغ فيه الادعاء بوجود حداثة بصرية أصيلة في السينما العربية

لا أظن أننا نتفق على ملامح محددة للحداثة البصرية في السينما عمومًا، يجعلنا توفرها في مشهدية الفيلم نجزم بنهج صانعه منهجًا مختلفًا عن آخر يصنع سينما بلا حداثة بصرية.

أشك في وجود هذا الإطار المعياري، وأظن أن علينا الحديث عن الجماليات البصرية، في مسار تطور مفهوم الجمال ذاته، والمنحى الذي يتخذه في طوري الحداثة وما بعد الحداثة.

ومن أجل أن نلبي حاجة السؤال أظن بأن اشتغال صناع الأفلام في الدول المتقدمة في هذا المجال على الإبهار البصري، والذي تحتاجه ثيمات رائجة كالأفلام الحربية أو المغامرات والفنتازيا، وكذلك الخيال العلمي والرعب، ولا سيما في الجانب التقني (كاميرات متطورة بدقة عالية، حوامل الكاميرات المتحركة، الدرونز، الغرافيك، والخدع البصرية)، يؤدي إلى تعميم المؤثرات وتحولها بذاتها إلى سلعة، يمكن شراؤها من الشركات المختصة، ويتم تعميمها حول العالم، فترى ذات المؤثرات البصرية مستخدمة في السينمات الهندية والعربية والأفريقية وغيرها.

لكن تعميم استخدام المؤثرات لا يعني بأي حال من الأحوال أن هذه السينما أو تلك تتمتع بحداثة بصرية! إنها تحاول تلبية حاجيات السوق، ولا سيما عيون المشاهدين الذين باتوا كلهم على منصة مشاهدة شبه واحدة في كافة أرجاء المعمورة يتصرفون لجهة نمط السلوك والتلقي بطريقة واحدة، بحكم تحول العالم إلى قرية صغيرة، كما يقال.

لكن التفكير بالجماليات البصرية الملتصقة بالحكاية (غير مجانية الاستخدام، ولا يقصد من استخدامها إبهار المشاهد وحسب)، وجعل المشهديات البيئية وكذلك التشكيلية أساسًا في تكون الصورة، هو في الأصل توجه حداثي، مختلف عما سبقه، يقوم على فلسفة عميقة، قوامها إمعان التفكير بعلاقة الشكل والمضمون التقليدية، والانتهاء بجعل الشكل البصري جزءًا من المضمون ذاته، وهنا أذكر بأن الأفلام التي قدمت للمشاهد بلوني الأسود والأبيض خلال السنوات الماضية كمثال، أي في عصر الصورة الملونة عالية الدقة، أبهرته وحصلت على جوائز صارت راسخة كفيلم "الفنان" (2012) للمخرج ميشيل هازانافيكوس، و"روما" (2018) لألفونسو كوارون، وأخيرًا فيلم "تراجيديا مكبث" (2021) لجول كون.

من المبالغ فيه الادعاء بوجود حداثة بصرية أصيلة في السينما العربية ضمن هذا المنحى، ففي أفلام السوق التجارية نرى استخدامات رائجة لكافة المؤثرات المتاحة، وهناك براعة في بعض التجارب كثلاثية "الفيل الأزرق" للكاتب أحمد مراد والمخرج مروان حامد.

لكن في المقابل، لنتذكر أن فيلم "المومياء" لشادي عبد السلام (1969)، قد حفر عميقًا في هذا الاتجاه الفلسفي، قبل أن تصل إلى السينما العربية ارتدادات زلزلة أندريه تاركوفسكي البصرية الشاعرية، التي تأثر بها مخرجون كثيرون، إن لم نقل إنهم قلدوها!

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.