}

فيلم "ماريوبوليس 2".. تراجيديا وفاة مخرجه

سمير رمان سمير رمان 12 يونيو 2022
هنا/الآن فيلم "ماريوبوليس 2".. تراجيديا وفاة مخرجه
المخرج الليتواني مانتاس كفيدارافيسيوس

في نهاية شهر مارس/ آذار، قُتل في مدينة ماريوبول الأوكرانية المخرج الليتواني مانتاس كفيدارافيسيوس، بعد تصوير فيلمٍ وثائقي عن حياة الناس في ظلّ احتلال القوات الروسية للمدينة المنكوبة.
بعد موته، تولت زوجته آنّا بيلوبروفا مونتاج فيلمه الثاني "ماريوبوليس 2"، الذي عرض في مهرجان "كان" السينمائي، ليكون بذلك أول فيلمٍ عن الحرب التي تدور رحاها الآن.
قبل وفاته في عمر 45 عامًا، تمكن مانتاس من تصوير ثلاثة أفلامٍ، من بينها "ماريوبوليس 1"، الذي عرض في مهرجان برلين السينمائي عام 2016. شكّل الفيلم لوحة عن المدينة التي عاشت تحت احتلال الانفصاليين، قبل أن يتمكن الجيش الأوكراني من تحريرها لاحقًا. بعد الغزو الروسي لأوكرانيا عام 2022، قرر مانتاس استكمال التصوير هناك.
فيلم "ماريوبوليس 2" حكاية عن الحياة زمن الاحتلال، وعن وهج الانفجارات وقصف القنابل والصواريخ، وأيضًا عن الناس الذين التجأوا إلى دارٍ للعبادة احتماءً من القصف المتواصل. الفيلم أيضًا حكاية عن حياة المحاصرين اليومية، وعن كيف كانوا يجهزون ما تيسَّر من طعام على مواقد الحطب، وكيف كانوا يدفنون موتاهم، وكيف يبتهلون ويصلّون. لا يتضمن الفيلم كثيرًا من الصور الصادمة، لكنّه وثيقة مرعبة عن زمن الحرب.




في لقاءٍ إذاعي، تحدثت آنّا بيلوبروفا عن الأيام الأخيرة في حياة زوجها، تلك الأيام التي صوّر فيها الفيلم:
عملنا لعامين في أوغندا على إنجاز بعض من مخططاتنا المهنية. كلّ شيءٍ تغيّر عندما بدأت الحرب الروسية ـ الأوكرانية في 24 من فبراير/ شباط الماضي. في الثالث منه، كان عيد ميلادي، فتوجهنا معًا إلى المدينة للاحتفال بالمناسبة. عند عودتنا إلى المنزل، بدأت رسائل التهنئة ترد من الأقارب والأصدقاء. كتب الأقارب رسائلهم من الأقبية (أصول الزوجة من ماريوبول)، فبدأت أفقد أعصابي. قلت لزوجي أنني سأبقى في المكتب لأنجز بعض الأعمال، ولكنني كنت في الحقيقة في حاجةٍ إلى الوحدة كي أتخلّص من التوتر الشديد الذي عانيته. كان مانتاس يقرأ الأخبار في الغرفة الأُخرى. ولمّا أدرك أنّ مدينة ماريوبول أصبحت تحت الحصار، استدعاني على الفور.... كان مانتاس يعمل قبل ذلك على إعادة مونتاج فيلم "ماريوبوليس 1"، الذي أخرجه عام 2014، فشعر بالقلق بشأن مسرح الدراما، وبشأن الناس المحاصرين هناك. بعد نقاشٍ قصير، اتخذنا القرار بضرورة العودة إلى ماريوبول، وتصوير فيلمٍ ثانٍ "ماريوبوليس" هناك. ووجدنا من واجبنا تقديم ما نستطيع تقديمه لمساعدة الناس.
تدور أحداث الفيلم عن الفترة الممتدة من 19 إلى 26 مارس/ آذار. ولأن الناس كانوا مختبئين في مبنى دار عبادة المعمدانيين، فقد قررنا الذهاب إلى مسرح الدراما. في طريقنا إلى ماريوبول، توقفنا في مدينة دنيبر، حيث وردتنا الأنباء عن قصف المسرح. ومع ذلك، تابعنا طريقنا آملين أن نستطيع الوصول إلى هناك. بمجرد دخولنا إلى ماريوبول، توقفنا أولًا أمام دار سينما "الكومسومول"، ومن ثمّ في مبنى دار العبادة. كنّا نسافر في البداية ضمن قافلة لم يبق منها في ما بعد سوى سيارتين فقط، فاضطررنا إلى التوقف. أدركنا أنّنا لن نبلغ المسرح أبدًا، ففكرنا في التريث لبعض الوقت في دار العبادة.

لقطة من الفيلم الوثائقي "ماريوبوليس 2" 


كان اهتمام مانتاس منصبًّا على مظاهر الحياة في زمن الحرب، وعن ظروف حياة الناس وعيشهم تحت الحصار. كنّا نعلم بعض الأمور عن الحياة في زمن الحرب من خلال مقاطع شاهدناها على مواقع التواصل الاجتماعي، مثل bloody pictures وheadlines. لكن هذه المواقع لا تركز على الحياة نفسها، ولا تولي اهتمًامًا كافيًا لحقيقة أنّ الناس يتابعون حياتهم المعتادة، فيأكلون ويتحدثون ويضحكون ويروون النكات، ويعيشون بشكلٍ ما. هذا بالتحديد ما كان يثير اهتمام مانتاس، وهو توثيق الحياة في اللقطات. بعد أن أنجزنا التصوير، قدر ما كان متاحًا في تلك الظروف، كنا على وشك المغادرة، ولكن الجنود الروس صادروا السيارة التي كنّا نستخدمها. بعد خسارة وسيلة النقل الوحيدة، قررنا العودة سيرًا على الأقدام تحت القصف المتواصل. أخذنا بعضًا ممن كانوا في الكنيسة، وتوجهنا إلى منطقةً ثانية أكثر هدوءًا، حيث يقع منزل أحد المتطوعين الذي كانوا يرافقوننا. كانت والدة المتطوع وحيدة في المنزل، فقضينا الليل هناك في انتظار إحضار أقاربه لنغادر سوية صباحًا. في الصباح، ذهب مانتاس برفقة المتطوع لمساعدته في جمع أقاربه.




أفقنا في الصباح، وعلمنا أنه سيتم توزيع مساعداتٍ إنسانية. أخبرني مانتاس أنه قد طلب الإذن للمساعدة في أعمال التوزيع. أردت الذهاب معه، ولكنّ مانتاس قال: "لا شيء تفعلينه هناك". سألته أن يغطي ساقيّ، ففعل، ثمّ قبلني وغادر. أصابني قلق شديد طيلة النهار. خرجت إلى الشارع أرقب عودته وقد اقترب موعد حظر التجوّل. لم يظهر مانتاس، فعدت إلى الداخل. وجدت أنّ والدة المتطوع بدأت تقلق هي الأُخرى، وكذلك كانت حال من جاءوا معنا من الكنيسة. قررنا أنّهم رجالٌ راشدون، وأنّهم سيمضون فترة الحظر في مكانٍ ما. في صباح اليوم التالي، عاد السائق مع بقية الأشخاص الذين رافقهم مانتاس. حينها، أدركت أنّ خطبًا ما قد وقع، فقررت أنني لن أغادر من دون زوجي. وهكذا بدأت رحلة البحث التي استمرت خمسة أيام.
أفاد شاهد عيان أنّ زوجي قد اعتقل والأشخاص الذين كانوا معه، ولكن كل شيء يبقى أمرًا نسبيًا وغير واضح تمامًا، حيث لم تأخذ السلطات بعد أقوال الشاهد. زعموا أنّ مانتاس التقط صورًا، فلاحظه الجنود، وألقوا القبض عليه، وأودعوه مع آخرين في مبنى طيلة الليل. أطلقوا سراح العائلات، والسائق، أمّا مانتاس فلم يطلق سراحه. كان من الواضح أنّهم سينظرون إلى من يحمل جواز سفرٍ بلدٍ (غير صديق)، كليتوانيا، على أنّه عدوّ. كان في حوزتنا أنا وزوجي دروعًا واقية، ولدينا تصريح بالتصوير في المنطقة، ولكننا لم نكن نحمل نسخة مطبوعة، لأنك لا تعرف لمن ستبرزها، فقد تتعرض للإعدام رميًا بالرصاص إن وجده بعضهم في حوزتك. إنّها مقامرة تكلف المرء حياته! وإن وجدوا معك درعًا واقيًا فأنت تنقل إلى فئةٍ أُخرى. عندها ستكون صحافيًا جاء ليوثق جرائم الحرب! وبما أنّ سفرنا إلى ماريوبول كان لهدفٍ آخر، فقد رأينا من الحكمة إخفاء الدروع الواقية وتصاريح العمل أيضًا. لقد كنّا مدنيين بالفعل.
من الواضح أنّ زوجي قد تعرض لبعض الكسور، وقد أكدّت الاستنتاجات الأولية أنّ الكسور قد تكون سبب الوفاة. لا أستطيع تأكيد سبب الوفاة الآن. كانت هنالك أذيةُ كبيرة بالفعل، ولكني أرجح أن سبب الوفاة هو أنّهم قتلوه رميًا بالرصاص. نقلتُ الجثة من الخطوط الأمامية إلى مدينة دونيتسك الأقرب إلى المكان. أدركت على الفور أنّه عليّ أن أحافظ على جثة مانتاس لتكون دليلًا كافيًا لبدء التحقيق. كنت في منطقة غير منضبطة، وكان عليّ نقل الجثة إلى مكانٍ آخر.
أخذنا جثة مانتاس، ووضعناها في شاحنة نقل المصابين من الجنود. وبينما كان الجنود ينتظرون الأمر بالتحرك، أدركت أنني لا أمتلك نسخة عن الأوراق الثبوتية. اختلقت كذبة، وقلت للجنود أنني نسيت أوراقًا قيمة، عليّ إحضارها. منحت الإذن، فهرولت كي آخذ تلك الوثائق. تناولت حقيبة الظهر العائدة لمانتاس، وبعض الأشياء الاُخرى. قمت بإخفاء بعض الأقراص الصلبة في ملابسي الداخلية، وعدت مهرولةً إلى نقطة الانطلاق مع مانتاس والمواد.
كان فقدان زوجي حافزًا قويًا لإنهاء ما قتل في سبيل إنجازه، فبادرت إلى تسريع عمليات المونتاج بمشاركة مشكورة من دونيا سيجيفا، التي سبق أن قامت بمونتاج فيلم "ماريوبوليس 1"، وفيلم "بارفينونا". تلقينا دعوة من إدارة مهرجان "كان" السينمائي لعرض الفيلم في مهرجان 2022. بالطبع، ونظرًا لضيق الوقت المتاح، فقد كان قبولنا المشاركة مخاطرة كبيرة. لقد عملنا خمسة أسابيع من دون كلل، في سباقٍ مع الزمن، ونجحنا.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.