قد يتعجب الكثير من الكتاب والزملاء إذا أكدت في السطور الأولى أن صالون الجزائر الدولي للكتاب (6- 16 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024) تظاهرة ناجحة ليس ببعض إيجابياتها فحسب، بل حتى بسلبياتها الكثيرة. كيف؟ نجح وفشل الصالون بنوعية بعض الدور الجزائرية والعربية والأجنبية القليلة، وطغيان الرواية وغياب الفكر بوجه عام، وإقبال جمهور كبير معظمه من الباحثين على الكتاب الديني، وتهافت فتيات متحجبات وغير متحجبات على كتب السحر والشعوذة والجريمة والفانتازيا، وندرة المبدعين الكبار، وبيع العسل وزيت الزيتون المزيّفين وكل أنواع الصابون والحلويات، ومستوى النقاشات الفكرية الحرة العالية المستوى في المطعم الخارجي، وتبادل صور "السيلفي" بين كتّاب ومعجبين ومعجبات كُثر.
صالون النجاح والفشل
كل هذه المعطيات والمظاهر والظواهر- ولا نقول الحقائق- تشكّل فرصة للمحلّلين الاجتماعيين والنفسانيين لتفكيكها والكشف عن تعابيرها المستعصية الفهم عند عامة الناس. كل ما تّمّ ذكره، يتركنا نقول إن الحكم على تظاهرة صالون الكتاب يبدو مرادفًا لدى البعض للسلبية القاتمة والقاتلة لأسباب مناقضة لإيجابية باعثة على الأمل، وليس الألم حتمًا لدى البعض الآخر، نتيجة إثارتها الأسئلة الواجب طرحها، حينما يتعلق بالإقبال الخرافي الذي عرفه السعودي أسامة المسلم صاحب كتب الفانتازيا والسحر والجن، في الوقت الذي بقي فيه العديد من الكتاب والكاتبات ينتظرون مكتئبين هذا الزائر أو تلك الزائرة للشعور بوجودهم.
خلافًا لمعارض الكتب في أوروبا ومنها فرنسا، يفترش الجمهور بكافة شرائحه الاجتماعية الأرض للقراءة مباشرة بعد شراء الكتب. ويصطف العشرات في طابور طويل للظفر بتوقيع كاتب أو فنان أو طباخ أو مصور أو مغامر يتسلق الجبال أو يغوص في أعماق البحار. وتزدحم أجنحة الكتب بجمهور مكوّن من الكتّاب وغيرهم من الشعب. خلافًا لذلك، يجلس الكتّاب العرب والزوار ساعات في مقاهي ومطاعم معارض الكتب حول ما لذّ وطاب من المأكولات والمشروبات تعويضًا عن واقع ثقافي يسطع بعزلة وتناحر وتشتت حاملي القلم على مدار السنة.
حسب صحيفة "الجزائر اليوم" التي استندت إلى تصريح وزيرة الثقافة خلال حفل اختتام الصالون، فإن أزيد من 4 ملايين ونصف المليون قد زاروا صالون كتاب الجزائر (أقل من مليون بالنسبة لصالون باريس)، فهل هذا العدد جاء حبًا في القراءة أو في التسّوق أو في التنفيس، وماذا اشترى من كتب؟ ولماذا تصدّرت الكتب الدينية المبيعات استنادًا لهندام أصبح مرجعية تقفز إلى العيون حسب التعبير الفرنسي؟ في رأي وزيرة الثقافة "العدد يؤكد ببساطة العلاقة العميقة بين الجزائريين والكتاب".
نقرأ لننتصر
تحت شعار "نقرأ لننتصر"، دشّن رئيس الوزراء نذير العرباوي الدورة السابعة والعشرين لصالون الكتاب بحضور وزيرة الثقافة، صورية مولوجي، ومحافظ الصالون، محمد إيقرب، ومسؤولين في الدولة.
دورة هذه السنة تزامنت مع الذكرى السبعين لاندلاع الثورة التحريرية، وعرفت - حسب البرنامج الرسمي الذي وزّع على مختلف وسائل الإعلام- مشاركة 1007 ناشر من 40 دولة من بينهم 290 ناشرًا جزائريًا عرضوا أزيد من 300 ألف عنوان. تصدّرت الدول العربية المشاركة التي لم يحدّد عددها شأنها شأن الدول الأجنبية دولة قطر، باعتبارها ضيف شرف الدورة الجديدة. ومن الدول العربية المشاركة نذكر تونس وموريتانيا والإمارات العربية المتحدة وسلطنة عمان ومصر ولبنان وسورية، وشكلّت البلدان الأخيرة مشاركة متراوحة النوعية رغم سيطرة الكتاب التجاري. دور قليلة، مثل العين واسكرايب والفارابي والمدى والمتوسط والنديم، لم تضمن حضورًا عربيًا قويًا رغم نوعية بعض كتبها الأدبية الطاغية والفكرية القليلة في غياب دور عربية أهم تكون قد فضّلت المشاركة في معرض الشارقة، وربما كان من بينها دارا الريس والجمل وأخرى أسوة بكتّاب عرب وجزائريين، ومن بينهم أحلام مستغانمي التي تغيّبت، وبومدين بلكبير الذي جاء إلى صالون الجزائر مباشرة من المطار عائدًا من الإمارات العربية المتحدة.
الجمهور الذي توافد بقوة خارقة على الصالون - ليس إلى الحد الذي يؤكد حتمًا صحة الرقم المقدّم رسميًا في غياب إحصاءات علمية تخضع لدراسة ميدانية-، كان حقيقة بادية للعيان وخاصة يوم الجمعة الذي تميزّ بتوافد الآلاف من المواطنين الذين جاؤوا من مختلف أنحاء الوطن الشاسع جغرافيًا.
النقل الذي تم توفيره هذه السنة بشكل لافت لنقل الزوار المنتمين لكافة الشرائح الاجتماعية بما فيها تلاميذ المدارس والطلبة، والسيارات الصغيرة والكبيرة التي كان على متنها عائلات كاملة؛ حقيقة تعكس ظاهريًا إقبالًا يجب دراسته من كافة الجوانب للوقوف علميًا عند ما يمثله ثقافيًا في علاقة مؤسسة وسليمة مع القراءة غير المنتشرة فعليًا في الحياة الجزائرية اليومية، حتى إن تعلق الأمر بأوساط المتعلمين. الجمهور الوحيد الذي لا يحتاج إلى دراسة متأنية، هو جمهور الكتاب الديني الذي أصبح رهان الكثير من دور النشر العربية، علاوة على جمهور الطلبة والتلاميذ الباحثين عن الكتب المفقودة في بلدهم، وجمهور المراهقات المتحجبات وغير المتحجبّات اللاتي يبحثن عن كتب السحر والشعوذة والفانتازيا والجريمة والحب الوردي.
الكاتب السعودي أسامة المسلم كان نجم الدورة السابعة والعشرين بدون منازع، ودخوله الصالون محاطًا برجال الشرطة على إيقاع صراخ معجباته، كما كان يحدث مع مايكل جاكسون، وشراء كتابه "خوف" الغالي الثمن (5000 دينار جزائري) كما يشترى الخبز الرخيص، خير دليل؛ حقيقة وقفنا عندها حيث أفجعت البعض وأرعبتهم، خلافًا لآخرين يؤمنون أن دراستها علميًا كواقع أمر أهم من شجبها والتعالي عنها كنوع أدبي مهما كانت بساطة كتابته التي لا تنقص من وجوده في تقدير آخرين.
إقبال على جناح قطر
كما كان متوقعًا، أقبل الجمهور بقوة خارقة على جناح قطر، ضيف الشرف والحليف الخليجي الحالي الأول لفلسطين المقاومة التي تباد في ظل عداء أخوة وطنيين وعلمانيين لإخوة آخرين بسبب إسلاميتهم "الإرهابية" كما يقول نتنياهو. العلاقة العضوية التي تربط شعبي البلدين في ظل تقاطع الموقف القطري مع المقاومة الفلسطينية التي تتحدى غربًا كاملًا يقف وراء الغطرسة الإسرائيلية، كانت السبب الطبيعي والموضوعي الذي ترك آلاف الجزائريين يبدون تعاطفهم مع بلد خليجي صغير أدهش العالم بتنظيمه المبهر لكأس العالم، على حدّ تعبير زائر لأحد مسؤولي الجناح القطري لحظة تجولنا عبره بصعوبة كبيرة. أما الجناح الفلسطيني فقد أبرز فيه مسؤولوه صورتي الراحل عرفات والحي الذي ما زال يرزق محمود عباس على حساب قادة حماس ويحي السنوار تحديدًا، على حدّ تعبير زائر جزائري آخر اشترى رواية الشهيد السنوار "الشوك والقرنفل" من جناح دار الدعوة أسوة بآلاف آخرين لدعم المقاومة الصامدة بخرافية أبهرت الغربيين الأحرار أكثر مما أبهرت العرب والمسلمين.
على إيقاع الأغاني الوطنية والثورية، اكتسبت دواوين الشاعر الفلسطيني محمود درويش صبغة روحية لا تتناقض في تقدير معظم الزوار مع راهن المقاومة، كما قال لنا زائر ثالث راح يلمس العلم الفلسطيني تيمنًا ببزوغ فجر استقلال فلسطين قبل أن يقّبله ابنه المراهق. كل الكتب التي عرضت في الجناح الفلسطيني، كانت ناطقة بتاريخ المقاومة الفلسطينية، وأضحت مكّملة للكتب التي جاءت بها دار سمير منصور ومن بينها كتاب "تاريخ غزة" الذي لم يتم عرضه بشكل وظيفي في إطار سينوغرافي مدروس إلا بعد أن نبّهنا الشاب اللطيف سامر إلى تدارك ذلك، وهذا ما تأكدنا منه بعد عودتنا في اليوم التالي. جناح دار الفارابي انفرد بعرض كتب نوعية عن فلسطين، فضلًا عن جناح المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات الذي تألق فيه المفكر عزمي بشارة بدون منازع بكتبه الفكرية البديعة التي يحسد عليها في زمن تراجع الفكر العربي بشكل مفجع.
قطر بين الإقبال والوقع غير المكتمل
كما أشرت إلى ذلك، كانت مشاركة قطر ناجحة شعبيًا، وعرفت كيف تحضر بقوة لافتة ليس لإرضاء مثقفين نخبويين بالضرورة. كان الرهان على التاريخ والتراث والفن الشعبي والفولكلور والمسرح والمخطوطات النادرة في جناح بديع ووظيفي رهانًا تكتيكيًا حقق الهدف المرجو منه بكل امتياز. لم يقف الجمهور بالعشرات بالقدر الطاغي لحظة تواجدنا أمام ركن الكتب الذي اختصر تجربة قطر في مجال الكتاب رغم أهمية بعض عناوينها التي جاء ذكرها على لسان الأستاذ أحمد عبد الملك.
الجمهور الجزائري وقف بنسائه ورجاله وأطفاله في شكل حلقة تعيدنا إلى أيام مجد مسرح الراحل الكبير عبد القادر علولة، صاحب مسرحية "الأجواد" الشهيرة التي نالت بها الجزائر الجائزة الكبرى في مهرجان قرطاج بتونس الشقيقة عام 1989. الفنانون القطريون عرفوا كيف يعزفون على وتر مسرح الحكواتي أو مسرح الحلقة بممثلين ماهرين في الإلقاء والارتجال الفنيين والمحاكاة التاريخية والتراثية، واستطاعوا قطع الطريق على الممرات المؤدية إلى أجنحة أخرى بعروضهم الاحتفالية الغارقة في تاريخ المجد الأدبي والعلمي العربي الغابر، والشيء نفسه يمكن قوله عن عرض مخطوطات الدار القطرية حول الفقه الإسلامي والسيرة النبوية والحكمة والمنطق.
تركيز قطر على الهوية التراثية والتاريخية التي تميّز هذا البلد الخليجي الصغير جغرافيًا، خطف ألباب جماهير اكتظ بها طوال أيام الصالون، وتسبّب في استياء بعض المثقفين الذين كانوا يفضّلون إعطاء أهمية أكبر للكتاب باعتباره روح التظاهرة، وهذا ما تناوله الأستاذ والناقد الأدبي عبد الحق شعلان في صفحته الفيسبوكية.
توضيحًا للموقف، حاورت "ضفة ثالثة" الأستاذ والإعلامي أحمد عبد الملك الذي أبرز خلفيات ومعالم ومرجعيات المقاربة القطرية التي لم تكن في تقديره على حساب الكتاب؛ "مشاركة قطر هي تأكيد جديد للعلاقة الأخوية التي تجمع الشعبين القطري والجزائري، وليس هناك ما ندّعيه من خصوصية كما جاء في سؤالكم. مشاركتنا تعكس صورة شاملة عن الهوية القطرية والمجهودات الكبيرة المبذولة للنهوض بالثقافة القطرية".
وعن سؤالنا له والذي تعلق بنقص الحيّز المخصص للكتب، ردّ الأستاذ عبد الملك قائلًا: "هذه ليست كل الكتب التي تعكس نهضة الكتاب في قطر، ونحن في زمن التواصل التكنولوجي الذي يسمح من خلال "كود بار" الاطلاع على كل أصنافها الصادرة عن وزارة الثقافة. هناك كتب هامة جدًا بشكلها الورقي، وعمليًا لا يمكن جلب كل الكتب".
من بين الكتب الهامة المعروضة في الجناح القطري، ذكر الأستاذ عبد الملك كتابه الذي يعالج ثمانين سنة من الأغنية القطرية، وكتاب الملحن الكبير الراحل عبد العزيز ناصر، وكتب عن البيئة القطرية بكل أشكالها وعن القلاع باعتبارها نموذجًا لتاريخ الحركة المعمارية الخليجية، ومنها أيضًا كتاب الفنان التشكيلي يوسف أحمد الذي نال جائزة الدولة، وكتب الأستاذ علي الفياض مدّون الشعر القطري، والشاعر القديم محمد عبد الوهاب الزيحاني والشاعر مبارك ناصيف والروائي نايف النهار إلى جانب كتاب كثر لا يمكن ذكرهم كلهم.
الجزائر انتصرت حتى بالسلبيات
قد يندهش بعض القراء، إذا قلت، أخيرًا، بأن صالون الكتاب يبقى إيجابيًا في جوهره لعدة أسباب. أوجزها في خليط من الإيجابيات والسلبيات التي تطرح أسئلة تخدم المسؤولين غير الأكفاء والمثقفين المتعالين على واقع فرض نفسه. المشاركة العربية والأجنبية كانت ضعيفة، والجزائر ظهرت صالحة بدور جادّة تطغى عليها الرواية الأيديولوجية، والتاريخ الذي لا يكشف عن حقائق يستحيل تناولها، وبغياب الفكر بشكل مفجع إلا في حالات يمثلها الدكتور لمين بن تومي وآخرون يعدون على الأصابع.
الفقرات الأدبية والفكرية كانت حاضرة بقوة نادرة (جناح البرزخ)، وقاعة المحاضرات الكبرى صنعت الحدث بندوة حول صناعة الكتاب تحت إشراف نقابة الناشرين بحضور مسؤولين رسميين لم تعجبهم مداخلة صحافي مهاجر يكفر بالادّعاءات والمغالطات والتعمية الشعبوية. الندوة الهامة بعنوان "إبادة في غزة" جذبت جمهورًا كبيرًا كان منتظرًا بحكم إيمان الشعب الجزائري بنضال الشعب الفلسطيني ظالمًا أو مظلومًا. الجناحان الإيطالي والفرنسي (المعهد الفرنسي) جذبا جمهورًا كبيرًا مثل أجنحة الدور المتخصصة في كتب الدين والشعوذة والجريمة والسحر.
وكانت هناك فضيحة نسب المبدع الكبير والناقد والأستاذ السعيد بوطاجين إلى المدينة التي ولد فيها (جيجل) وليس إلى وطنه الجزائر، مثله مثل الكاتب إبراهيم تزغارت (بجاية)، وهي حقيقة مأساوية اضطرت محافظ الصالون، السيد إيقرب، إلى الاعتذار لصاحب رواية "السادة الأنذال".
الأجنحة التي ليست لها علاقة بالكتاب كانت حاضرة بقوة سياسية غير مبررة، وجناح اتحاد الكتاب كان مهجورًا إلا من رئيسه يوسف شقرا الذي رأيناه جالسًا وحيدًا عند مرورنا أمامه. رائحة مجلدات صحيفة "الشعب" التاريخية، كانت بدورها يتيمة باستثناء رائحة الرطوبة الطالعة منها. المثقفون تنفسوا وقهقهوا وتحدثوا بحرية مطلقة في المطعم الذي نجح تجاريًا مثل كتب السحر والشعوذة، وغاب الكثير منهم في أجنحة الكتب الجادّة وغير الجادّة.