}

"اسْـمي جَـوْقـة... لأنّنـا كثيرون": في وداع رؤوف مسعد

جمال محمد إبراهيم جمال محمد إبراهيم 4 نوفمبر 2025



تلـك الجـمـلة المُربِكة هي التي بدأ بـها الأديـب الروائي السوداني المصري الهولندي الرّاحل رؤوف مسعد سطور أوّل رواية له "بيضة النعامة": "اسْـمي جَـوْقـة... لأنّنـا كثيرون". قرأتُ روايته تلك قبل سنواتٍ خَلَتْ، وقد تصفّحتها بمتعةٍ زائدة، غير أنّي لم أقف عند جملته المُربِكة التي أشرتُ إليها. رواية مسعد التي لا تُشبِه غيرها من الروايات، لا في أسلوبها ولغتها، ولا في حبكتها ومحتواها. إنّ الإمتاع عندي هو لبّ الكتابة الروائية، وما يليه أنظره وأتفهمه.

كنتُ قد عاهدتُ نفسي أن أعدّ مخطوطة أسجّل فيها شيئًا مما تبادلناه، وأدمج فيها بعض ما بثَّه في صفحته على الإنترنت، إذ هو شغوفٌ بتسجيل تفاعلاته مع أصدقائه القريبين والبعيدين على حدٍّ سواء، ولكني فوجئتُ بنبأ رحيل رؤوف، فقد انقطع التواصل بيننا لسنوات. غير أنّ حماسي لم يفتُر لإعداد مخطوطتي عنه، وكنت أزمع أن تُشكّل مفاجأتي له سانحة تُعيد التواصل بيني وبينه من جديد. رحل بعيدًا عن أيّ مفاجآت، ولم يرحل عن هولندا وحدها وعن أصدقائه هناك، بل رحل عن الدنيا مرةً نهائية.

****

أقول لكم ماذا كتبتُ عن إبداع رؤوف مسعد.

حقيقةً لم تبرح حبكة رواية مسعد "بيضة النعامة" ذاكرتي رغم السنوات الطويلة التي مضت منذ أن طالعتُ بشغفٍ وولهٍ صفحاتها البديعة. هي في مكتبتي أقرب إلى يدي، أراجعها بين الفينة والأخرى، وكأنّي أعود إلى مراجعٍ أستقي منها معلومة، أو أستوثق فيها من حقيقةٍ علمية. قال رؤوف عن نفسه إنّه: "جوقة... لأنهم كثيرون". هو ليس واحدًا يتفاعل مع "جوقة" وذلك هو الطبيعي، لكنه جماعة تتفاعل بحالها مع الجماعة.

لفتت نظري تلك الجملة في مفتتح الرواية، لكني لم أنشغل بها، بل تجاوزتها عَجَلًا من حرصٍ ألّا تفلت مني خيوط الإمتاع والإدهاش. صادفتُ مقالًا بتاريخ 27 آذار/ مارس 2022م، في النسخة العربية من صحيفة "الإندبندنت" البريطانية، بقلم أديبٍ ناقد تونسي اسمه كمال العيادي، تناول فيه سيرة رؤوف مسعد، وروايته تلك. أعادني ذلك الأديب التونسي إلى تلك الجملة الافتتاحية في رواية "بيضة النعامة"، وقد وقف عندها، إذ كانت هي الجملة التي قادته لإكمال قراءة رواية مسعد كلّها.

رجعتُ أنا إلى أول سطر في أصل الرواية بعد أن ذكّرتني إشارةُ الأديب التونسي الموحية عن تلك الجملة الأولى، فوجدتُ له العذر كلّه في التوله مثلي بقراءة الممتع من روايةٍ تحتشد بغرائب الوقائع، وتفيض بالكتابة البِكر عن تجارب حياتية، بما يزيد الافتتان بالإبهار الذي في ثناياها، فضاعف ذلك من أثر الإثارة التي فعلتْ بنا الأفاعيل، أنا وصديقي الأديب التونسي رواية "بيضة النعامة" تلك. 

****

تذكّرك رواية "بيضة النعامة" على الفور برواية أقدم تاريخًا في الأدب الروائي العربي، جاءت من كاتبٍ مغربي هو محمد شكري في روايته الأشهر "الخبز الحافي"، لكنك لا ترى تأثيرًا لافتًا لمحمد شكري في كتابة مسعد.

لقد تميّز نسيج مسعد بحرفيةٍ يتسيّدها قلمٌ بارعٌ في الوصف، ولسانٌ قال في وصفه الأديب كمال العيادي إنّه "سليط"، وأؤكد لك هنا أنه يكاد أن يصيب الموصوف في مقتل. لمسعد أسلوبٌ ميّزه بنصاعةٍ في اللغة وقدرةٍ ذكيةٍ في مزجها بروح اللهجة العامية. تتسرّب التراكيب العامية لتُخالِس الفصيح وتمازجه بدون عناءٍ ولا حذلقة!

الملفت في كتابات مسعد هو هذه "الكثرة" التي جاءت في جملته الافتتاحية لروايته تلك. هي ليست كثرة في المجموع ولا في العدد، بل هي كثرة في ثراء التنوع، وفي تماسك التباين، وفي فسيفساء المحتوى.

لو نظرتَ إلى الرجل ستجد في شخصه راهبًا متدثرًا بلبوسٍ لا يُخفي انطلاقًا متحررًا، ولا يستر غرائبية مذهلة. سترى في "بيضة النعامة" خليعًا مستترًا وراء سياسي، ومتدينًا والِغًا في الغواية، ولكنه يقول لك مثلما قال الشاعر الفارسي حافظ الشيرازي عن نفسه: "أنا غريقٌ في الإثم ولكنّي ذاهبٌ إلى الجنة"... 

****


سترَى أديبًا روائيًا هو بالفعل جماعة من الشخصيات، تلاقت جميعُها في فتى وُلِد في السودان، ونشأ في كنف بيئة كنسية مع والده القسيس المصريّ الأصل، وتخرج من الجامعة في مصر، ثم درس وتخصص في الإخراج والمسرح في شرق أوروبا، ومارسه تجريبًا في العراق، ثم ها هو يقيم في هولندا ثم يموت في أرضها المنخفضة، وهو السامي علوًا بإبداعه. أتكون تلك هي عبقرية "كثرة التنوع" التي قصد حين حدّث عن "الجوقة"؟ إني وقد أسبغتُ عليه صفة الأديب، لعله لن يُعجب بتلك الصفة، فهي قد لا تناسب التنوع الذي عليه شخصيته الفريدة.

قضى ربع صباه في أم درمان في السودان، وربعه الثاني في كردفان، وربعه الثالث قضاه في اجتهاد سياسي ومسرحي مميز في مصر وفي العراق، ثم ربعه الأخير في إبداع كتابي يصدر من حيث أقام رسميًا في هولندا التي اعتمدها منفىً اختاره لنفسه ولأسرته. كنتُ أكتب هذه السطور وقت كان يناور بثمانينه في المنافي، وبوعْدٍ مجاني فيما هو مستمتعٌ بما يشبه "سبتية" أكاديمية في جامعة الحياة. كنا ننتظر أن قد حظي من قلمه بعدها بإبداعٍ ثريٍّ يتسلل إلينا نحن قراء رواياته من الجوقة التي زعم أنها سكنتْ شخصه، إذ هو أديبٌ ليس فردًا، بل جماعة أو "جوقة"، أو عدة شخصيات مقيمة في ذهن أديب، كما حدّث في روايته الأولى.

**** 

ستجد الإبهار في كتابات مسعد الروائية مثلما تجد التوثيق. ثمّة مسودات من مذكرات وقصاصات لمشروعات قصصٍ ورواياتٍ، عن تجارب ومجاهداتٍ ورؤىً، في السياسة كما في العشق، تأتيك من كاتب هو جماعة متعددة المشارب اسمه رؤوف مسعد. تجد من قلمه الرصانة التي قد تدفع بصاحبها للمشي حذرًا خائفًا تحت ظلّ حائط، مثلما تجد الانطلاق والتجريب حرًا طليقًا، يوم لا ظل إلا شعاع شمسٍ حارق وأصابع تمسك بقلمٍ ساخن.

كنتُ قد التقيته على سنواتي في بيروت، سفيرًا لبلادي (السودان) هناك بين 2007 و2009. ربما كانت بيروت عندَهُ محطة لاستعادة ذكرياتٍ قديمة، أو هي سانحة متجددة أتاحها له وقتها الصحافي الراحل طلال سلمان، الذي رحل عام 2023 بحزنه بعد إغلاق صحيفته "السفير"، وقد تعثرت إصداراتها قبيل رحيله بسنوات قليلة. جاء مسعد زائرًا بيروت ذلك العام ليجرّب حظه في الإقامة في حواضن الثقافة العربية وساحات إبداعها في لبنان، بعيدًا عن منافيه الاختيارية في أوروبا. علمتُ أنه جاء للتعاون مع الصحيفة البيروتية التي يديرها طلال سلمان. في بيروت قدّرتُ بالتأكيد أن سيجد مسعد الهواء الذي سيفتح شهيته للكتابة الإبداعية، لكن لم تكن "السفير" وقتها في أفضل حالاتها. 

****

زارني في مكتبي صباح ذلك اليوم الشتوي، فشخصَ أمامي شابٌ عجوز، بسترةٍ شتويةٍ وبنطلون تشدّه حمّالات إلى كتفيه، لم أرَ لها داعيًا، فالرجل متوسط القامة نحيل البدن، سيتخطاه البرد فلن يراه من نحوله، ويا للتشبيه الذكي الذي استلفته لك من المتنبي وصفًا للنحول المفرط. أعدتُ النظر مبتسمًا، فما رأيتُ من حاجة لتلك الحمّالات أو لتلك السترة الصوفية. رؤوف مسعد: وجهٌ صافٍ وابتسامٌ مشرقٌ لا غروب له، تزينه لحيةٌ خفيفة حول الذقن. تبادلنا حديثًا مقتضبًا عن تجربته الإبداعية، وعن رواية "بيضة النعامة"، ثم عن روايته الجديدة والتي صدرت وقَتذاك بعنوان "إيثاكا".

سعدتُ يومها بصحبة أديبٍ وروائيٍّ قديرٍ لا يشبه غيره من كُتَّاب الرواية. أهداني مسعد بضعة نصوصٍ تجريبية، أفاض في حديثه عنها، مبيّنًا أنها حملت أصداء من تجارب شخصية له، ومن رحلاتٍ التقى فيها بنماذج لشخصياتٍ مميزة، تفاعل معها وتفاعلت معه. ولربما وجدتْ لنفسها مساحة في كتاباته الإبداعية القادمة. حكى لي عن جولةٍ له في فلسطين، وعن غزة عبر رفح. في النصوص التي أهداني إياها وألمح لي أنّه ينشر أيضًا في الشبكة العنكبوتية، طالعتُ مجموعة من بدايات لمخطوطات يمكن البناء عليها لمشاريع روائية قد تخرج من قلمه البديع لو أمهلته الأيام في عمره. أدهشتني في أحد نصوصه قصاصات جريئة عن زيارته لقطاع غزة، وعن السُّمَر القاطنين حي "السودانية" في غزة، والذي لا يعرف السودانيون عنه كثير شيء، إلا ربما ما تواتر في قنوات الأخبار عن مجريات حرب غزة هذه الأشهر الأخيرة. 

****

حدثني مسعد وقتها أنه استقر في هولندا. لعل الأجواء هناك هي التي فتحت له نوافذ إبداعٍ حرٍّ لا تقيّده موانع، أو تحصي حروفه رقابة. لن يتحمّل الأديب وهو يتوغّل في سنواته الثمانين أيّ كتم لأنفاسه، وهو الذي جرّب السجون والمعتقلات سنين عددًا. طالعتُ نصوصه التي أهدانيها، فرأيتها نصوصًا مكتملة في نقصانها، مجزأة كقصاصاتٍ متكاملة في فسيفسائها. قرأتُ في متونها بعض الذي تجاوز بجرأته أطر الكتابة الروائية التقليدية، واقترب مما قد يشبه كتابة السجية الحرة. ذكرتني جرأة بعض نصوصه شيئًا مما جرى من قلم الكاتب الأميركي الجريء هنري ميلر في روايتيه الصاخبتين، وقد فرّ أكثر الناشرين منهما فرار الصحيح من الأجرب: "مدار السرطان" و"مدار الجدي".

برع ميلر في الكتابة المشوقة، وإن تجاوز بإيراده ألفاظًا إباحية صادمة حدودًا يتردد محافظون كثيرًا في الوقوف عندها. غير أنّ الصرامة الإبداعية لم تفارقه، فما استنكف أدباء في الشام من ترجمة بعض أعماله على علاتها الإباحية تلك. أمّا مسعد ففيه شيء من هنري ميلر، بل وأكثر مما عند المغربي محمد شكري. 

****

لعلّه في اقتراب نصوصه إلى ما يشبه روح كتابات هنري ميلر كما ذكرنا، لكنه لا ينشغل بالإباحي كانشغاله، بل هو معنيٌّ بما يشكّل وظيفة في العمل الروائي الذي يبدعه، فيحمّله مدلولات أعمق من مجرد الألفاظ المنكرة أو الأفعال المستهجنة.

غفر الله لكاتبنا السوداني المصريّ الهولندي المبدع رؤوف مسعد. وما كان قصدي من كتابتي هنا إلا العزاء في رحيل ذلك المبدع، وإني لعازمٌ على إكمال مخطوطتي الخاصة عن حياته وكتاباته، ولنا أن نسترجع إبداعه قويًا إلى الذاكرة العربية، والمصرية والسودانية، إذ له سهمٌ إبداعي في كل تلكم الدوائر الثلاث. رحمه الله.

(فقرات من كتاب كنت أردتُ أن أفاجئ به صديقي الراحل رؤوف مسعد)

 

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.