كما كان مُتوقعًا، أجمعَ المُشاركون في هذا التحقيق الخاص على أنه يستحيلُ الحديثِ عن توزيع الكتاب في الجزائر خارجَ استراتيجية مُتكاملة الأركانِ والشروط. غيابُ التوزيعِ كارثَةٌ حقيقيّة لا تنفَصِلُ عن جوانبَ أُخرى لا تختلفُ في حدّة سِلبيَّتها المبدئية عنه، ويُمكن لاستمرارها أن يؤَّدي إلى توقُّف دورِ نشرٍ كما جرى لبَعضها على حدِّ تعبير مسؤولة دار نشر معروفة سيأتي ذكرها في التحقيق.
التحقيق الذي تعمّدت نشرَه في عزِّ صالونِ الجزائر الدولي للكتاب، يؤُكِد صحة سياقِ نشرهِ في الوقتِ المُناسبِ تحتَ وطأَةِ حدسنا الصحافي. تعيين السيدة مليكة بن دودة وزيرةً للثقافَة للمرَّةِ الثانية، سياقٌ مِثالي لوقفةٍ عند مشهدِ الكتابِ الذي ما زال شعارًا تَتباهى به الجزائر أُسوة بالبلدان العربية الأخرى، في تناقضٍ كاملٍ مع واقعٍ ثقافي مُتهالك تطبعه البهرجة المُناسباتية والشعاراتية المستهلكة.
في هذه الحلقة من التحقيق، يجدُ القراء شهادات مسؤولي دورٍ تجاوبوا إيجابيًا مع دعوتنا خلافًا لآخرين لم يردُّوا عليها مُحقين ربما، بحجة تحضيرهم لصالون الكتاب. ستُخصَّصُ حلقة أخرى لكُتَّابٍ يَعرفون مشهدَ النشر في الجزائر كما يعرفون جُيوبهم، ومنهم من اكتوى بناره ولا يزال ينتظرُ قراراتٍ من شأنها أن تُطفئها ولو نسبيًا.
مُعضلة كبرى وحلول عاجلة
محمد إسماعيل، صاحب دار "حبر" الخاصة والمُشرف على مكتبة "المكتبة العامة" الكائنة بقلب حي الأبيار المعروف في العاصمة الجزائرية (والذي لم يَعُد نظيفًا ومخمليًا كما كان)، لم يتردد في تأكيدِ خُطورة واقعِ الكتاب بوجهٍ عام، منطلقًا من مُقاربة المحترف العارف بظاهر وببواطن الأمر. في تصوُّره، مُشكلة التوزيع "تصبُّ في أزمةٍ مُتعددة الجوانب، إلا أنها تظل المُعضلة الكبرى في مشهد النشر الجزائري رغم الديناميكية التي تعرفه" على حد تعبيره. غيابُ الترويج وضُعف الشبكات وتكاليف النقل والإجراءات المعقدة، كلها تُعيق وصولَ الكتاب إلى القراء، وبالتالي يَفقد وجودَه معناه. العوامل المذكورة غائبة، "لكن الترويجُ يسبقُ التوزيعَ في تأثيره السلبي باعتباره الحلقة المفقودة في سلسلة صناعة الكتاب، وإذا وُزِّع، فإنه يُوزع بلا ترويجٍ، أي بلا قارئ، أو يكدس في المخازن. التوزيع الموجود غيرُ مهني، ولا خُطة لموزعين محترفين، الأمر الذي يَتسبب في غياب الكتاب في المدن الداخلية والجنوبية، حيث تغيب المكتبات أو تتحوَّلُ إلى نقاط لبيع الأدوات المدرسية، وليس لفضاءات القراءة".
الناشر إسماعيل تحدث لـ"ضفة ثالثة" بمرارةٍ قاسية بدت على مُحياه أكثر مما بدت على وجوه ناشرين آخرين وهو يُقارب التوزيع من منظور شامل في علاقته الجدلية بأعباء النقل والوسائل المادية وغياب الدعم الحكومي والقوانين غير الواضحة.
لا توزيعَ من دون ترويج
العوامل المذكورة تسبَّبت في تعقيدِ وضعية الكتاب داخليًا، وفي غيابه خارج الجزائر عربيًا وأفريقيًا ودوليًا، ولا يُمكن في تقدير الناشر إسماعيل تجاوُزِ الأزمة إلا "بحلول تُعالج كل مستوياتها، ومن بينها تشجيع منصات البيع الإلكتروني".
ياسمينة بلقاسم، مسؤولة النشر في دار "الشهاب" الخاصة أيضًا، تقاطعت مع الناشر إسماعيل، مُؤكدة بدورها على غياب توزيع الكتاب تمامًا من منطلق المنظور الشامل الذي تميز به رد الناشر إسماعيل، ودليل صحة كلامها كما قالت يتمثل في "الإقبال المنقطع النظير الذي يعرفه صالون الكتاب بحثًا عن الكتب، وأنا شخصيًّا شاهدة كمسؤولة في النشر عن الطلب الهائل للكتب في صالون الكتاب بسببِ عدم توفُرها على مدار السنة، سيما وأن المكتبات تقل من يوم لآخر"، والزوار يأتون من مدن بعيدة قاصدين صالون الكتاب بحثًا عن عناوين كتبٍ مُعيَّنَة، الأمر الذي يدلُّ على أنه لم يقصد العاصمة من أجل السياحة كما يقول البعض. المسؤولة بلقاسم التي حاورناها في جناح دار "الشهاب" في دورة صالون الكتاب الماضية([1])، أسهبت في تحليل أزمة التوزيع بإضافتها: "الكتاب لا يُوزَّع داخليًا (بعد أن قال لها كاتب هذه السطور إن الكتاب الذي يصدر في وهران لا يصل إلى العاصمة)، والعكس صحيح". بحثُ الزوار عن الكتاب في صالون الكتاب ــ أضافت تقول قبل أن تُنهي ردها ــ "يعني أن الإقبال على القراءة موجود خلافًا لما يقال عن الجزائريين الذين لا يقرأون كما يشاع في كل الأوقات رغم غياب الترويج والإعلام الثقافي المتخصص والدعم الكافي، وإذا استمر الوضع المتأزم والمتعدد والمُتداخل الجوانب، سيكون الهلاكُ مصير كثير من دور النشر التي أصبحت تعاني لنشر كتاب ما".
مطابعٌ وليست دور نشر
حسان غراب، مسؤول الإتصال في دار "لاناب" (الوكالة الوطنية للنشر والإشهار)، لم يُسهب في إجابته ردًا عن سؤالنا كما فعل الناشر إسماعيل، والمسؤولة بلقاسم، وانتهز الفرصة للحديث عن خصوصية الدار التي يعمل فيها، والتي: "تحرص" ــ حسب تعبيره ــ "على تقديم الكتاب النوعي الذي يفرِضُ نفسه رغم المعوقات والتحديات العديدة التي تحدث عنها زملاء دربه الواحد". التوزيعُ اليوم لم يَعُد مُواكبًا لمقتضيات العصر حسب السيد غراب، والتوزيع عبر المنصات الإلكترونية أصبحَ واقعًا ملموسًا تعمل على تطبيقه الوكالة الوطنية للنشر والإشهار، "وهي الطريقة التي تقتصرُ على إيصالِ الكتابِ إلى مكاتبَ بريدية ريثما يحينُ وقت إيصالها إلى البيوت"، أضاف السيد حسان غراب يقول.
الصحافية والشاعرة سمية معاشي لم تتردد في تحميلِ دور النشر مسؤولية غياب التوزيع بشكل مهني، وهي "التي تقتصر على طباعة الكتب فقط من دون أن تتكفل بالتوزيع، مما يفرض على الكاتب تحمل مسؤولية نشر كتبه بنفسهِ، وهذه الدورُ أقربَ إلى مفهوم المطابع، ويهمها الربح التجاري في المقام الأول"، على حد تَعبيرها. كلامها لا يعني أن دور النشر تتحمَّلُ وحدها مسؤولية غياب التوزيع، وفي تقدير معاشي: "هنالك عوامل أخرى تتجازوها مثل الوضع الثقافي العام وقلة الدعم المؤسسي ونقص الوعي بأهمية القراءةِ، الأمر الذي لا يُلغي مسؤوليةَ دورِ النشر في تطوير آلياتِ التوزيع"، لتنهي معاشي ردها أخيرًا بتحميلها الكاتب جزئيًا مسؤولية عدم انتشار الكتاب، "بعدم إلحاحه على بنود قانونية واضحة تضمن له التوزيع وليس النشر فقط وفق معايير مهنية لإيصال الكتاب إلى القراء".
الناقد المسرحي والروائي الصاعد نجيب إسطمبولي طّبّقّ مقولةَ "ما قلّ ودّلّ"، مُختصرًا رده على سؤال "ضفة ثالثة" بقوله: "التوزيع من مهام الموزعين المُعتمدين، أو الدور الناشرة، والمكتبات تستمر في القيام بدورها في حدود المتاح وتنظم حصص توقيع للكتاب. ربط غياب التوزيع بنقص المقروئية ليس آليًّا، ويمكن أن تُفسَّرُ بطغيان مراكز الجذب الثقافية الجديدة (على حد تعبيره) أو بنوعية الكتابة غير الجيدة التي يجدها القراء في الكتب الورقية".
هامش:
[1] تسبب تأخر كثير من المسؤولين والكتاب الذين اتصلت بهم "ضفة ثالثة" في عدم نشر التحقيق قبل اليوم.


تحميل المقال التالي...