}

مكتبة مطار الجزائر الدولي: سيطرة اللغة الفرنسية كمُبرّر براغماتي

بوعلام رمضاني 14 أبريل 2025
هنا/الآن مكتبة مطار الجزائر الدولي: سيطرة اللغة الفرنسية كمُبرّر براغماتي
مكتبة مطار الجزائر

ليَطمئنْ في البداية كلَّ الذين يعتقدون أنَّ مقالي ــ ورغم إقامتي في باريس ــ ضد "حزب فرنسا"[1] أوتوماتيكيًّا، لمجرّد أنّني مارستُ حقي في عملٍ تفرِضه أبجديّات الصحافة. إنّه العملُ الذي كان من المُفترض أن تَسبِقني إليه جهةٌ إعلامية جزائرية قُحّة تدافع عن الثوابت الوطنيّة بالشكل اللاهوتي اللّصيق بها حضاريًّا (كما تُفهم الحضارة) تكريسًا لخطاب سياسي رسمي يُصبح في تقديرنا مُتناقضًا مع نفسه في الحالة الثقافية التي وقفتْ عندها "ضفّة ثالثة" في مطار هواري بومدين الدولي يوم التاسع والعشرين من الشهر الماضي.
التناقض المبدئي الذي أُؤمنُ به ليس هو كذلك حتمًا في تقدير دحمان عبيد، إبن أخت الكاتبة الكبيرة الراحلة آسيا جبار، مسؤولُ مكتبته البديعة التي يُشرّفها باستقبالٍ خرافي لم أرَهُ قبلَ اليوم بجزائر ما زال فيها استقبال الزبون بعيدًا كلَّ البُعد عن أبسط قواعدِ التجارة بوجه عام، والثقافة السياحيّة بوجه خاص.

التنويه الأخلاقي المفروض
كما جرَتِ العادة التي أُمارسها في كل مطارات العالم، دخلتُ مكتبة "البدر والعلم"[2] مبتهجًا، رغم ثِقَل الإحباط المسيطر على نفسي بشتَّى أشكالِه الظلاميّة الشامخة عربيًّا وعالميًّا، في زمنٍ اكتفينا فيه بالدعاء للانتصار على الأعداء الذين نرتدي ألبستهم ونأكل منتوجِهم الغِذائي الفاخر والنوعي، ونركَبُ سياراتهم ونستعمل هواتفهم الذكية داخل وخارج المساجد.
للتاريخ، وإنصافًا للحقيقة التي شاهدتُها بأمّ عيني، أقول: إنّ قُوّة المكتَبَة تَفرِضُ نفسها على مُسافري مطار هواري بومدين قبل دخول المكتبة بصوت دحمان، الذي يلعب دور "البَرّاح"، أو "المسحراتي" العصري الذي يَصنَعُ فخرَ مكتبةٍ لوحده.
دحمانُ الذي يستحقُّ تنويهًا أخلاقيًّا مبدئيًّا يَفرِضُ على كلِّ صحافي يلتَقِطُ اللحظاتِ غيرَ العادية، ويُؤَرِّخُ لها لتُصبِحَ عِبرة يُحتذى بها، هو دحمان الذي أكّد حِرفيّته العالية، وأنا أقفُ عندَ مُختلف أروِقَةِ المكتبة مُختفيًا تحت رداءِ مُسافر ليس ككلّ المُسافرين، كما فعلتُ أينمَا حللْتُ في شتّى أصقاعِ العالم.
ابن مدينة شرشال التاريخيّة ــ مدينة كمال بوشامة، الكاتبُ والوزير السابق والسفير الجزائري الجديد في بيروت، وصاحب الكُتب الهامّة المتواجدة في مكتبة المطار، إلى جانب كتب الزميل السابق عاشور شرفي ــ يَجذِبُ المُسافرين نحوَ المكتبة بصوتٍ يُلفت انتباهَ منْ لمْ يَكن في باله دخولَ مكتبةٍ ولو مرّة واحدة في حياته، وينْجَحُ بِتَوليفةٍ عجيبَةٍ في أَسْرِ الزَّبائنَ باللُّغاتِ الفرنسية والعربية والدارجة العامية، والرّد على أسئلتهم وكلّه بَشاشة نادرة، والحِرْصِ بسُرعَةٍ فائقةٍ على تقديمِ أكثرَ من خِدمةٍ في وقتٍ واحدٍ، الشيء الذي لم نعْتَد عليه في الجزائر القديمة ولا الجديدة.
تأكَّدْتُ من صحَّة هذه الحقيقةِ التي أنستني مُؤقتًا إحباطي العام والثقافي الخاص أثناء فحصي مطوّلًا عناوينَ وأعدادَ الكُتُب الصادرة باللغة الفرنسية عن تاريخ وثورة الجزائر.




هذه الكُتب تُشكّل الواجهة الرئيسية لمدخلي المكتبة، إضافة إلى كُتبِ الروايات التي تحتَلُّ المرتبة الثانية في الرفوف الداخليّة، وتتجاوَزُ كُتُبَ الواجهَةِ الرئيسية من حيثُ معيار الإبراز، إذا أضفنا الروايات الأجنبيّة بوجهٍ عام ورواياتِ ياسمينة خضرا بوجه خاص.

اللغة العربية غير مُربحة تجاريًّا

مكتبة البدر في مطار الجزائر الدولي 


طُغيان الكُتب الصادرةِ باللُّغة الفرنسيّة في مكتبة المطار الدولي للجزائر ــ حتى إذا تعلّق الأمر بتاريخ وثورة الجزائر ــ حقيقةٌ لا يُمكنُ لأحد إنكارها، وهي حقيقةٌ أكّد صحّتها دحمان عبيد لكاتب هذه السطور، الذي حاوره واقفًا كزبون لا يمكن أن يَخرُج من مكتبةٍ من دون كتابٍ واحد على الأقل، رغم فقره النسبي مُقارنة بأصحاب "الشكارة"، أو "البقّارة"، كما يُقالُ في الجزائر عن الأغنياء الذين يَستَثمرون في كل شيءٍ إلاَّ في الثقافة[3].
قال دحمان: "لقد اضطررتُ لأن أُعيد كثيرًا من الكتب الصادرة باللُّغة العربية إلى الدور التي نَشَرتها، بعد مرورِ فترةٍ طويلةٍ على بقائها أسيرةَ رفوفِ المكتبةِ، والزبائنَ الذين يتوافدون على المكتبة هم عادة من الجزائريين الذاهبين إلى فرنسا"، وهي الوِجهة التي يقصدها مُعظم الجزائريين لأسباب عديدة لا مجال للخوض فيها.
هكذا ردّ دحمان عبيد، مُتحجّجًا بحقيقة تاريخية وثقافيّة وسياسيّة، تحدّث عنها الأستاذ ناصر جابي لـ"ضفّة ثالثة" قبل ستة أعوام، مُحلّلا ظاهرة الانقسامية اللغوية التي تُميّز الجزائر بحدّتها العنيفة من دون غيرها من البلدان العربيّة عمومًا والمغاربيّة خصوصًا.
قُبالة قَباضة المكتبة الفريدة من نوعها في مطارات العالم ــ على حد تعبير دحمان[4] ــ كنتُ شاهدًا على شراء مسافرين كُثر عددًا من الكتب الصادرة بلغة موليير، ووحدها سيدة راحت تكسِر القاعدة بطلبها كتاب أحد الفقهاء في مجال التفسير، وهو الكتابُ الذي لم يتمكّن صاحب المكتبة من بيعه للسيدة التي ركبت الطائرة متوجّهة إلى باريس مثلي.
من الكُتّاب المعروفين الذين تُباع كُتبهم في مطار الجزائر الدولي مُترجمة من اللغة العربية إلى اللغة الفرنسية: واسيني الأعرج، الذي قام بزيارةِ مكتبةِ المطار الجزائري الدولي قبل عودته إلى باريس صباح يوم السبت التاسع والعشرين من الشهر الماضي.
رواياتُ واسيني المُترجمة إلى لغة موليير، مثل روايات أمين الزاوي، حاضرة في مكتبة المطار الدولي، ولو بدرجة أقل من روايات ياسمينة خضرا، لأسباب إبداعية وغير إبداعية، تتعلّق بطبيعة القضايا المعالجة وميولات وأذواق القرّاء.
ياسمينة خضرا (محمد مولسهول) أصبحَ ورقةً سياسية مُربحة ليس فقط في صفوف القُرّاءِ المُفَرْنَسين لمواجهة بوعلام صنصال المغضوب عليه حتى إشعار جديد، علمًا أنَّهُما غيرَ بعيدين جذريًّا عن بعضهما بعضًا، استنادًا لموقفهما من السابع من أكتوبر الذي تُبَرِّرُ به إسرائيل إبادةً غير جديدة للشعب الفلسطيني.
وقفةُ "ضفة ثالثة"، التي تقتفي الأثر اللافت وغير العادي ثقافيًّا بكل السبل الممكنة ــ حتى في ظل ظرف شخصي ــ تُؤمن جازمة أن مكتبة مطار الجزائر الدولي كما وقع عليها بَصَرُ مُراسلها، تَصُبُّ في جوهَرِ إشكالٍ أيديولوجي عامٍ يتجاوَزُ نِظامًا سياسيًّا يعجُّ بمصالحَ جهاتٍ حاكمة تتصارعُ حول اللغة، ليسَ كغنيمةِ حربٍ فقط كما قال الراحل الكبير كاتب ياسين، بل كحضورٍ وجودي ينطِقُ بحرْبِ الهوية التي ما زالت تُمزّق الجزائر، ليس بصمتٍ كما يعتَقِدُ بعضهم، بل بتصرّفاتِ جهاتٍ مُسندة جهرًا بشكلٍ يَتناقض مع الخِطابِ الرسمي.




من الطبيعي أن تَقرَأَ كل الشعوبِ الراقيَةِ بأكبرَ عددٍ مُمكن من اللغات كنوافذ على الآخر المختلف، لكن ليس من الطبيعي أن تَطغى لُغة على أخرى يُقال إِنها من ثوابت الأمة والمجتمع، في مطار دولي، باسم المعيار التجاري.
مسؤولية هذا الأمرِ الخطيرِ ليست وليدةُ جِهاتٍ يَتوقَّفُ وُجودها على اللغة الفرنسية فقط، ومسؤولية الذين يتَوقَّفُ وُجودهم على اللغة العربية قائمةٌ، شأنُها شأنُ اللُّغَة الأمازيغيَّةِ، ولو على نطاقٍ ضيّقٍ.
مطارٌ دوليٌّ يجبُ أن يَعكِسَ هويَّةَ الشَّعبِ بتنوّعِهِ المُعترَفِ به رسميًّا والملموسِ في الحياةِ اليومية، ومُقاربَةُ تمثيلِه ثقافيًّا ليست أمرًا عاطفيًّا، أو أيديولوجيًّا فقط، ويتحمَّلُ مسؤوليَّة تجسيدِه كلُّ الرافضينَ لبعضِهم بعضًا، فَوْقيًّا وتَحتيًّا، باسم الهوية، عند أطيافٍ معروفَةٍ ثقافيًّا تَتعايَشُ مع أطيافٍ أُخرى مُعادية لها لُغويًّا باسم الانفتاح.
مُشكِلَة تمثيلِ الكُتُب لغويًّا في مطارِ الجزائرِ الدولي ليست مَفصولَة عن عداءِ فرنسا للُغاتِ الآخرين من الأجناسِ الأجنبية، وحدِّث ولا حرج إذا تعلَّق الأمرُ بلغاتِ العربِ والمسلمين.
دِفاعي عن اللُّغَةِ العربية في زمنِ ربْطِهَا بالإرهاب والانغلاق اللغوي والهوية القاتلة ــ على حد تعبير أمين معلوف ــ دون لُغاتٍ شعبوية وهوياتية قاتلة هي الأخرى، هو الحقيقَةُ التي دَفعَتني إلى إثارة خلفيات مُقاربتها بالشكل المذكور، غير العفوي، مع جاك لانغ، وزيرُ الثقافةِ السّابقِ ورئيسِ معهدِ العالم العربي، وأنا أُحاوِره حول عدم تمثيلِه لِهَويَّةِ شُعوبها ومُثقفيها كما يَجب.
مُشاركة الجزائر في صالونِ كتاب باريس، كما وقفتُ عندها مرات عدة صُحافيًّا، غيرُ متوازنة لغويًّا، باسم هوية جمهور الصالون، حسب أحد المسؤولين الجزائريين، والشيء نفسه ينطبق على المركز الثقافي الجزائري في باريس.
أينَ السُّلطةُ من خِطابها الرَّسمي النَّظريِّ حِينَما يَتعلَّقُ الأمرُ بالهويّةِ المُتَنوعة حتمًا، والتي لا يجب أن يُعادُ النَّظرُ فيها جهرًا باسم الجمهور والمالِ، كما تجَسّدَ لي ذلك في مطار هواري بومدين مُؤخرًا؟
مسؤوليَّةُ الرافضينَ للُغاتِ الآخرينَ من "الجِلدة" العربية والإسلامية مطروحة هي الأُخرى، ما دام التَّنَوُّعُ يُشكِّلُ خَطرًا وجوديًّا على هويَّةٍ يُريدونَ أن تَكون ضد حريَّةِ أصحابِ هويَّاتٍ أُخرى، يرى دُعاتها أنها إنسانية ومطلوبة اجتماعيًّا.

هوامش:
[1] وصفٌ يُطلق في الجزائر على الذين يُدافعون عن اللغة الفرنسية كانعكاس لطريقة تفكير، وليست كغنيمة حرب فقط كما قال عنها كاتب ياسين. التسميةُ تُفسِّر حقيقَةَ الانقسامية الأيديولوجية على خلفية لغوية. الذين يرفضون تعبير ياسين، يعتبرون اللغة الفرنسية لغة الاستعمار القديم والجديد، حتى وإن كُتب بها الكثير من الكتّاب للتنديد به.
[2] كلمة "البدر" غير صحيحة باللغة الفرنسية. "البدر" تُكتب دون حرف  e  ، El وليس El Badre.
[3] مؤسسة "أوكسجين للثقافة والفنون" حديثة النشأة لم تجد مُمولًا خاصًّا يؤمن بالثقافة، ولولا إيمان موثّق جامعي بها لما عرفت النور. 
[4] لم يَرد على رسالتنا الإلكترونية لطلب صور جديدة. الهاتف الثابت للمكتبة معطّل.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.