}

2024: في حصاد الثقافة العربية (2)

عماد الدين موسى عماد الدين موسى 10 يناير 2025
هنا/الآن 2024: في حصاد الثقافة العربية (2)
كان لحرب الإبادة على غزة أثر كبير بالحراك الثقافي
كان لحرب الإبادة على غزّة والجنوب اللبناني تحديدًا أثر كبير على الحراك الثقافي في العالم العربي في عام 2024، ثمّة أسى جليّ ترافقه بارقة أمل بغدٍ أفضل لدى الشارع الثقافي هنا أو هناك. فيما جاء سقوط الطاغية في دمشق ليختم مأساة شعبٍ طالما عانى من الظلم على مدى عقود من الزمن.
لكن ماذا قدّمتْ الثقافة خلال هذا العام، ماذا كان دور المثقف في كل ما جرى ويجري، سيما أنّه يمثّل صوت وضمير الجماهير وكذلك بوصفه مرآةً للمجتمع بكافة أطيافه وتوجهاته.
في هذا الحصاد السنوي نقرأ رؤى مختلفة لمجموعة من الكُتاب والمثقفين من معظم الدول العربيّة، حول المشهد الثقافي من أحداث ونشاطات على مدار السنة.
هنا القسم الثاني:

محمد أبو زيد (شاعر مصري):
الكتابة والذكاء الاصطناعي



لعل التحدي الأول أمام الثقافة خلال هذا العام، كان طريقة التعامل مع هذه التغيرات العالمية التي أحدثها التطور التكنولوجي، من ذكاء اصطناعي وانتشار كبير لمواقع التواصل الاجتماعي... وكيف تستطيع القراءة والكتابة أن تصمد أمام هذا التحدي، هل يمكنها أن تواكب هذا التطور أم لا؟
للمرة الأولى، نسمع عن أشخاص يقولون إنهم استخدموا الذكاء الاصطناعي في كتابة رواية، وهو ما يضع الإبداع المكتوب في المستقبل بشكل عام موضع تساؤل، حول مدى تدخل الذكاء الاصطناعي فيه، وإذا كانت الآلة ليس بإمكانها اليوم أن تكتب نصًا كاملًا، فهل يمكن استخدامها في المستقبل في كتابة هذا النص، هل ستتطور إمكانيات الذكاء الاصطناعي حتى تنافس البشر؟
وإذا كان هذا التحدي موجودًا على مستوى الكتابة، فالتحدي على مستوى القراءة كبير أيضًا، مع تغول مواقع التواصل الاجتماعي في مجتمعات الشباب والمراهقين، وإذا كانت أجيالنا والأجيال التي سبقتنا كانت تشغل وقت طفولتها ومراهقتها وشبابها في القراءة، فإن الأجيال الجديدة غارقة في "الريلز"، والفيديوهات التي لا تنتهي على منصات انستغرام وتيك توك وتويتر وفيسبوك وثريدز ويوتيوب وغيرها، وهو ما يبعدهم أكثر عن القراءة التي تحتاج إلى مجهود أكبر من الاسترخاء أمام فيديوهات تتوالى أمامه دون بذل أي مجهود.
لا شك في أن هذا أثر وسيؤثر على نسبة القراء، وعلى مستوى وعيهم أيضًا، وإن كنت أرى في هذا تحديًا للكتاب أنفسهم، وهو كيف سيقدمون محتوى مناسبًا وقريبا من هذه الأجيال ذات الانشغالات المختلفة.
هناك قفزة طبعا في منصات الكتب الإلكترونية والكتب المسموعة، والفيديوهات التي تقدم ملخصات للكتب، لكن هذا كله ـ وعلى مدى سنوات قليلة ـ سيغير شكل علاقة القارئ بالكتاب، بل ربما يتراجع الكتاب بشكله التقليدي المعروف، وتتراجع الثقافة بشكلها المتعارف عليه، لتكون لها أشكال أخرى. لا شك في أن على المثقفين مواكبة هذا التغير، لكن الإشكالية الحقيقية في الخفة التي تتعامل بها هذه التكنولوجيا بأشكالها المختلفة مع الثقافة، وأيضًا التسطيح الذي يتم تقديمها به.
من الأحداث الملفتة هذا العام، فوز الكاتبة الكورية الجنوبية هان كانغ بجائزة نوبل، وهو ما سمح بتسليط الضوء على أعمال هذه الكاتبة المهمة، وأيضًا الالتفات إلى الأدب الآسيوي، لا سيما مع صعود الثقافة الآسيوية، وقد لاحظنا أخيرًا التفافًا كبيرًا من الشباب حول مسلسلات كورية وأفلام كورية حصدت الأوسكار فضلًا عن انتشار قصص الأنيمي والمانجا اليابانية بين الشباب.

سعيد أوعبو (روائي وناقد مغربي):
الحياة الثقافية في الخليج



إنّ الناظر إلى الحياة الثقافية العربية، سيما في الخليج، يدرك حتما أنّ هناك حيزا وجوديّا آخر، وقلقا مغايرا في معنى الحياة، من خلال ما تضطلع به المؤسسة الثقافية، التي تذهب بعيدا في مسرى إنشاء اقتصاد إنسانيّ لا مادّي في جوهره، مراهن على التّنوير، عبر الإسهام في الإنتاج المعرفيّ، أو تشجيع المشاريع الثّقافية المستدامة على الأقل، في ظلّ هامشيّة المثقف النّسبيّة في بعض الأقطار العربيّة، خصوصا، في سياق اعتباريّ يجعل الثّقافة موضعَ الترفِ، بدعوى كونها شيئا زائدا من منظور الفكر الماديّ القائم على الرساميل، وبالتالي فإنّ الثقافة في الخليج تقوّض الفكرة، خصوصا مع قطر التي أضحت قبلة ثقافيّة مع المؤسسة العامة للحي الثقافي كتارا، وتزكيتها لثقافة الاعتراف من خلال إطلاق جائزة الدّوحة للكتاب، إلى جانب الإمارات التي ما تفتأ تشجّع الدعاية الثّقافيّة، وآخرها سكّ جائزة سرد الذّهب، ناهيك عن السعودية السائرة في سياق الزّيادة في منسوب الجوائز الثّقافية، عبر تخليق جائزة القلم الذهبي في دورتها الأولى، مع  تشجيعها للفعل القرائي، دون نسيان جوائز البحرين والكويت وعُمان المرجعيّة والمكرّسة عربيّا.
إنّ القلق الوجودي القرائيّ بدأ يتسرّب إلى المغرب، خصوصا مع مسابقة المشروع الوطني للقراءة، في شراكته مع مؤسسة البحث العلمي الإماراتيّة، للفئات العمريّة بمختلف المشارب والأبعاد، والمغرب بدأ يختط ّجوائز، خاصة جائزة الشباب في مجالات متعدّدة، في أفق تخليق نظيراتها في مستوى آخر من أشكال التّعريف بالثقافة السّرديّة والشّعرية، مماثلة في الطرح ومخالفة في التّصور والأهداف لجائزة المغرب للكتاب، التي حصّلها بالمناسبة برسم سنة 2024 كل من أحمد لمسيح في الشعر، وعبد الإله رابحي في الرّواية، وعبد الأحد السبتي والغالي أحرشاو بالمناصفة في العلوم الإنسانية، وأحمد الجرطي في الدّراسات الأدبية والفنية واللّغوية، وآلت جائزة الدّراسات في مجال الثقافة الأمازيغية لمحمد يعو، وحازها عبد السميع بنصابر والحسين بهوش بالمناصفة في أدب الطفل، ونسجّل أنّ المغاربة يحضرون بشكل قوي في الجوائز العربيّة أيضا، بتمثيل دائم، ونذكر في مجرى السّنة تتويج بوشعيب الساوري وياسين كني بجائزة كتارا، ومحمد آيت حنا إلى جانب الحسين بنو هاشم بجائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي القطريّتين، وبتمثيلية مشرّفة في مختلف الفروع الخاصة بجائزة الشيخ زايد الإماراتيّة ضمن اللائحة الطويلة، ونخص بالذكر سعيد العودي، حسن الطالب، محمد الجرطي، إبراهيم الكراوي، محمد بازي، عبد الرزّاق المصباحي، منير بورد.

هاتف جنابي (شاعر ومُترجم عراقي):
في صدمة التفاهة



ما هي أهم الأحداث الثقافية؟ سؤال يتكرر في الإعلام قبل نهاية كل عام، متناسين أن صناعة الأحداث هي من عمل بني البشر وأن الثقافة كلمة فضفاضة وشاملة، وأن ردود الفعل الجادة على ما هو جاد قد تتأخر مقارنة بحقول ثقافية تميل بطبيعتها إلى الإثارة والأضواء والاستعراض. إن حقولا من قبيل السينما والمهرجانات والعروض الفنية الموسيقية وحتى بعض المعارض الفنية التشكيلية جماهيرية بحكم طرق تقديمها، وهي تستأنس برفقة الأضواء والدعاية، التي دخل على خطها الأثرياء، ومحبو الإثارة. ولهذا فليس غريبا أن تتصدر لوحة "عادية" من الناحية الفنية، لأحد الرسامين الأحداث الثقافية في عام 2024. وسنتوقف عندها فقط.
ليس الأمر جديدا في عالم الفن، لكن قبل ذلك من الضروري أن يعرف القارئ أن الفنان الإيطالي ماوريتسيو كاتيلان (مواليد 1960) صاحب عمل "الكوميدي"، العمل الفني بشكل موزة، هو فنان متمكن بدون شك، لكنه يسلك طريق الإثارة والسخرية لترويج أفكاره الفنية من جهة، وبغية الشهرة والتأثير والكسب المادي كحاصل تحصيل من جهة أخرى. تذكر لنا سيرته الفنية أنه سبق أن فعل أشياء مشابهة. ففي عام 1989 في أول معرض شخصي له ترك على الباب في ختام العرض جملة: "سنعود قريبا"، وفي 2016 عرض عملا بعنوان "أميركا" وهو عبارة عن مرحاض مصنوع من الذهب الخالص، ومن المثير للجدل والسخرية أن المرحاض قد سرق عام 2019 من قصر بلاينهايم الريفي في إنكلترا، وهو المكان الذي ولد فيه ونستون تشرشل! وقد سبق أن أعلن الفنان اعتزاله عام 2011 في أعقاب معرضه الشخصي المقام في متحف سولومون غاغينهايم بنيويورك. وبهذا فهو يذكرنا بمن ينشر خبر موته وهو حيّ! وفي عام 2000 عرضت منحوتته "البابا يوحنا بولص الثاني" في متحف "زاخنتا" في وارسو، وقد تسببت هذه المنحوتة التي تصور شخصية البابا الراحل منطرحا بعد أن سحقه نيزك غضبا كبيرا في بولندا حيث ولد البابا وكنت شاهدا حيا على تلك الضجة. وصف ديفيد غالبرين، مدير قسم الفن المعاصر في مزاد سوثبي، عمله بأنه "عمل لمتمرد عبقري خالص". وأرجو ألا يظن البعض بأن كاتيلان هو أول مبتكر لهذا النهج. يعتقد بعض نقاد الفن بأنه تأثر بمن سبقوه من التصويريين والطليعيين في الفن من أمثال الفنان الفرنسي مارسيل دوشامب (1887-1968)، صاحب منحوتة "النافورة" (1917) وهي عبارة عن مبولة. ومثلما هجر دوشامب الفن ليكرس ما تبقى من حياته للعبة الشطرنج، أعلن ماوريتسيو اعتزاله كذلك، لكنه لم ينفذ وعده. ودوشامب كان ذا توجه دادائي وسوريالي وارتبط بالفن الطليعي والتصويري- المفاهيمي في عصره.
المثير في الأمر هو ليس توظيف الموزة الطازجة في عمل فني فحسب، بل في السعر الخيالي الذي بلغته في مزاد نيويورك وهو 6 ملايين و24 ألف دولار! وكل نسخة من نسخها الثلاث تحمل شهادة تؤكد أصليتها. اقتنى إحداها متحف غاغينهايم في نيويورك، والأخرى اشتراها الفنان النيويوركي ديفيد داتونا، الذي نظم هو الآخر حدثا أكل خلاله الموزة الملصقة بواسطة كاتيلان، وأطلق على فعلته عنوان "الفنان الجائع"، وقرر أن يأكلها كل أسبوع ويضع مكانها أخرى طازجة! ولم ينته مسلسل اللوحة عند هذا الحد، فقد تبين أن مقتني النسخة الثالثة والأخيرة هو الصيني جستن سن، جامع اللوحات والتحفيات ومؤسس منصة العملة المشفرة.
أما ماوريتسيو فاشترى هذه الموزة من أحد محلات المواد الغذائية بحوالي ثلاثين سنتا، وقام بربطها بشريط فضي لاصق. ومن أجل بلوغ الإثارة أوجهها قام الفنان بأكلها أمام أنظار المشاركين في المعرض، مفسرا فيما بعد بأن ما قام به هو جزء من العرض وليس عملا تخريبيا. والأكثر إثارة هو ما قاله مقتني اللوحة (سن): "ببساطة، هذا ليس عملا فنيا"! وإنما هو "ظاهرة ثقافية تجمع بين عوالم الفن والميمات ومجتمع العملات المشفرة"، و"إن هذا العمل سوف يلهم المزيد من التفكير والمناقشة ويصبح جزءا من التاريخ". بعد اقتناء العمل قام جستن سن بأكل الموزة التي كلفت ملايين الدولارات!.

إن عمل ماوريتسيو يعيدنا إلى جوهر العملية الإبداعية التي تعتمد على فكرة جديدة بسيطة وقد تكون مثيرة، وعلى كيفية تنفيذها فنيا، وعلى طريقة ترويجها بنجاح. وعادة ما يشترك "البيزنس" ووسائل الإعلام في الترويج والتسويق، ولا مجال للمقارنة بين ما يقوم به هذا الجانب بما تفعله معارض الفنون التشكيلية الشخصية المعهودة ذات النطاق المحدود. لقد خلقت هذه اللوحة بلبلة وإثارة لم يحظ بها أي فنان أو كاتب في 2024. حتى أنها غطت على أخبار أدبية وثقافية أهم منها. ما ينبغي الالتفات إليه هو أن الثقافة تلعب دورا كبيرا في حياة المجتمعات المتمدنة، وكأنها الطرف الأكثر وثوقا وجدارة للوقوف بوجه ما تخلقه السياسة من تسطيح وفرقة وقرف في الحياة العامة.

فدوى الزياني (شاعرة مغربيّة):
القتل والحروب والانتهاكات



بنفس المرارة التي خلفها عام 2023  نُودِّع  العام الفائت، بنفس الخيبات والخِذلان الذي نعيشُه، ما زال ساريًّا توحُّش القتل والحروب الدمويّة والانتهاكات الدولية في حقِّ الشّعوب المستضعفة، لم يتجدّد القتل في شيء وما زال القتلة بارعين في استيلاد حجج جديدة للظُّلم والاستبداد، ما زال الفقر والجهل  يدفع بالشباب إلى الهروب وركوب قوارب الموت، لم يتغيَّر شيء غير أنَّنا أصبحنا مدجنين ومستهلكين بوعيٍ مستضعف يرزح تحت أقدام وحوش الاقتصاد وتكنولوجيا الإلهاء عبر المواقع الإلكترونية والغسل المتطور للأدمغة والقتل الممنهج للوعي والإبداع.
طُعن "هنيّة" في ظهره، وقتل "السنوار"، واغتيل "حسن نصر الله"، وفرَّ "بشار" تاركا وراءه الآلاف من قصص السجون الفظيعة والقاصمة لظهر كل أمل، غزة غُصَّة في القلب، وسورية غُصَّة واليمن غُصَّة والسودان وجع نستحي من صمتنا أمام فواجع ما يحدث فيه.
في ظلِّ كل هذه الأحداث الكاسرة فكرة القراءة للأسف لم تكن حاضرة تمامًا خلال هذه السنة لكنها كانت المنفذ الصغير إلى الضوء، والقليل الذي قرأته ترك الأثر النبيل وبعض الشغف الذي تعيدك القراءة إلى عوالمه.
من ضمن قراءاتي القليلة إعادة قراءة لرواية من جزأين "لا تخبري ماما" و"تركوا بابا يعود" وهي سيرة ذاتية للكاتبة البريطانية توني ماغواير.
من المؤلم أن تخرج من كتاب بصدمات متعدّدة وتساؤلات حول حقيقة العلاقات المثالية والتي نظن أنها الأكثر تقديسا على الاطلاق، أن يخذلك الآخرون يجعل منك إنسانا صلبًا لكن أن يخذلك أبوك ثم أمك بالتأكيد ستخرج كائنا خرِبًا ولا قدرة له على المواصلة، لكن الكاتبة هنا لم تفعل وخرجت من جحيم الاعتداء الجنسي وظلم المجتمع ورعب المرض النَّفسي قويّة ناجحة في عملها، في الواقع اكتشفت أننا لا زلنا نعايش هذا الواقع البدائي في ظلم المرأة وقهرها واعتبارها شخصا أقل شأنا من الرجل ليس فقط في مجتمعاتنا العربية بل في المجتمعات الغربية أيضا، إعادة قراءة الرواية في هذا الوقت بالذات قد يكون نوعا من التَّعذيب النفسي للذات ورد فعل ضِدَّ الألم والغضب والقلق الذي نعيشه.
من أبرز ما قرأت أيضا رواية قصيرة للكاتب المصري يوسف رخا، قد تبدو الرواية شِعريّة في تناولها للموت والغناء ويظهر ذلك في وجود الغناء بجانب الشِّعر في الرواية حيث تصادف خلال السَّرد يوسف رخا الشاعر في أكثر من مشهد. يوسف رخا جسَّد عوالمه وهواجسه في سرد مذهل سلس ومتشعِّب وهذا وحده كاف لتحفيز العلاقة الذهنية مع القارئ.
كتاب شعري للشاعر التونسيّ رضوان العجرودي كان له أيضا الأفضلية في القراءات، رأس الشاعر الذي يطل بين عالمين أو نافذتين حيث  يتحوّل من طبيعته إلى طبائع أخرى محاولا النجاة من خرابه العاطفي.
العجرودي كان بارعا في خدعة اللون وصناعته وعجنه بخلطة الكلمات، الشَّاعر كان فنَّانًا وكان الفنَّانُ شاعرًا، استطاع أن يكشف لنا بالأبيض والأسود الكثير، التحوُّل والتَّنقل بين عالمين أنتج ألوانا أخرى، ألوانًا غرائبية ساعدها الحامض المشهدي أن تكون بورتريهات ونصوصًا عالية جدا في الأداء والصُّوّر.
الكتابة هي محاولتنا الماكرة في القفز على هذا العالم ومواجهته ودفع مخاوفه والقلق منه إلى الخارج بقلق أعظم وأشدُّ ألمًا وموتًا محاولين الانخراط من جديد في الحياة.

شيرين ماهر (كاتبة وصحافيّة من مصر): 
الحالمون يلوذون بالأدب



ربما قُدِر لنا أن نحيا على أمل أن نشهد انفراجه تنقلنا إلى الضفة الأخرى من الحياة المشحونة بالعنف والدمار والموت، بينما تخيب آمالنا وتتصاعد وتيرة العنف من حولنا حتى بات العالم ساحة حرب مفتوحة تُنذِر كل لحظة بمزيد من الاقتتال. لقد راح الحالمون يلوذون بالأدب وبالخيال وبأقلامهم ويُطلِقون سراح أصواتهم المكبوتة على الأوراق، ربما وجدوا من يصغي إليهم... ومن بين أوقع الأصوات التي دوّت هذا العام من خلف قُضبان المعتقلات صوت الكاتب الفلسطيني الأسير في سجون الاحتلال لقرابة عشرين عامًا باسم خندقجي، الفائز بجائزة البوكر العالمية للرواية العربية لعام 2024 عن روايته "قناع بلون السماء". وكان لروايته نصيب من اسمها، والتي تناجي السماء من خلف القضبان في عام يشبه في مرارته عام النكبة، إذ تثير الرواية، بذكاء لافت، الجدل المحتدم حول صراع الهويات المَطمُورة والسرديات المُهمشة والتاريخ المُنكفئ وتنبش جراحات أعوام ذبُلَت في انتظار عودة الحقوق. تدور الرواية حول "نور"، عالِم آثار فلسطيني يقيم في مخيم رام الله، وإذا به يجد هوية زرقاء في معطف قديم لمواطن إسرائيلي يُدعى "أور". يرتدي "نور" معطف المُحتَل في محاولة فهم واكتشاف العقلية الصهيونية. وخلال رحلة تحوله المؤقت من "نور" إلى "أور" أثناء انضمامه إلى بعثة تنقيب بإحدى المستوطنات، تتجلى فلسطين الدفينة تحت التراب وتتكشَف معها المسافة الطاعنة بين "نور" و"أور".
استوقفتني أيضًا رواية الكاتبة الكورية الجنوبية هان كانغ الصادرة في نسختها الألمانية في نهايات هذا العام بعنوان "الوداع المستحيل"، إذ تتمتع الأديبة والشاعرة كانغ بخصائص مكنتها من خلق إحالات جعلت أعمالها بمنزلة حافظة للتاريخ، إذ توثق روايتها الصادرة حديثًا مأساة مذبحة "جيجو"، وهي أحد الفصول المروعة في تاريخ بلادها التي تسببت في موت 30 ألف شخص بأبشع الطرق، ما بين رجال ونساء وأطفال وأسفرت عن تدمير نحو 300 قرية. تحاول كانغ في رواية "الوداع المستحيل" أن تبعَث أصوات المُوتى وتعيد أشباح الماضي، كي لا تصبح مأساتهم مجرد قصاصة ممزقة لا يتذكرها أحد. إنها تُخلِد ذكرى الضحايا السابقين ولكن من خلال الإسقاط على الحاضر، وتقرع ناقوس الزمن ذهابًا وإيابًا، كي لا يَسقُط المزيد من الموتى وسط فوضى العنف. ورغم حصولها على جائزة نوبل للأدب عن مجمل أعمالها النثرية لعام 2024، رفضت كانغ عقد مؤتمر صحافي للاحتفال بفوزها، نظرًا للمآسي التي يشهدها العالم جراء الحروب.
من الفعاليات الثقافية الأبرز هذا العام، مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في نسخته الـ 45 الذي تميز بتنظيم جيد وحضور كثيف وتضامُن ملحوظ مع القضية الفلسطينية، كما احتفى المهرجان بالسينما الفلسطينية، التي لاقت تفاعلًا كبيرًا من الحضور، وجرى إطلاق مسابقة للأفلام الفلسطينية لأول مرة، بالإضافة لبرنامج خاص بأفلام غزة. 
وهناك أيضًا معرض فرانكفورت الدولي للكتاب الذي انعقد هذا العام خلال الفترة من 16 إلى 20 أكتوبر تحت شعار (Read. Reflect. Relate) بحضور نخبة من الشخصيات الثقافية البارزة في جميع أنحاء العالم. وهو بمنزلة أبرز التظاهرات الثقافية العالمية ومنتدى للقاء آلاف المثقفين والكُتاب لمناقشة العديد من القضايا الثقافية والسياسية الساخنة. بالطبع لم تخلُ فعالياته في تجسير خلافات السياسة، في بعض الأحيان، من وقوع بعض الاحتجاجات أيضًا كل عام، مما يجعله من الأحداث الثقافية الهامة لتسليط الضوء على القضايا الجدلية الهامة التي يمكن أن يكون للأدب والثقافة دور فاعل فيها سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.

موفق الحجار (شاعر وباحث سوري يقيم في الدوحة):
النهايات السعيدة



لم يكن هذا العام سوى صدى لأعوام سابقة لو لم يصبح عام الأعوام في اللحظة الأخيرة، وقد فتح أبواب الدروب المقبلة وأغلق أبوابًا مهترئة في المنطقة وسورية، وللسوريين والعدالة. وعلى الرغم من المجزرة الغزّية المستمرة وتَسمُّرنا أمام الشاشات المقسومة، وانعدام القدرة على النطق والحياة، بدا هذا العام في لحظات متفرقة عامًا للنهايات السعيدة. وأستعير هنا من أحمد ناجي مفارقته اللغوية في عنوان روايته "النهايات السعيدة" التي قرأتها هذا العام وحسبتها فريسةً واعدة لعشاق الدراسات الثقافية وصيادي المياه البلاستيكية المليئة بالطحالب البلديّة. وهي رواية قصيرة لأسئلة طويلة، يختبئ فيها الأدبيّ في اللاأدبيّ وتستعيد لحظات هوياتية متفرقة من عالمنا العربي، في نهاية "متعة-وية" سعيدة، تختبئ داخلها طاقة هائلة من النهايات التعيسة. وكأنها نهاية العام ذاتها.  
البدايات الكامنة في النهايات، هذه اللحظات التي أعيشها اليوم مع السوريين الذين ساروا في الأرض كأحاجٍ للدول المستضيفة التي تحاول فهم مأساتنا. وقد أردتُ هذا العام أن أفكر في الكتابة السورية، فقرأت خالد خليفة في "دفتر العزلة والكتابة" والذي يبدو فيه نسرًا وحيدًا في معركة ضارية مع أشباح الكتابة، إذ يلعب بحريّة، ويتحدث عن تدريب الخيال، والكتابة اليومية لساعات طويلة، مع الخيال كحذاء مثقوب نمشي فيه وعلينا أن "نداريه" كي يعيش أطول وقت ممكن. ولم تكن الكتابة "سوريّة" إن لم تستحضر السلطة. ولهذا يستحضر خالد السلطة بأشكالها الحكومية، والاجتماعية والدينية والمعرفية. لكنّه كذلك يحتفي بالهشاشة، ويحتفي بالخيال وبالذاكرة، ويؤكد أهمية العمل من خلال النسيان ويشير إلى الكتابة بالنسيان لا بالذاكرة. وقد حاولت أن أتدرب على النسيان طويلًا وأخذت وقتي قبل أن أكتب عن دمشق كي أنساها إلى أن أصدرت هذا العام مجموعتي الشعرية الثانية "مدينة مدينة، حفرة في رأس" لكي أبني مدينة من ورق النسيان أتمشى فيها متى شئت.  
استكمالًا للكتابة السورية قرأت "الآن بدأت حياتي" لسومر شحادة، قصة سورية تشبه جميع قصصنا (متخمة بالموت) تأتي من داخل اللاذقية وبحساسية درامية لخريطتها وشوارع محسوسة مرصوفة بالكلمات والمجاز. وقد كانت رواية عن الانتظار داخل سورية، والخوف من المغادرة؛ "من يخرج لا يعود، فالعودة تعني الموت". وعن الزمن الذي "يفتت صلات البشر" وعن "وعي الفناء" الذي نشأ بين السوريين. الوعي الذي يعني تقبل النهايات الصادمة، أو النهايات المفاجئة.
بعيدًا عن النهايات الأيديولوجية تأتي الكتابة السورية عند الشاعر والقاص حسّان الجودي في مجموعته القصصية "قصص بحجم باي" من الأدب المستقبلي (Futuristic)، مازجةً بين الواقعية السحرية والخيال العلميّ، بأدوات أصيلة ولغة سلسة مع روح ساخرة وكوميديا غريبة تجعلك تضحك، تقهقه، بشكل هستيري، لأنها تستثير نقاط ضعفك، وتحاكي خيالك الممزوج بالعلم والأدب والوطن.
وفي هذه اللحظة الحاسمة من تاريخ سورية المعاصر، أعود للكتاب الذي قرأته هذا العام مصادفةً لأنسخ عنه مقولة "علينا إعادة اختراع سورية" للمفكر السوري عزيز العظمة وكتابه "سورية والصعود الأصولي" الذي يحاوره فيه حمّود حمّود، ليخبرنا عن سورية التي يحلم بها والتي لا يصفها دين ولا نحلة ولا طائفة. بعد حوار كثيف عن الأصولية الدينية، والثقافة ودورها، والطائفية السورية ومواضيع أخرى تبدو كما لو كانت مواضيع حساسة وضرورية وخصوصًا مع عام كهذا للنهايات السعيدة، والبدايات المضطربة.

محمد جدي حسن (كاتب تشادي):
جائزة التميّز



عام 2024 كانت سنة جيدة على الصعيد الشخصي. ففيها سافرت إلى مصر وكانت أول بلاد عربية أزورها رغم أنني درست بالعربية وبها نشرت ثلاث روايات! في القاهرة حضرت مهرجان القاهرة الأدبي في أإبريل. كانت فعالية ثرية جدا حضرها كتاب كبار مثل صنع الله إبراهيم، ونبي الحكاية الفلسطينية إبراهيم نصر الله، وصاحب رواية " قاهرة اليوم الضائع" الكاتب إبراهيم عبد المجيد، والعديد من الكتاب المصريين والعرب وكاتب من البرازيل وآخر من جورجيا وكاتبة من هولندا. كانت أول فعالية أحضرها خارج بلادي وبدت لي ممتعة استمعت فيها إلى كتاب كبار وتخللت المحاضرات ورش تدريبية وأعمال فنية أخرى. كما وفزت بالجائزة الكبرى للتميز في الأدب في بلادي.
أما قراءاتي في هذه السنة فسوف أتحدث عن الكتب التي أدهشتني والتي سأعيد قراءتها مرة أخرى. قرأت "نشيج الدودوك"، وهي سيرة ذاتية للروائي الأردني جلال برجس. أعدت قراءة "موسم الهجرة إلى الشمال" و"الحب في زمن الكوليرا". كما قرأت بدهشة رواية "العراك في جهنّم" للروائي البوكري الليبي محمد النعاس. وهي رواية صغيرة الحجم ممتعة وساخرة. في البداية ظننت أنها حكاية تدور في العالم الآخر لكني وأثناء القراءة اكتشفت أن جهنم هي قرية ليبية وأن الرواية تقف على أحداث سياسية مهمة في ليبيا بطريقة ساخرة تجعلك تظن أنها معركة بين سكان قرية إلا أنك تكتشف أن الكاتب وعبر قرية ليبية وقائدين "جنديين" يقدم لنا الصراع الليبي بأكمله وبالتحديد ما حدث بعد استيلاء القذافي على السلطة في ليبيا.
وهناك رواية "بياض على مد البصر" للروائي المصري محمد عبد الرزاق. هي رواية اعتمدت على جريمة لتكشف لنا عن مشاكل اجتماعية في قرية مصرية للوقوف على التشظي الذي يصاحب الأفراد في هذا العصر وما تعانيه الأسر من تناقض بين الفكر وطريقة الحياة. فالتغييرات في بداية الألفية كانت سريعة. إذ نقلت الملايين من حياة إلى أخرى فيزيقيا ألا أن الأفكار لم تتحرك بذات السرعة. الأمر الذي نتج عنه تفكك للأسرة. الرواية تقف على مفهوم الفضيحة لتتعالج مفاهيم كثيرة نعاني منها في دول الجنوب. سرد جذاب وشخصيات شكلت بعمق واستخدام لتقنيات شيقة. وفي ختام السنة قرأت مجموعة قصصية رائعة لآية طنطاوي بعنوان "احتمالات لا نهائية".

حاتم الصكر (ناقد وأكاديمي عراقي): 
سياحة حرّة...



في مثل هذه الاستفتاءات يطل شبح ذو ظلال حزينة، مؤطرة بنهاية عام بقضّه وقضيضه، وخسائره الفادحة ونجاحاته الشحيحة. هامش الخيارات ضيق للغاية. فإما العودة إلى خزين ذاكرتك المحتشدة والمعطوبة بالنسيان وآليات التناسي.
وإما أن تذهب إلى مكتبتك ورفوفها الشحيحة بحكم منتبذك البعيد والبخيل بالكتاب أو المطبوع العربي. أو تراجع ما تمت أرشفته وتناقله الناشرون والإعلاميون.
لكنْ لا بد من سياحة حرة لتكون مراجعة مجريات عام 2024 ذاتية لا تلزم سواي؛ لأنها من نثار القراءة والوقائع الثقافية.
رحل كثير من الكتاب والفنانين هذا العام. وجرد أسمائهم لن يفي الجميع ذكراهم. شوقي أبي شقرا واحد من عرابي مجلة شعر ومشروعها ومجلتها وخميسها. والياس خوري الذي فتح أفقًا للرواية بعمله (باب الشمس). فقدنا رشاد أبو شاور ومحمد إبراهيم  أبو سنة وزاهر الغافري وحسن عبد الوارث وشوكت الربيعي وقيس الزبيدي. وباسم عبد الحميد حمودي الناقد المخضرم والباحث في التراث الشعبي. والأديب الكويتي محمد الشارخ موثق المجلات الأدبية العربية في موقع الشارخ الإلكتروني.
عالميًا استوقفني رحيل اسماعيل كاداريه. والنوبلية الكندية أليس مونرو المعتكفة على كتابة القصة القصيرة.
في حصاد الكتب تابعت رواية (صيف سويسري) لإنعام كجه جي، و(مديح علبة الألوان) للشاعر طالب عبد العزيز، وديوان (الأخضر واليابس) للشاعرة منى كريم، والطبعة الجديدة من ديوان (اليد تكتشف) للشاعر عبد الزهرة زكي متضمنة تخطيطات للفنان الراحل شاكر حسن آل سعيد على نسخة من الطبعة الأولى. ورواية الكاتب اليمني أحمد زين (رماية ليلية)، مرة ثالثة يتعمق في الشأن اليمني مستقصيًا خلفيات السياسيين في حياتهم اليومية، و(ألواح- أسرار الطين) للشاعرة دنيا ميخائيل محاكية الرقيم العراقي القديم وبتخطيطات من وحي القصائد. و(غيم على سرير) مختارات للشاعر عبد الرزاق الربيعي أنجزها عماد جبار بتقديم د. سعد التميمي، و(يغتسل النثر بنهره) للشاعر شربل داغر المخصص للميتا شعري تحديدًا.
و(يوتوبيا بحجم الكف) للشاعر زيرفان أوسي الذي يهديه (إلى النساء الأيزيديات الأسيرات). وكتاب د. علي بوجديدي (الجسد الغروتاسكي في الأدب العرب القديم)، و(الأعمال الكاملة) للشاعر الراحل كمال سبتي المتوفى في هولندا عام 2006. ودراسة صبحي حديدي (مستقر محمود درويش). وعن جحيم الإبادة العلنية في غزة، كتاب (لي يدان لأكتب) بتحرير الشاعر موسى حوامدة متضمنًا شهادات لكتاب من  قلب االمجزرة. وكتاب (قصيدة النثر- رؤى نقدية) لعدة كتاب إصدار دار مسارب أدبية وجماعة مجانين قصيدة لنثر. و(نوافذ على الآخر- حوارات في الفكر والأدب) لأزراج عمر.
عبدالله الغذامي  بحملته (الثقافية) الظالمة على شعر المتنبي بشذرات وتويتات وتوريقات وخواطر بعنوان (اللابس المتلبس- من أوراق أبي الطيب المتنبي). وفي الفعاليات والأنشطة لفتني عمل (الموزة) الذي يعكس ضحالة وسطحية فنون ما بعد الحداثة المستهينة بعقل المتلقي.
وفوز الفنان ضياء العزاوي بجائزة نوابغ العرب. والشاعر الفلسطيني نجوان درويش بالجائزة الكبرى للشعر الأجنبي بباريس عن مختارات ترجمها للفرنسية عبد اللطيف اللعبي. وهان كانغ الكورية بنوبل الآداب. ومسلسل (مائة عام من العزلة) عن رواية ماركيز. ومؤتمر الشعر العربي اليوم في أشبيلية، ومهرجان المربد المميز في دورة عام 2024. ومعارض الكتاب العربي في عواصم مختلفة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.