}

في أربعينية صبحي دسوقي.. الكتابة في جمهورية الخوف والرعب

ميسون شقير ميسون شقير 8 مايو 2022
هنا/الآن في أربعينية صبحي دسوقي.. الكتابة في جمهورية الخوف والرعب
صبحي دسوقي (1957 ـ 2022)

حين كنا نقرأ المنفى في أشعار الفلسطينيين والسوريين والعراقيين، قبل أن تدركنا الفاجعة، لم نكن نعرف أننا كنا فقط نؤجل شعرنا الملذوع قليلًا، ريثما تكمل طائرة قصف طفلة كانت تمشط شعر دميتها الطويل، وريثما تكتمل فينا المجزرة، ولم نكن ندرك أن الأدباء الفلسطينيين الذين سبقونا إلى المنفى كانوا حينها يكتبون بدلًا عنا مؤقتًا، ويجهزون لنا أرض العبارة على شكل منفى للغمام. ففي المنفى تنام فينا أوطاننا ولا تنام، تهرب حين نوهمها أنَّا غفونا، وتركض إلى الطريق حافية ومعطوبة الكاحل، وتدخل غرفة القلب من تلك الفتحة التي تركناها لها في النافذة، وتدخل بين جفنينا، وترمي خرابها معجونًا بخراب أحلامنا في شراييننا. وهكذا، وبغتة، نموت في منافينا، وحيدين، ومطعونين بأحلامنا نفسها، وفي القلب.
هكذا رحل الكاتب والصحافي السوري، صبحي الدسوقي، صباح يوم الخميس 24 آذار/ مايو الماضي في مشافي مدينة مرسين التركية. وهكذا يكون قد مرّ مؤخرًا أربعين هذا القصصي السوري الذي تروي قصة حياته وموته، قصتنا التي لا تنتهي. ودسوقي هو كاتب القصة "الرَّقِّي الحر الدمث"، كما وصفه الشاعر حسان عزت، رحل بعد أن عاش شتاته في تركيا، وبعد أن طعنه سكين منفاه القسري ككل سوري حلم بوطن العدل والمساواة، فلا مكان للأحلام في سورية اليوم، هنالك فقط مكان للموت والجوع والدمار ولصور وتماثيل الديكتاتور التي لا تنتهي.
وصبحي دسوقي هو رئيس اتحاد الكتاب العرب الأحرار، الذي تشكل في الخارج ليضم الكتاب الذين وقفوا مع صوت السوريين، وحملوا معهم دمهم المسفوح في المعتقلات، ودمهم المسفوح تحت شرفات بيوتهم. ولأن دسوقي كان يمتلك روحًا حرة وعرة، لم يستطع المنفى أن يقتل فيه صوت الكاتب السوري القادم من جوار الفرات، فظل يكتب في الصحف المعنية بالشأن السوري، مثل صحيفة "جيرون"، وساهم في تأسيس صحيفة "إشراق" العربية التركية، وعمل فيها رئيسًا للتحرير، بالإضافة إلى كونه عضو بيت الإعلاميين العرب في تركيا، وأمين سر اتحاد الكتاب العرب في الرقة سابقًا، وعضو اتحاد الصحافيين، كما كان معلقًا ومحللًا إعلاميًا على شاشات تلفزيون سورية، منذ خمس سنوات.




الدسوقي من مواليد محافظة الرقة 1957. ذاق مرارة القبضة الأمنية في دمشق، وسجن الرقابة على الكلمة الحرة، فعندما قام بطباعة مجموعته القصصية الأولى، التي ضمت قصة بعنوان "المنشورات توزع الليلة"، رُفضت القصة من قِبل السلطة، إلى أن عرضت عليه دار نشر لبنانية نشر المجموعة، فدخلت المجموعة القصصية إلى سورية، وشاركت في معرض مكتبة الأسد، ولكن بعد أربعة أيام، جاء الأمن فصادرها، وقام بإتلاف كل نسخها، وأصبحت ممنوعة في سورية. فإذا كنت كاتبًا في جمهورية الخوف والرعب، كما أسماها الشاعر السوري شوقي بغدادي، عليك إذًا أن تدفع ثمن إبداعك، وتدفع ثمن إنسانيتك، وهكذا كان على الكاتب السوري الرقي الراحل، صبحي دسوقي، الذي نذر نفسه لمناصرة الثورة السورية منذ بدايتها، ولفضح التطرف الفكري الديني الذي سرق حلم الثورة من عيون السوريين، كان عليه أن يعاني كثيرًا من حالات المنع لكتاباته وقصصه. فبين العامين 2007 و2009 صدرت له مجموعتان قصصيتان عن طريق اتحاد الكُتاب، ولكن تم استبعاد ومنع خمس قصص من كل مجموعة، ثم كان عليه أن يعاني من ترك رقته وشامه، كمن يترك قلبه في مزهرية على طاولة ويرحل.
والأديب السوري الراحل هو كاتب قصة تمكن من أدواته، واستطاع تقديم نص قادر على الحياة والبقاء. وهو يقول: "أكتب منذ منتصف السبعينيات القصة التي تعتمد على الرمز في سبيل إيصال فكرة معيّنة. لقد كانت كتابة القصص القصيرة محاولة مني للهرب من النظام الاستبدادي الذي كان يسود في سورية، ومن الرقابة التي كانت ولا تزال تحاصر المثقف والمبدع، وتمنعه من إبداء رأيه الحقيقي".
صدرت للكاتب مجموعتان قصصيتان عن طريق اتحاد الكتّاب، بين عامي 2007 و2009، إلى جانب استبعاد ومنع خمس قصص من كل مجموعة. بالإضافة إلى العديد من المؤلفات، ومن بينها المجموعات القصصية التالية: "الذي ترك المدينة" (1978)، و"صخب الرماد" (2001)، و"الحلم" (2007)، إلى جانب عدد من الدراسات البيبلوغرافية.




وحول نتاج صبحي الدسوقي الأدبي، يقول الناقد محمد جدوع في دراسة نشرها موقع eRaqqa بتاريخ 10/ 3/ 2008: "إن جملة صبحي دسوقي لها صلة حسب ونسب بموضوعة ثيمة قصصه، ويعيدنا لخصيصة أسلوبية تفرد بها بامتياز، ألا وهي جملة الافتتاح في كل قصصه الإبداعية التي تعد عنده المفتاح والسر المباح في معظم مجموعاته إن لم نقل كلها، ولهذا جاءت الجمل الافتتاحية في جسد القصة الأم التي تغني القارئ عن فحواها، لكنها تغويه بمتابعتها وتستدرجه وتستغويه في إتمامها". ويضيف أن أعمال دسوقي الأدبية تتميز بمتانة السبك ومواءمة المبنى للمعنى بمعنى آخر رافق اللفظ الجميل المعنى الجميل. صفاء الشعور مع قريحة خصيبة. خصيصة الجذب والنبذ علامة فارقة في أسلوبه المائز. يستهوي قارئه ليستدرجه لمقصده، ثم لا يلبث أن يرده على عقبيه حسيرًا، بعدما يثقله بمبتغاه الذي ربما لا يتمناه القارئ.
رحل دسوقي وفي جعبته كثير من القصص التي لا تذوي ولا تجف، قصص المعذبين في الأرض، قصص فصول المحرقة السورية، قصص الصواريخ والطائرات الروسية في حلب وحمص وماريوبل وكييف، قصص سجون الرايات السوداء التي سجنت سماء السوريين، قصص المجزرة التي قتلت سكان حي التضامن في دمشق، الفلسطينيين منهم والسوريين، لتبقى شاهدة على مدى "تضامن" نظام الأسد مع فلسطين، وقصص المنفى الطالعة من عيون الفلسطينيين والسوريين.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.