}

اللغة/ اللهجة المحكية في الأعمال الإبداعية التونسية.. الجدل المُعاد!

عيسى جابلي 23 يونيو 2022
هنا/الآن اللغة/ اللهجة المحكية في الأعمال الإبداعية التونسية.. الجدل المُعاد!
عبدالله الحريري، المغرب

 

 

شهدت تونس في السنوات الأخيرة صدور عديد المؤلفات المكتوبة باللهجة الدارجة، منها روايات ومجموعات قصصية وترجمات لأعمال عالمية وحتى تونسية تم نقلها إلى الدارجة، وقد وجد بعض هذه الأعمال إقبالًا من طرف كثير من القراء. ولكن ما يلفت الانتباه أن بعض هؤلاء الكتاب يعتبرون اللهجة المحكية لغة، ويدعون إلى اعتمادها لغة رسمية في كل مناحي الحياة بدلًا من العربية الفصحى.



والواقع أنّ هذا الجدل ليس جديدًا فعادة ما تطرح مسألة اللغة خصوصًا في صميم سؤال الهوية، والعلاقة باللغة العربية. لذلك يسلط هذا التقرير الضوء على اللهجات المحكية بناء على شهادات مبدعين ومبدعات ومختصين في الأدب واللغة، ليسأل عما إذا كانت اللهجة المحكية يمكن أن ترتقي إلى اعتبارها "لغة"، وعن سرّ إقبال كثير من القراء على روايات وكتب مترجمة.

آمنة الرميلي 



آمنة الرميلي (كاتبة وباحثة):

المهمّ المحافظة على شرط النص الإبداعي

الكتابة باللهجة المحكية أو بلغة اليومي.. هل هي إشكال؟

نبدأ بتوجيه الإجابة نحو "نعم": تاريخ الأدب العربي قديمه وحديثه منعقد على الكتابة بالفصحى، وذاكرة القراءة والكتابة عندنا هي ذاكرة فصيحة. والفصحى هي ميدان التنافس الفني الجمالي بين نصوص المدوّنة الأدبية بمختلف أجناسها وأجيالها وعصورها. من هنا تكون الفصحى هي لغة الإبداع الأدبي وأداة المبدعين "الشرعية" ليدخلوا مجال الأدب ويكتسبوا الاعتراف. وليست اللغة الفصحى هي فقط لغة المشترك الثقافي والعقائدي بين البلدان العربية، وداخل كلّ بلد على حدة، وإنّما هي لغة المدرسة الرسمية وعلامة الانتماء المعرفي في البلدان العربية. هي أداة التعلّم وبناء الإنسان، تجاورها طبعًا لغات أخرى داخل المدرسة كاللغات الأجنبية وداخل البيت كاللغة الدارجة.

وإلى حدّ اليوم فإنّ الكتابة بالفصحى هي التي تحكم فيما يبدو بين "الذين يعلمون والذين لا يعلمون"، ما دمنا نراقب بصرامة وشدّة وبلا هوادة قوانين اللغة الفصحى، ولا نسمح بالمساس بها، ونعتبر كلّ انزياح عن قوانينها، حتى وإن كان متعلّقًا برسم الحرف على بياض الورقة، أو على زرقة الحاسوب، نعتبره "خطأ" و"ضعفًا" و"إساءة" إلى اللغة. وهو ما نمتحن فيه التلاميذ وما نحكم به على مستوى مستعملي اللغة الفصحى أو لهم. ويبدو أنّ هذا هو منطق الأشياء إذ تفسد اللغة وتبدأ في الاضمحلال إذا ما فسدت قوانينها، أو تركت قوانينها إلى لغة أخرى تتصرّف فيها وتهضمها لصالحها وتتجدّد بها. وهي وضعية اللغة العربية الفصيحة وبناتها من اللّهجات المحلّية.

فإذا ما وجّهنا إبرة الجواب نحو "لا"، ليست الكتابة باللهجة الدارجة أو بلغة المحكيّ اليومي إشكالًا في تونس وفي غيرها من البلدان نقول في نوع من القياس التاريخي: كانت اللاتينية هي لغة أوروبّا الرسمية، لغة الكنيسة والعرش خاصة، وكانت الشعوب ترطن بلهجاتها المحلية، ولكن إلى أين قادهم التاريخ اللّساني؟ قادهم إلى أن أصبحت تلك اللهجات هي لغات الشعوب الأوروبية الرسمية واندثرت اللاتينية بمحض وضعيتها. ولئن كانت الوضعية ليست كأختها تمامًا، فإنّ تاريخ الألسنة كما تاريخ الشعوب متشابه ومتقاطع بدليل هذا العنفوان اللساني المحكي في كتاباتنا اليوم. الدارجة التونسية تخترق أجناسًا أدبية ما كنّا نظنّ أنّها تمسّها يومًا أو تنسرب إليها، مثل الرواية والسيرة الذاتية والترجمة وحتى شفويًّا فقد أصبحت نشرات الأخبار في القنوات الخاصة المسموعة والمرئيّة تقدّم بالدارجة..

هل يمثل هذا إشكالًا؟ لا نظنّ، لأنّ الإبداع قائم على الاختراق والانزياح والتحرّر. المهمّ المحافظة على شرط النص الإبداعي وهو الإمتاع والإدهاش والاستيعاب العقلي والعاطفي لحظة القراءة، وفي هذا فليتنافس المتنافسون بكلّ اللغات الممكنة! وإذا ما كنّا نرحّب أيّما ترحيب بمن يكتب باللغة الفرنسية أو الإنكليزية فلمَ نكشّر في وجه من يكتب باللهجة الدارجة؟

هند الزيادي



هند الزيادي (كاتبة): صدع وهمي!

الكتابة في هذا الموضوع كالمشي في حقل ملغوم ومكتظ بالأفكار المسبقة التي يمكنها أن تنفجر في وجه قائلها في أي وقت.

في البداية أعتقد أن الصدع الذي خلق بين الدارجة والفصحى هو صدع وهميّ اصطناعي من جناية يد البشر. وذلك راجع إلى عدة عوامل أهمّها التباس الديني بالدنيوي في حضارتنا وذوبانه فيه. فكل العلماء يعرّفون اللغة موضوعيًا بأنها نسق من الرموز والإشارات التي يستخدمها الإنسان بهدف التواصل مع غيره من البشر والتعبير عن نفسه واكتساب المعرفة. غير أن أمر اللغة عندنا مختلف فبرغم وجودها قبل الدين، وبالرغم من أنها كانت لغة السموأل في شعره وكانت لغة رجال الدين المسيحيين في المشرق في أديرتهم، قبل مجيء الإسلام نفسه، فقد وقع إكساؤها كساء قدسيًا لما كانت لغة القرآن وأسبغ عليها من سرمديته وتعاليه، فصارت هي نفسها متعالية سرمدية مقدّسة صالحة لكل زمان ومكان، وتوقفت عن كونها أداة زمنية بشرية متغيرة باطّراد تخدم التطور والنمو والتواصل وصارت جامدة مقدسة ذات جلالة.

والصواب في رأيي أنها دنيوية مرافقة للإنسان، وبالتالي متحركة متغيرة مثله تمامًا. ومن هنا فإن اللهجات التي تنبثق منها هنا وهناك لا تقل عنها أهمية ولا جدوى، وما من سبب علمي حقيقي يجعلها أهم أو أكثر وجاهة من الدارجة. لذلك لا أرى ضيرًا من الكتابة بها، ولا يجب أن يشعر أنصارها بالتهديد كلما خرج كتاب بالدارجة. فاللغة في جوهرها تحرر مستمر وسعي دؤوب نحو الحرية، فهل من المنطق أن تتحول إلى سجن؟

يقول زكي نجيب محمود: "من اللغة تبدأ ثورة التجديد، حيث اللغة هي الوسيلة التي لا وسيلة سواها لنشأة المعرفة الإنسانية وتكوينها وتطويرها أو جمودها في بعض الحالات". ومن هنا يمكن القول إنّ الدّارجة إذا وعينا حجمها ودورها يمكنها أن تكون بوابة لتطوير اللغة الفصحى وتطعيمها وتجديدها المستمر، لكن للأسف لا يبدو ذلك ممكنًا إذا ظللنا نراهما في علاقة صدامية، ولا وجود للواحدة منهما إلا بإقصاء الأخرى.

الحقيقة، من وجهة نظري، أن النقد الحقيقي يجب أن يُسائل أدبية النص الذي كتب وجماليته وشاعريته وعمقه بدل مساءلة الأداة التي كتب بها. التحدّي الحقيقي أن نكتب نصًا جميلًا بليغًا عميقًا بقطع النظر عن لغته. ففي الغرب نشأ فن "الراب" من تحويل المحكي اليومي إلى شعر. لأنّ الشفهي، أيضًا، له قدرة تعبيرية عالية، وله إيقاعاته، وله متعته التي يوفرها، الدارجة عند زنوج أميركا مثلًا كانت في مرحلة مبكرة من تاريخهم وسيلة مقاومة لسجن المستعبد الأبيض (فن ما يسمّى بالتوست Toast).

هكذا يمكن للدارجة أن تكون حمّالة إبداع شرط أن لا نقع في فخ الاستسهال الذي قد يوقعنا فيه عدم التمييز بين لغة الشارع بما هي لغة التواصل اليومية ولغة الأدب التي تختزن كلماتها معاني مختلفة عن معاني كلمات اللغة العادية، على حد تعبير الشاعرة الأفروأميركية ريتا دوف.

توفيق العلوي



توفيق العلوي (كاتب وباحث في علوم اللغة): رواج بديهيّ

العامّيّة هي قفا "الفصحى"، فاللغة الفصحى هي الوجه الذي تحفل به المعاجم والخطاب اللغويّ مهما يكن علميًّا أو إبداعيًّا أو غير ذلك، فهي الأمّ الرسميّة المركزيّة في حين أنّ العاميّة مصنّفة من الهامش و"اللامركز"، فهي البنت المتمرّدة على الأمّ بما تغيّره في ألفاظ هذه الأمّ على مستويات النطق والصياغة والمعاني، إضافة إلى ما فيها من مزيج اللغات الأجنبيّة بصفة يصبح معجم هذه العامّيّة جامعًا لعدّة لغات (فالعامّية التونسيّة مزيج من الفصحى "مغيّرةً في النطق"، والأمازيغيّة، والإيطاليّة، والفرنسيّة والتركيّة...)، وهي فسيفساء متطوّرة تستفيد من الواقع اللغويّ، وتتأثّر به في مجالاته الحيويّة الجديدة مثل الثقافة الرقميّة، ومستجدّات الحياة ومتطلّباتها بما تحتاجه فئة الشباب خصوصا من تعبيرات جديدة قد لا يجدونها في اللغة الأمّ.

واللافت للنظر أنّ هذه البنت كثيرًا ما ترجع جميل أمّها، فكثيرًا ما تثريها، إذ تزوّدها بكلمات جديدة لتصبح بعض مفرداتها في معاجم الفصحى، نجد هذا خصوصًا في اللغتين الإنكليزيّة والفرنسيّة، وكذا الأمر في بعض المعاجم العربية الحديثة وإن بصفة غير لافتة للنظر.

ووجب في هذا أن نذكر على سبيل المثال أنّ المسافة بين العاميّة التونسيّة مهما يكن موقعها الجغرافيّ واللغة الفصحى مسافة قصيرة، فهما متقاربتان تقارب القفا من الوجه، إذ نجد أنّ كثيرًا من الكلمات العامّيّة ذات أصول فصيحة مع تطوّر في المعاني يحكمه بداهة "قانون التطوّر اللغويّ".

أما رواج بعض المؤلّفات الإبداعيّة المكتوبة بالدارجة، وسرّ الإقبال عليها في بعض الأحيان، فأراه رواجًا بديهيًّا ولّدته أسباب عديدة مختلفة، منها ما تشهده الفصحى من تكلّس في بعض المجالات، فعلى المستوى التعليميّ مثلًا لا يرى التلميذ عمومًا نفسه في نصوص القراءة أو في قصائد لا تعبّر عن حياته وطموحاته أو في مؤلّفات إبداعيّة، من "البرامج الرسميّة" لا تواكب مستجدّات الحياة الحديثة في لغتها ومواضيعها.

نضيف إلى هذا ما يشعر به صاحب المستوى العلميّ المحدود – والنسبة في تونس مرتفعة جدّا- من هوّة سحيقة بينه وبين لغة فصحى لا يتقنها، فبديهيّ أن يقبل على المؤلّفات المكتوبة بالعاميّة التي يراها شبيهة به، وتعبّر عنه، فالمرء ميّال بطبعه إلى شبهه، متعايش مع توأمه، إذ سيكتشف أنّ الروايات المكتوبة بالعاميّة تضاهي عنده المسلسلات التلفزيّة مثلًا، ولا يعنيه في هذا الكتابة بالفصحى، أو إشكالات الكتابة بالعاميّة.

وبديهيّ أنّ هذا الرواج لاقى هوى عند الكاتب والقارئ والناشر، فالناشر انفتح له باب من ترويج الكتاب لم يتوقّعه، والكاتب في غنى عن مجهود تقتضيه الكتابة الإبداعيّة بالفصحى، فعمليّة الإنتاج "الإبداعيّ" قد تشهد تطوّرات يصعب التحكّم فيها بما يمكن أن يغيّر الذائقة العامّة بتغيّر نوع الكتابة من الفصحى إلى العامّيّة.

غير أنّ السؤال الجوهريّ هنا: هل الكاتب بالعاميّة مجبر على ذلك لعدم إتقانه الفصحى، أم هو خيار منه لأنّه عارف بالفصحى؟! لا شكّ أن الإجابة هنا محدّدة، وكذا السؤال نفسه بالنسبة إلى القارئ؟!

محمد عبد العظيم 



محمد عبد العظيم (باحث): خطر على وحدة المجتمع وانتمائه وتاريخه وتراثه

من المعلوم أنّ عالم اللسانيات دو سوسير اعتبر مكونات الظاهرة ثلاثة: اللغة واللسان والكلام، وهو رأي لم يعد محترمًا عند الكثيرين إذ اقتصروا على اثنين: اللغة والكلام فقط. فوقع عندنا الخلط واللبس. وإذا عدنا إلى الأصل العلمي نرى اللغة عامة تعني التعبير عن الحاجة عند الكائن عامة Langue وما ينطقه أي قوم هو اللسان Langage، فالعربية مثلًا "لسان العرب" وهكذا سمى ابن منظور معجمه. وما يعبر به الفرد كلامًا Parole. والدارجة هي طرق مختلفة في التعبير، إذن هي علميًا يمكن اعتبارها كلامًا لا لسانًا. هذا نظريًا، وهو غير محترم في الاستعمال السائد الآن.

وإذا نظرنا إلى الواقع نجد أن لكل الأمم ألسنة منها العربية والفرنسية والصينية... مثلُا، وهو الاستعمال الجامع الموحد ويسميه الأستاذ صلاح الدين الشريف أحيانًا "العامية المشتركة" وأخرى "اللسان الأول". وليس هناك لسان يستعمل عند عامة المتكلمين بنفس الشكل، وإنما يتفرع إلى لهجات، أي لكل أمة لسان يستعمل في لهجات، وهذا ظاهر في العربية والفرنسية وكل لغة أخرى، بل إن بعض الأمم لها لهجات متعددة ومختلفة، فحتى في تونس لا نستطيع أن نقول هناك لهجة تونسية واحدة، إذ تختلف اللهجات بحسب المواقع والجهات والمستويات... إلخ والفرنسية كذلك والإنكليزية لا تنطق بنفس الشكل في إنكلترا وأميركا بَلهَ المستعمرات كالهند مثلًا.. وفي الصين لهجات تعد بالآلاف، وفوقها لغة واحدة جامعة هي الصينية المعلومة، والدول الأفريقية فيها لكل قبيلة لهجة، لذلك اختار بعضها لغة المستعمر لغة وطنية توحدها.. والحاصل أن اللهجة عندنا لا تعد لغة، وإنما هي مجرد طرق في الكلام تعود في الغالب إلى اللسان الجامع أي "العربي".

أما انتشار الكتابات بالعامية فإن الظاهرة أصبحت فعلًا لافتة ومثيرة. وهي في الأصل ليست جديدة، وأثارت منذ وجدت مواقف مختلفة بين القبول والرفض حتى عندما استعملت في حوار الشخصيات في القصص والروايات، ويمكن العودة في ذلك إلى كتب النقد منذ عصر النهضة. أما الآن فكأن الأمر أصبح يُطرح بديلًا من اللسان وتدعمه مواقف لا أظنها بريئة واعتباطية لتزامنها وتشكلها في مؤسسات مثل الجمعيات. وأراها لا تنبني على أسس علمية، وإنما على مواقف واختيارات. وهي تشكل خطرًا على وحدة المجتمع وانتمائه وتاريخه وتراثه. أما عن تقبل الأمر وانتشاره فهو أولًا بفعل عملية الدعاية الإعلامية والمساندة السابقة. وقد دعمها ضعف المستوى الثقافي عندنا. فأظن أن المثقف لا يتيسر له قراءة نص بالدارجة كما هو الشأن بالفصحى، هذا ما أجده شخصيًا. 

 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.