}

"كان يا ما كان" في أفينيون

رشا عمران رشا عمران 12 أغسطس 2022
هنا/الآن "كان يا ما كان" في أفينيون
أفينيون، فرنسا


لوهلة سوف تشعر أنك في دمشق القديمة، أو حلب ربما، أو في شارع المعز في القاهرة، فالمدينة القديمة المحاطة بسور كبير له بوابات عدة مفتوحة على القسم الأحدث من المدينة وعلى الجسور الصغيرة المبنية فوق نهر الرون، تشبه كل المدن القديمة العريقة، حيث الشوارع الضيقة والأبنية قليلة الارتفاع، وحيث ستجد مباني أثرية: قلعة أو قصر كبير قديم أو معبد تعاقبت عليه ديانات مختلفة. غير أن اختلاف أفينيون عن شبيهاتها في الشرق يكمن في ثقافتها الفرنسية الأوروبية: مقاه وبارات ومطاعم الرصيف المنتشرة فيها بكثافة استثنائية، لكنها مع ذلك بالكاد تكاد تتسع للعدد المهول من ضيوف المدينة الذين يبدؤون بالقدوم إليها منذ بداية شهر تموز/يوليو وحتى نهايته، على امتداد أيام مهرجان أفينيون المسرحي، أعرق وأقدم مهرجانات المسرح وأكثرها شهرة وقيمة ومشاركة من كل أنحاء العالم.

أنا في أفينيون، هكذا قلت لنفسي حين وصلت رفقة فريق عرض "التي سكنت البيت قبلي". أفينيون التي يحلم بالعرض في مسارحها كل من وضع قدمه على خشبة المسرح، ويتباهى بمشاركته في مهرجانها كل من قدم ولو عرضًا صغيرًا في شارع من شوارعها. ثمة غبطة كنت أشعر بها لحظة وصولي، وفرط من الدهشة كما لو كنت طفلة تدخل مدينة ملاه لأول مرة. البشر في كل مكان داخل المدينة الصغيرة، ولامرأة مثلي تستمد طاقتها من وجودها بين البشر كان الأمر أشبه بالنعيم، يملؤون الشوارع والمقاهي والبارات والساحات والأرصفة والمحلات التجارية، يرقصون في الشوارع ويعزفون الموسيقى ويؤدون عروضا بالغة التنوع والتجريب، يقفون طوابير طويلة بانتظار الدخول إلى المسارح التي تقدم عروضها على مدار اليوم، يتحلقون حول عرض ما يحملون هواتفهم الذكية ويصورون ما يشاهدون، بشر من كل الأعمار والألوان والاعراق والأجناس. في أفينيون ستكتشف أنك تلقائيًا ستعيد النظر في مفهوم الجندر، ذلك أنه من الطبيعي جدًا أن ترى رجالًا يرتدون فساتين ملونة طويلة وقصيرة ومكشوفة، وينتعلون أحذية نسائية بكعوب عالية، ويضعون مكياجًا على وجوههم في إعلان صريح عن هوياتهم الجنسية الجديدة، دون أي خوف من التنمر أو من نظرات الاستغراب والرفض. هنا، في أفينيون، سترى أيضًا نساء محجبات، مبدعات عظيمات يشاركن في العروض المسرحية والإبداعية دون أن يشكل حجابهن عائقًا أمام أحد. في أفينيون سترى الحرية تمشي على ساقين، ستراها حقيقية، ستمسكها بين يديك بذهول كما لو كنت تمسك طفلة بالغة الجمال، ستراها ليس فقط في الحرية المطلقة للجسد البشري وخياراته، إنما أيضًا في تحويله إلى أداة طيّعة للإبداع بعد تعريته ذهنيًا من كل الأيديولوجيات التي تحدّ من حريته. ستدرك في أفينيون أن كل ما يتعلق بالجسد هو أمر ذهني: شكل الجسد، حجمه، أخطاؤه، لونه، هويته، سنه، شهواته. كل ما فيه يبدأ من العقل ومن منظومته الثقافية، ومن قدرته على الابتكار والتخيل وعلى نقل تصوراته إلى الآخرين.

كل هذه الأفكار في أفينيون كان يوقفها الحر الشديد، فالمدينة خلال شهر المهرجان شهدت واحدة من أعنف موجات الحر التي ينتجها الاحتباس الحراري الناشئ بفعل العشوائية في استخدام مولدات الطاقة حول العالم، وبفعل تجريف الغابات وتدمير الغطاء الأرضي الأخضر، واستخدام أنواع مختلفة من الأسلحة التي تؤثر سلبًا على التوازن البيئي. وهو ما نتج عنه فوضى في بعض العروض المبرمجة في الهواء الطلق، وفوضى في أماكن السكن المخصصة للمشاركين في البرنامج الرسمي للمهرجان. يخبرني صديق فرنسي أن أفينيون مرشحة لزيادة درجة حرارتها في الأعوام القليلة القادمة إلى معدل غير مسبوق ما يعني أن على إدارة المهرجان وضع خطط جديدة لأماكن العروض وأوقاتها، ومع حملات المناصرين للبيئة للحد من استخدام أجهزة التكييف يصبح شهر المهرجان عرضة للتغيير، فغالبية أماكن السكن في البلدة خالية من الأجهزة المبردة للهواء أو المحركة له، جميع المطاعم والبارات أيضًا، ما أظنه سوف يتحول إلى أزمة حقيقية في السنوات القادمة تستلزم حلًا جذريًا لا عشوائيًا كما حصل معنا هذا العام.

من شوارع أفينيون 



تحت عنوان (كان يا ما كان) استقطبت دورة أفينيون السادسة والسبعون 450 عرضًا ضمن عروضها الرسمية وما يزيد عن 1200 عرض خارج العروض الرسمية، تتوزع العروض على مدار اليوم بدءًا من الساعة العاشرة صباحًا وحتى الثانية عشرة ليلا، وسيصدف أن تتزامن عدة عروض في التوقيت نفسه، ما يجعل من الجمهور الكبير موزعًا بين المسارح والصالات وأماكن العرض، ما يجعله أيضًا مسرعًا ويهم دائمًا بالخروج كي لا يفوّت عليه العروض الأخرى التي حجز لحضورها مسبقًا (نادرًا ما يصدف أن تكون بطاقات عرض ما غير مباعة كلها). هذا يحبط إلى حد ما من توقعات المشاركين الذين ينتظرون بعض الاستحسان من الجمهور على ما قدموه، خصوصًا لمن هو في أول مشاركاته، مثلي، أما المعتادون على المشاركة فهم يعرفون كيف يتحايلون على هذا الإحباط وكيف يتعاملون معه. لكن قد يفاجئك البعض حين يوقفونك في الشارع أو في البار ويطلبون صورة معك بعد أن يخبروك عن استمتاعهم وتأثرهم بما شاهدوه وسمعوه. قد يكون هذا تعويضًا معقولًا، أليس كذلك؟

حضر العرب في عروض عدة هذه الدورة، أكثر من كل الدورات الماضية كما قيل لي، ربما لأن المخرج والممثل الفرنسي أوليفييه بي، مدير المهرجان، أراد أن يترك بصمة خاصة في آخر سنة له في إدارة المهرجان. معظم العروض العربية تتحدث عن حال العرب، عن الحرب والاحتلال واللجوء والفقر والوحدة والألم. عروض العرب كانت مثقلة بالحزن والقسوة، عروض سياسية بامتياز رغم عدم تطرقها للسياسة المباشرة. القسوة والإغراق في المحلية هو ما لم يعجب بعض المقالات الصحافية الخاصة بتغطية المهرجان. حتى تلك المقالات كان فيها الكثير من السياسة رغم عدم تطرق كتابها للسياسة. لكن هل من شيء ما يتعلق بالعالم العربي يمكنه النجاة من براثن السياسة؟ وفي تعميم أكثر: هل من فن حقيقي في عالمنا المعاصر دون خلفية سياسية ما؟ أكاد أجزم أن: لا.


أفينيون (Getty Images)

لا يمنح المهرجان فرصة للمشاركين لحضور عروض أخرى، سوى عرض واحد أو اثنين على الأكثر، فالمشاركون يصلون قبل يومين من بدء عروضهم يقضون معظمها في التدريب وفي أيام العروض تستنزف قواهم تمامًا، قبل وبعد، ومع الحر الشديد وقلة النوم بسببه، يصبح الأمر في غاية المشقة، ويغادرون في اليوم التالي لنهاية عروضهم، وإذا ما خطر لأحد البقاء أيامًا إضافية، فسوف يصدم بالارتفاع المهول لإيجارات الفنادق أو الشقق في المدينة، ما يجعله يلغي هذه الفكرة الطارئة والمجنونة ويغادر مكتفيًا بما حصل عليه.

أما السوري مثلي فتقدم له أفينيون فرصة لأن يصادف في أثناء سيره في الشوارع المزدحمة صديقًا سوريًا قديمًا لم يره منذ أكثر من ثلاث عشرة سنة ولم يعرف عن أحواله شيئًا ليكتشف أنه غادر سورية قبل أعوام واستقر في مدينة فرنسية باردة. أو أن يقابل صديقة سورية أليفة لم يقابلها سوى على وسائل التواصل سابقًا. أو أن يلمس بحنين نبتة خضراء يظن أنها نبتة (المريمية) التي يزرعها سكان قريته المتوسطية السورية عند عتبات البيوت، لكنه حين يبدأ بالعطس المتواصل ويشعر بالحكة في يده سوف يدرك أنه أخطأ، وأن للحنين ملمسًا واخزًا وحارقًا كمن يمسك نارًا في قبضته ليأكلها، وأن الفن وحده ما يحوّل تلك النار إلى ماء يخفف سخونة القلب.

 

مقالات اخرى للكاتب

يوميات
3 أبريل 2024
يوميات
26 فبراير 2024
يوميات
2 فبراير 2024

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.