ثمة سطوحٌ وطبقاتٌ لونيةٌ ناعمةٌ وخشنةٌ مُغمَّسةٌ بعواطفِ ومشاعر الفنانين في معرض الفن التشكيلي الأوَّل "سورية الجديدة" في صالة جمعية العاديات في اللاذقية.
شارك في المعرض 18 فنَّانًا وفنَّانة بـ 30 لوحة من مدارس فنية مثل التعبيرية والتجريدية والانطباعية، ومن الفنانين المشاركين: حسين صقور، محمد أسعد الملقب بـ سموقان، ابتسام خدام، رانيا ريحاوي، لينا ديب... وآخرين. المعرض كما يبدو جاء على عجلٍ، والقرارُ بإقامته كان مُرتجلًا أو مُفتعلًا، إذ لا خيطَ يجمع بين المواضيع التي طرحها الفنانون، كأنَّ الفنانين يريدون الفرحَ بالحدث الذي كان صعبًا، بل، ومستحيلًا وقوعه بسقوط حكم العائلة الأسدية، وهروب الرئيس بشار الأسد فجر الثامن من كانون الأوَّل/ ديسمبر 2024 إلى موسكو.
مع هذا، فإنَّ لوحات الفنانين في معرض "سورية الجديدة" تحاول الاحتفال باللحظة/ الحدث المستحيل هذا، وفي المدينة التي يُحسب عليها - مدينة اللاذقية؛ والتي كانت غلَّته البشرية أو (بنكه) وخزّانه البشري الذين صرفَ أرواحَ ودماءَ غالبيةِ شبابها في الحرب الكونية عليه كما كان يُسميها ليبقى هو على رأس السلطة. من حقِّ المدينة أن تفرح وتصير لحظة سقوط العائلة الضِباعية مناسبةً سياسية واجتماعية وحقوقية وجمالية للسوريين، فسقوطها فَصَلَ بين زمانين "سورية القديمة" و"سورية الجديدة" التي أُقيم المعرض باسمها. فنذهب من الاستبداد إلى الديمقراطية كما نتصوَّر أو نتخيَّل أو يذهب إليه خيالنا، وبضغطةٍ على مفتاحٍ أو زرٍّ فَتَتَحوَّل حياة السوريين من الحرمان والجوع إلى الشبع، ومن الندرة إلى الوفرة.
صحيح أنَّ الفنون - كما في المعرض هذا- هي فعل ثقافي تهزُّ عروش الطغاة، ما يُذكِّرُنا بأوامر هتلر في عام 1938 الذي خاف من الفنون وتأثيرها بتجريد المتاحف من أعمال بابلو بيكاسو (1881-1973) وجورج رووه (1871-1958) وجورج براك (1882-1963) وبيعها بأبخس الأثمان، وتوعَّد الفنانين المعارضين بالسجن فَفُصلَ أوتو ديكس (1891- 1969) من وظيفته وتمَّ القبضُ عليه، وانتحرَ إرنست كيرشنر (1880 – 1938)، وهربَ أوسكار كوكوشكا (1886 ــ 1980) من تشيكوسلوفاكيا عندما دخلتها القوات النازية إلى بريطانيا، كما تعرَّض الفنَّان رولفز وكان عمره 89 عامًا للاضطهاد والتحقير، وكذلك الفنان إرنست بارلاخ (1870-1938) وآخرين كُثُر. إلاَّ في سورية، فلم يُخِفْ ولم يَهُز الرسمُ ولا الأدبُ ولا الموسيقى عروش أعضاء العائلة الأسدية الذين كانوا يرون أنفسهم أنَّهم فوق الثقافة وفوق الفنون وفوق العلم وفوق التاريخ، حتى إنَّهم يستغنون عن الناس/ البشر/ الشعب كونهم لا يخشون شيئًا أو أحدًا؛ وهذا ما عشناه مع الأب الأوَّل والطليعي الأوَّل والفلاَّح الأوَّل والعامل الأوَّل ومن ثمَّ مع وريثه الأوَّل؛ وحتى إنَّ مَقولة الوزير الألماني غوبلز: "عندما أسمعُ كلمة ثقافة أضع يدي على مُسدَّسي" صارت طُرفة أو نكتة مُبتذلة بالنسبة للرئيسين الأب والابن. فَهُما لا يخافان من الثقافة ولا من الفلسفة ولا حتى من الشعب إذا ثارَ، فما فعله الأب من مجازر في حماة وحلب وسجن تدمر، وفي غيرهم من المدن والسجون السورية، ضحايا قُدِّرت بعشرات الآلاف، كأنَّما كان يقوم بنزهة أو يؤدِّي مهمَّة ثقافية، كذلك ما فعله الابنُ برميه الناس بالبراميل المتفجِّرة بصفتهم جراثيم.
سورية الجديدة التي يريدها الفنانون في معرضهم هذا لن تقوم حتى تتمَّ تصفيةُ حسابات ودفع فواتير سورية القديمة؛ لِمَنْ قُتِلَ وسُحِلَ وشُرِّدَ وهُجِّرَ ودُمِّرَ بيته ومدرسته ومسجده وكنيسته وحديقته. فالفنون والآداب هي خزَّان الحكمة والشجاعة والعلم والإقدام؛ فسورية القديمة، كما الجديدة، ليست تاريخ الرؤساء والوزراء والعائلات التي حكمتها أو تحكمها، ولا تقوم حياة الأمم والحضارات على حياة رئيسٍ أو ملِكِ أو لصٍّ أو غازٍ. سورية، كما أيِّ دولة، عاشت الاستبداد والقهر السياسي والاقتصادي؛ إنَّما هي سورية الفنون والعلوم والآداب والحكمة التي تنشرها. فَحَوْلِياتُ البشر إنَّما تجدُ روحها في الرسم والشعر والفلسفة والرواية والمسرح والموسيقى التي لم تكن لتُحرِّك مشاعر أيٍّ من أفراد العائلة التي حكمت سورية القديمة بالسيف ثلاثةً وخمسين سنةً، فيما لم نكن لنحتمِل أن نعيش أو نجلس معها ثلاثًا وخمسين ثانيةً، وفيما كنا نُشوى على نارٍ حامية، كانوا هم يمضون أوقاتهم السعيدة بالاستمتاع بسماع أصوات صراخنا وأنيننا وطقطقة عظامنا فوق جمر النار.
هذا الألمُ الوجعُ الموتُ وقفَ ضِدَّه رسَّامون وشعراءُ وروائيون ومسرحيون وفلاسفة سوريون انتقدوا العائلةَ وأربابها، فزُجِروا ووبِّخوا وخُوِّنوا واعْتُقلوا وغُيِّبوا لأنَّهم حَوَّلوا لحظات/ سنوات الألم والقهر والخوف الذي عاشه السوريون في نصوصهم/ إبداعاتهم إلى مشاعل نور؛ فتمَّ الاعتداء بالضرب على الروائي والناقد نبيل سليمان الذي افتتحَ في منزله باللاذقية منتدى للحوار حول المجتمع المدني في سورية في الشهر الأوَّل من عام 2001 أدى إلى إصابات متعدِّدة في الرأس ورضوضٍ في الوجه والصدر، ثمَّ اعتدِيَ عليه ثانيةً في عام 2011، وكذلك تمّ الاعتداء على الفنان علي فرزات الذي رسمَ كاريكاتيرًا سَخِرَ فيه من الرئيس بشار الأسد بعد قيام ثورة الربيع العربي عام 2011 فقام أربعةُ أشخاص بضربه بالعصي داخل سيارته، وسحبوه إلى سيارتهم فكسروا إحدى يديه، وأصابوا الأخرى برضَّة، وفتحوا باب السيارة وهي تمشي بسرعة 30 كيلومترًا بالساعة ورموه على الطريق بالقرب من مطار دمشق الدولي، ومن ثمَّ اعتُقل الفنان المسرحي زكي كورديللو عام 2012 مع ابنه مهيار وشقيق زوجته عادل برازي وصديقه إسماعيل حمودة خلال مداهمة أمنية لمنزله في دمشق، ولم يُعرف مصيره حتى بعد سقوط نظام بشار الضبع.
لقد صادرَ الأبُ القائدُ والولدُ البائدُ القيمَ والمواثيقَ القانونية والعُرفية والاجتماعية والدينية والسياسية والجغرافية والتاريخية والفنية لسورية، وصيَّروها لخدمة غرائزهما الوحشية، واغتصبا الفضاء العمومي لسورية القديمة، وزَرَعا فيه/ غَرَسا صُوَرَهُما وتماثيلهما، لتُتابعَ بِدَوْرِها على مدى ثلاثة وخمسين عامًا، كما مُخابراته ومُخبريه لمراقبة وترهيب الناس وتخويفهم. لذا لا يمكن وبهذه السهولة استبدال سورية القديمة بسورية الجديدة؛ إذ كيف سننسى باني سورية الحديثة ووَلَدَه اللذين أتخما السوريين شَبَعًا بالشِعارات الثورية المُعادية لإسرائيل والامبريالية. كيف سننسى عصرَ وكبسَ وسحلَ وتذويبَ السوريين في السجونِ والمعتقلات وفي الشوارع؟ كيف ننسى يا سورية الجديدة؟...