}

نظام الأسدين ومفاعيل سياسة الرعب والترهيب

سمر شمة 9 يناير 2025
هنا/الآن نظام الأسدين ومفاعيل سياسة الرعب والترهيب
(Getty)

"الحيطان لها آذان" مثل شعبي كان السوريون يرددونه باستمرار منذ أكثر من خمسة عقود عاشوها تحت قمع ووحشية نظام وأجهزة أمنية دموية، هي أشبه بمحاكم التفتيش في القرون الوسطى، وتحت سطوة حكم عسكري شمولي سلّط سيفه على رقاب الجميع بدون استثناء، حيث القوانين والتشريعات المقِيدة للحريات، والأعداد الكبيرة من الأجهزة الأمنية والسجون المروّعة، والتي حلّت محل التنظيمات المدنية المجتمعية والأهلية، وجعلت المجتمع برمّته يفقد فعاليته وقدرته على النهوض، وتوجّت الفساد سلطة منفلتة من عقالها تستبيح القطاعات كافة والسوريين في الداخل والخارج إن استطاعت إلى ذلك سبيلًا.

عاش السوريون منذ أكثر من أربعة وخمسين عامًا إرهاب الدولة السياسي والاجتماعي والاقتصادي والذي قضى على المؤسسات الإعلامية والثقافية والفكرية والإنتاجية ومؤسسات العمل الوطني والأهلي، وحوّل البلاد إلى معتقل كبير لا كرامة لأحد فيه، وحاصر الشعب السوري بسياسة الرعب والخوف والبطش من خلال عمليات الاعتقال التعسفي والاختطاف والاختفاء القسري والتعذيب الوحشي والقتل العشوائي الفردي والجماعي، إضافة إلى الاغتيالات والتهديد بلقمة العيش واتخاذ العائلة والأهل والأبناء رهائن إلى أجل غير مسمى، والتسريح التعسفي من العمل والاضطهاد.

رسّخ نظام الأسد الأب منذ بداية استيلائه على السلطة بانقلاب عسكري سماه "الحركة التصحيحية" سياسة الرعب والاستبداد في عموم سورية، وهذا ما جعل الشعب السوري ممنوعًا من الاحتجاجات والاعتراض على مظاهر الفساد التي تفشت في كل مفاصل الدولة والتي تحولت مع مرور الزمن واستيلاء الأسد الابن على الحكم - كوريث لا بديل عنه- إلى عصابات ومافيات يقودها رأس النظام وعائلته ومن لف لفهم.

حوّل هذا النظام أجهزته القمعية الأمنية والعسكرية والبعثية إلى سيف من حديد ونار مسلط على المواطنين لترسيخ الهيمنة على المجتمع في الذهنية الجماعية، وأسس شبكة معقدة ومحكمة من أجهزة صناعة الخوف والموت، سيطرت على كل شيء ونشرت الرعب في المدن والقرى السورية.

اتبّع النظام السوري البائد منذ تولي حزب البعث مقاليد السلطة عام 1963 سياسة الاضطهاد والإرهاب ورسخها منذ ذلك الحين إلى يوم سقوط بشار الأسد وهروبه من سورية تحت جنح الظلام، لم تعرف البلاد انتخابات ديمقراطية وحكمها الأسد منفردًا بعد وصوله للسلطة، وجعل دستور البلاد منذ 1973 يمنح حزب البعث دور القائد الوحيد للدولة والمجتمع ويعطي الرئيس صلاحيات واسعة لا تناقش. انتهت التعددية السياسية وحُلّت جميع الأحزاب بعد 1970 ما عدا مجموعة صغيرة من القوى اليسارية والقومية والعربية والاشتراكية سمحت السلطة العسكرية ببقائها وضمتها إلى الجبهة الوطنية التقدمية التي كانت في مواقفها نسخة مشوهة عن النظام عبر عقود.

يلجأ المستبد عادة - والنظام السوري من أعتى المستبدين – إلى وسائل التنكيل بمعارضيه والبطش بهم، ويجعلهم عبرة لغيرهم، وإلى ارتكاب جرائم الحرب التي عرفتها سورية جيدًا منذ الثمانينيات وحتى سقوط النظام، ويفترش بصوره وتماثيله وشعاراته الميادين والمرافق العامة والشوارع والساحات والمراكز الثقافية ووسائل الإعلام والشبكات والمطبوعات المدرسية ويطارد مواطنيه في كل مكان. يوظف نظرية "فرق تسد" بين أفراد شعبه لإضعافهم وضمان سيطرته عليهم، ويلجأ أحيانًا إلى بث روح الطائفية بأبشع صورها، وهذا ما جرى في سورية منذ عقود وازداد كمًا ونوعًا بعد قيام الثورة السورية بطرق وأدوات وأسلحة أكثر وحشية وقتلًا وتدميرًا.

تحاول الأنظمة الاستبدادية دائمًا تحويل شعوبها إلى قطيع، ابتداءً من المنزل إلى المدرسة إلى الجامعة ثم العمل والشارع والمصنع وأروقة المحاكم ومسارات المرور والدوائر الرسمية، وتحاول استخدام الترهيب والترغيب في مؤسسات المجتمع والدولة، وتنشر سياسة الخوف مناخًا اضطهاديًا وتشوهات عميقة في المجتمع في الأخلاق والسلوك وأنماط التفكير، وتنشر الشك بين الناس وفقدان الثقة والطمأنينة والنفاق والانتهازية والسعي الدائم للخلاص الفردي عمومًا، وهذا ما رسّخه النظام السوري من خلال حكم بدأ في السبعينيات وانتهى في الشهر الماضي حيث حوّل البلاد إلى مزرعة مستباحة وسيطر على مقدراتها كاملة وانتهك القيم والأخلاق والحقوق الاجتماعية والسياسية بواسطة العنف وأبشع وسائل التعذيب اللاإنسانية البربرية، محاولًا أن تكون ثقافة الرعب والخضوع من أبرز سلوكيات الناس ومواقفهم وخياراتهم.

الشك بين الناس وفقدان الثقة والطمأنينة والنفاق والانتهازية والسعي الدائم للخلاص الفردي، هذا ما رسّخه النظام السوري من خلال حكم بدأ في السبعينيات وانتهى في الشهر الماضي


لا شك في أن الخوف رافق الإنسان في كل العصور منذ عهد الإقطاع الذي استمر عشرات القرون حتى عصر الصناعة وسيادة نمط الإنتاج الرأسمالي وبقاء الدولة الحديثة أداة بيد من يهيمن على الثروة في المجتمع من خلال وسائل عديدة أبرزها القمع، وحتى بعد تطور الأنظمة الرأسمالية وتحديدًا بعد الحرب العالمية الأولى فقد برز الخوف من جديد ولكنه تعاظم في عهد العسكر والديكتاتوريات، وهذا ما جرى في سورية منذ عام 1963- تاريخ استيلاء البعثيين على الحكم وتولي حافظ الأسد حقيبة وزارة الدفاع آنذاك حتى تاريخ الثامن من الشهر الماضي لحظة سقوط النظام، فسياسة البطش هي السائدة وازدادت دموية بعد اندلاع الثورة السورية والتي كانت احتجاجًا على سنوات طويلة من القهر والعبودية وإفقار الناس وزجهم في المعتقلات بدون محاكمات أو قوانين، وتحدّيًا لهذه السياسة التعسفية التي نشرت الرعب والخوف بين صفوف السوريين من خلال بناء السجون وتوسعة مراكز الاعتقال التي تعود لفترة الأسد الأب حيث مارس نظامه البوليسي سياسات استبدادية حوّلت البلاد إلى مسلخ بشري، وكانت مدينة حماة بمن فيها من ضحاياه عندما أُبيدت على رؤوس ساكنيها وتعرّضت لأبشع المجازر عام 1982 والتي ذهب ضحيتها أكثر من أربعين ألف شهيد من المدنيين وأكثر من سبعة عشر ألف مفقود.

والمعروف أن في سورية عددًا كبيرًا من السجون والتي كُتبت على جدرانها بدم المعتقلين والمعتقلات حقائق مروعة عن إجرام النظام واستخدامه أكثر الأساليب وحشية في تعذيب سجناء الرأي السياسيين وخصوصًا بعد عام 2011 عندما استخدم بشار الأسد الحل الأمني العسكري للقضاء على معارضيه.

لقد ذُهل العالم بأسره من الحقائق التي تكشفت عن سجن صيدنايا، أكبر السجون العسكرية وأكثرها وحشية ومركز الاعدامات الجماعية بعد سقوط النظام وتحرير السجناء، وما خفي أعظم في السجون الأخرى كسجن تدمر الشهير بالمجازر والقتل تحت التعذيب أو بسبب الجوع والمرض والاكتظاظ والاختناق، وسجن عدرا في ريف دمشق للنساء والرجال، وسجن دوما للنساء قبل الثورة، وسجن المزة العسكري، وسجون حلب وحمص وطرطوس والسويداء وغيرها من السجون السرية التي لم يُكشف عنها جميعها حتى الآن.

وهناك أيضًا أجهزة الأمن وفروع الاعتقال المروعة وهي لتوقيف المعتقلين السياسيين والتحقيق معهم ولقد ارتُكب في أقبيتها ولا سيما بعد الثورة السورية أبشع وأخطر أنواع الانتهاكات الجسدية والنفسية والقتل والتعذيب والاغتصاب والتجويع بحق المعتقلين رجالًا ونساءً وأطفالًا وعربًا وأجانب، ومن هذه الأفرع: فرع أمن الدولة - فرع المخابرات العامة - الأمن السياسي - الأمن العسكري - المخابرات الجوية، وجميعها مرتبطة بمكتب الأمن القومي وفروعها التابعة لها منتشرة في المدن والقرى السورية.

بعد قيام الثورة السورية عام 2011 واستخدام النظام السابق للحل العسكري الهمجي ضد شعبه، دفع السوريون أثمانًا باهظة من حياتهم وحياة أبنائهم وأطفالهم وبناتهم من أجل تحرير سورية من نظام شمولي لم يعرف العالم المعاصر شبيهًا له، فقد أشار تقرير للشبكة السورية لحقوق الإنسان الصادر في آب/ أغسطس 2024 إلى أن النظام السوري احتجز حوالي 136614 شخصًا منذ بدء الثورة بينهم 96321 شخصًا في عداد المختفين قسرًا، وكشفت تقارير دولية وتقارير لمنظمة العفو الدولية عن الحجم المخيف للحملة المنسقة من عمليات الاختفاء القسري مارستها أجهزة النظام السوري خلال الثورة وقبلها، وهذه الجرائم ممنهجة تصل إلى مستوى جرائم ضد الإنسانية وذلك لنشر الرعب وسحق أدنى بادرة لمعارضة هذا النظام. وقالت الشبكة السورية لحقوق الإنسان مؤخرًا إن 503 مدنيين قتلوا في سورية في كانون الأول/ ديسمبر 2024 بينهم 96 طفلًا، و49 سيدة، و4 ضحايا بسبب التعذيب، وكانت قد وثقت مقتل 1264 مدنيًا في سورية بينهم 242 طفلًا و118 سيدة و86 ضحية بسبب التعذيب وذلك عام 2024 هذا عدا عن مئات آلاف الشهداء في الأعوام السابقة.

وقال المرصد السوري لحقوق الإنسان 2021 إن عدد المعتقلين والمختفين قسريًا وصل إلى مليون شخص منذ بداية الثورة، وأن جرائم مروعة وانتهاكات جسيمة تعرض لها المعتقلون. ووثق أيضًا استشهاد نحو 13139 داخل المعتقلات الأمنية منذ مطلع عام 2024، وقال مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فضل عبد الغني، أن كل المختفين قسرًا الذين لم يُعثر عليهم حتى الآن قتلوا من قبل النظام السوري الذي أخطر عام 2018 أهالي 1100 معتقل بوفاتهم في السجون بدون تقديم تفاصيل عن سبب الوفاة أو عن أماكن دفنهم، وفي العام نفسه وثق المركز السوري للعدالة والمساءلة وفاة أكثر من ألفي معتقل تحت التعذيب. بينما أشارت منظمة هيومن رايتس ووتش إلى أن أكثر من 90 بالمائة من سجناء سجن تدمر تعرضوا للتعذيب الممنهج بما في ذلك التجويع والحرمان من النوم لأيام طويلة جدًا، وكانت منظمة العفو الدولية قد أشارت عام 2017 إلى أن أكثر من 13000 شخص تم إعدامهم في سجن صيدنايا بين 2011-2015 .

وبعد سقوط نظام بشار الأسد المجرم أكد رئيس الآلية الدولية المحايدة والمستقلة التابعة للأمم المتحدة، روبرت بوتيت، أنهم وثقوا المئات من مراكز الاعتقال في سورية وقال: "كل مركز أمني وكل قاعدة عسكرية وكل سجن كان له مكان احتجاز أو مقبرة جماعية خاصة به، وبالتالي سيستغرق الأمر وقتًا طويلًا قبل أن نعرف الحجم الكامل للجرائم المرتكبة".

لم يسلم الاقتصاد السوري أيضًا من سياسة العنف والقمع، وخسر كثيرًا من فعالياته الاقتصادية التي هربت خارج سورية بعد أن مارس الأب ووريثه الابن القمع على الاقتصاديين وفرضوا عليهم الرشاوى والخوّات، وخاصة في السنوات التي تلت قيام الثورة السورية وسيطرة أسماء الأسد على الاقتصاد بكافة قطاعاته، إذ حلت محل الدولة الممزقة والمفككة ونتج عن ذلك إفقار الشعب السوري وانهيار الاقتصاد.

استخدم النظام أيضًا المؤسسات الإعلامية والثقافية لبث الذعر بين عموم الشعب والفرقة بين مكوناته ولنشر الأكاذيب لتوجيه مشاعر الناس ومواقفهم نحو الوجهة التي تخدم السلطة المركزية ولإخضاع الإرادات وصولًا إلى الاقتناع بالمستبد والدفاع عنه حتى الموت وكان ذلك واضحًا وجليًا بعد قيام الثورة السورية.

تحدث الفلاسفة كثيرًا وكذلك السياسيون عن العنف لدى الأنظمة، فقال تزفيتان تودوروف، الفيلسوف البلغاري، عن النازية والاعتقال: "إن الدولة الشمولية تقوم على إنهاء الحدود الفاصلة بين العام والخاص لدى الناس، وتريد أن تستبدل جهنم المتخَيلة في الحياة الآخرة لتحل محلها جهنم ملموسة يراها الناس بأم أعينهم، وأنها تنتظر كل من يضل عن الطريق الذي تقرره السلطة".

اليوم وبعد مرور شهر على سقوط النظام السوري وهروب طاغية الشام إلى روسيا مذعورًا، وبعد أن ارتكب النظام جرائم يندى لها جبين العالم من قصف للمدنيين بالبراميل المتفجرة والسلاح الكيماوي إلى سفك دماء السوريين داخل السجون وخارجها، وبعد الانتصار الذي حققه الشعب السوري، يبقى السؤال مطروحًا عن كيفية تحقيق العدالة وتسليم المجرمين إلى المحاكم ومحاسبتهم، وعن مستقبل سورية الذي خطّه السوريون بدمائهم ودموع أطفالهم وأمهاتهم وأوجاعهم في الخيام ومعسكرات اللجوء القاسية، المستقبل الذي لا يضطرون فيه للعودة إلى قولهم: "الحيطان لها آذان" و"ما متنا بس شفنا اللي مات"، بل يقولون: سورية حرة لكل السوريين.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.