باستثناء بعض النصوص القصيرة (للغاية)، في غير مجلة ودورية، لم ينشر الكاتب الفرنسي بيير ميشون أي شيء (تقريبًا) منذ عام 2009. كان ذلك مع كتاب سردي هو "الأحد عشر/ Les Onze" (صدر عن "منشورات فيردييه" ــ 120 صفحة)، والذي حاز عنه، في ذلك العام، "جائزة الأكاديمية الفرنسية الكبرى للرواية"، حيث يستعيد فيه سيرة اللوحة الشهيرة التي تُعرف باسم "الأحد عشر"، والتي تصور "لجنة السلامة العامة" التي أنشأت في عام 1794 الحكومة الثورية (في عامها الثاني) كما التي فرضت سياستها التي عُرفت باسم الإرهاب. لكن ما بقي مجهولًا من تلك السيرة، هو: من الذي كلف بهذا العمل؟ في أي ظروف، ولأي غرض قام فرانسوا إيلي كورنتين، المعروف باسم "تيبولو الرعب"، برسم هذه اللوحة؟ هذا ما حاول ميشون الإجابة عنه (فيما لو جاز القول) من خلال مزجه الخيال والتاريخ، ليبعث الحياة، بقوته الاستحضارية المعروفة عنه، في شخصيات هذا "المشهد الثوري"، وفق تعبير ميشليه، الذي سيصبح بدوره أحد أبطال هذه الدراما.
تمرّ السنون، لغاية العام 2023، حيث عاد "طفل الأدب الفرنسي الرهيب المعاصر" إلى نشر الكتب. كان ذلك مع "النهران/ Les deux Beune"[*] (منشورات فيردييه)، والذي شكل مفاجأة بدوره. إذ كان في العام 2006، قد نشر كتابًا سرديًا بعنوان "النهر الكبير/ La grande Beune"، وهو عن "راو" في العشرين من عمره يصل إلى قرية كاستيلنو (تقع في منطقة دوردوني، مسقط رأس الكاتب)، ليعمل مُدرسًا في مدرسة القرية. كان ذلك منصبه الأول. وخلف ستار مطر سبتمبر الرمادي، وبين "دَرسَين في الإملاء"، يُسلّم المعلم الشاب نفسه لأعنف الأحلام القديمة والسرية والمضطربة، مثل الأمواج التي تتدحرج تحت المنازل في "النهر الكبير".
في هذه البقعة من العالم، حيث لا يزال أصل العالم يتكرر بشكله القديم، يفصل الجنس بين عالمين. من جهة، هنالك الرجال "المفترسون"، "الفظّون"، "الماكرون" بشكل رهيب. ومن جهة ثانية، النساء، بكلّ الصفات اللواتي يحملنها. نحن أمام امرأتين/ شخصيتين، يصورهما الكاتب ببراعة مدهشة. هيلين، صاحبة النُزُل، التي تمثل الأم الرمزية، وإيفون، بــ"جمالها الملكي" التي تثير في الراوي رغبة ملحة، بالإضافة إلى جميع أنواع العواطف التي تعرف جملته كيف تُدخلنا إليها وكأنها "محمولة مثل عدو الرنة في عصر مضى، العائدة إلى مشهد غريب، حيث يعرض الأطفال الحيوان المهزوم، التي تعض، أو تفر، مثل الذئب، في رسومات الكهوف".
"المفاجأة" التي أشرت إليها أن سردية "النهران" (2023) تستعيد في الجزء الأول منها القسم المعروف باسم "النهر الكبير"، (والذي نُشر بمفرده) ليضيف إليه الكاتب "تكملة" (غير منشورة سابقًا) بعنوان "النهر الصغير/ La petite Beune"، والتي يستعيد فيها القصة عينها والشخصيات نفسها التي تركها في ستينيات القرن الماضي... ليقدم لنا سردية متكاملة عن تلك اللحظة. ثمة "حدث" يدفعنا إلى التساؤل حول ما إذا كانت النصوص المكتوبة (وحتى المنشورة منها) تنتهي فعلًا، كما حول العلاقة بين "هذين المجريين"، وأقصد الصلة بين القسمين. ففي حين نجد في "النهر الكبير" هذه الروعة التي تمتد بسبب الرغبة التي تسيطر على الكتاب، نجد أن "النهر الصغير"، في النهاية، يقرر التصالح ــ ولو بشكل قليل ــ مع العالم كما هو. لكن أسلوب ميشون في "هذا القسم"، يبدو أكثر قسوة، وربما أقل فخامة (ممّا اعتدنا عليه في كتبه السابقة) وأيضًا أقل اكتمالًا، لكن وعلى الرغم من ذلك، يعرف كيف يُظهر نفسه كاتبًا عظيمًا عبر قدرته على ربط الموضوعات بقوة الاستعارة، ليُعبر في الوقت عينه عن النجاح والافتقار، عن "السخف والإبداع".
هذا العام، لم يدع ميشون قراءه ينتظرون طويلًا، إذ أصدر مؤخرًا كتابًا جديدًا بعنوان "أكتب الإلياذة/ J’écris l’Iliade" (منشورات غاليمار)، لنعود ونجد معه كلّ ذاك الألق الذي ميز هذه الكتابة الساحرة منذ روايته الأولى "حيوات صغيرة" (ترجمتها إلى العربية كيتي سالم، وصدرت عن "دار شرقيات" في القاهرة)، ويُذكر أن لــ ميشون كتابًا آخر نُقل إلى العربية هو "رامبو الابن" (دار الحوار ــ في اللاذقية، ترجمة رضوان ظاظا). تواتر في النشر لم نعرفه من قبل، وثمة فرح بالتأكيد، حين تقرأ كاتبًا مماثلًا، وبخاصة أن النصوص الأربعة عشر التي تُشكل الكتاب، تؤلف في النهاية "قصة" مبهرة، مليئة بالمعرفة، "سيئة السمعة" (العودة إلى ذاك المناخ العنيف الذي ميز كتابات ميشون، بكل ما يحمله من توابل حارة)، حساسة، صادمة، عميقة، كرنفالية، من خلال نثر مركز عبر تنوع زواياه وتألق صوره وفكاهته المتشعبة وسخريته بالطبع. باختصار، نحن أمام كتاب يأسر القارئ بقوة نادرًا ما وجدناها في الكتابة الفرنسية المعاصرة.
صحيح أن نصوص هذا الكتاب متنوعة بشكل كبير، إلا أنها تقع تحت ظلّ هذه "الشخصية الغامضة"، هذا "البطل والشاعر المسنّ"[**]: هوميروس، وكأنه هو من يشكل هذا الخيط، الذي يشبه "خيط أريان"، الذي يربط في ما بينها ويشدها. للوهلة الأولى، تظن أن هذه القصص "الغاضبة والمتفجرة" تعطي انطباعًا بأنها تهدف إلى السير في اتجاهات مختلفة، إلا أنها في العمق تخضع لتماسك عام دقيق ومعقد أشبه بحفل للألعاب النارية، حيث الشعلة الضخمة تتطاير في دوامة خصبة. في أي حال، ينتهي الكتاب بــ "محرقة جهنمية" تترك وراءها تلة رمادية اللون ذات "ستة أمتار بثلاثة، وعلى ارتفاع مترين".
ثمة نصان في الكتاب يؤكدان على قوة الأساطير: رغبة أكتيون/ Actéon الكونية، ورغبة "باسيفاي/ Pasiphaé" المحرمة. هنالك أيضًا نصوص أخرى تتحدث عن هوميروس؛ عن دخول خيمة أخيل، وبداية شيخوخته تحت رياح "إيوس"، الحلم بــ هيلين. والإسكندر، الثمل في بابل، حيث كان يحلم بهوميروس. أحدهما كان عجوزًا أما الآخر فلا، ولكنْ كلاهما على عتبة الموت يحلمان بالأدب المكتوب، أو المقروء، لأن هذا هو ما يدور حوله الكتاب في العمق: الأدب؛ عن وجوده في العالم، أكان على خليج في صقلية، أو في ساحة مزرعة. عن غيابه حين يتسلل بعيدًا، أو حين يكون شبحًا أصمّ.
لكي يقول ويعبر عن هذا الأدب الذي هو أيضًا حياة، يستعيد "أكتب الإلياذة" تلك الصلة مع تيّار "التخييل الذاتي" الذي سلكه بيير ميشون سابقًا. ستة نصوص، في البداية وفي النهاية، تتناوب مع هوميروس، وبورخيس، والأساطير، وتؤطرها. بل ثمة حياة تندمج فيها. قصص تتجذر في هذه الحياة. ديوميديس، وأياكس، في عرباتهما، أو بطرس، وهو يحصد بلاطه، إنها في النهاية القصة عينها. أما النصوص الأولى، فتعيد إلينا ميشون المفرط والمارق الذي وجدناه في "حيوات صغيرة"، أي ذاك "المبتهج بشراسة"، الذي يتلو أبيات الشعر بأعلى صوته، بينما كان يطرق يديه على مقاعد عربة قطار مهجورة، وهو يعبر فرنسا عندما "يرفع الليل الصواميل. هنا كنت مثل رجل حرّ، أي من دون قيود". هذه الحساسية المفرطة، "اضطراب الحواس كلها" هذا، يتأتى من جراء "الأمفيتامينات" ومضادات القلق التي تهدف إلى تثبيط رغبة الجيش الفرنسي في تجنيده، تحول قاطرة بخارية تسير على الماء تحت النجوم، في الواقع إننا أمام مبدأ المتعة والكتابة، هذا الثنائي الذي نجده في جميع أنحاء "أكتب الإلياذة"، حيث توحدهما رغبة شديدة واحدة. ففي هذه الآلة، يسمع الشخص الذي سيصبح، لاحقًا، بيير ميشون "النغمة التي هي أغنية الكون"، وهي بمثابة تجلّ للصدمات والاندفاعات، وتأملات سائق مستلقٍ على الصابورة تحت "الدب الأكبر". هذه اللغة التي تفرض الفكرة على الصورة حتى تفيض وتهرب، لكي تقدم لنا بجنون اليونان العظيمة، يونان الآثار والأساطير. لكن ميشون، الشاب يومها، زار صقلية، الذي كان يراقبه إله من خلال أعمدة سيجيستا، ليقيم في خليج إيريس (Eryce) ــ التي تمثل نارًا أخرى ــ، حيث كان مغمورًا بالرياح عينها التي كان يغتسل بها هوميروس العجوز وهو مستلقٍ تحت قماش السفينة في إيوس.
بالتأكيد، لا يكتب لنا ميشون عن ذلك، بل يكتب في قراءاته. إنه، كشخصية، هوميروس الذي، كشخصية أيضًا، هو بيير ميشون. كأنه مثل الإسكندر الأكبر، الذي يصل إلى أقصى حدّ للثمالة، الذي أصبح بطل السكارى، كان طامعًا في المطلق. إنه أيضًا مثل أخيل، الذي يتحول غضبه إلى غضب ميشون في "مالاما تاماي"، والذي يتحول إلى "ألسيد/ Alcide"، المزارع المجاور للكاتب الذي يدخل منزله في منطقة ليموزين، مرفوعًا مثل الرمح بالمنشار.
وعلى النقيض من ذلك، نجد في "الأعمى الآخر"، بورخيس، الذي يُظهر ما يشكل قوة النصوص الأخرى: كتاباتها التي تصبح موضوعها. "الأعمى الآخر" نص مدهش يتشكل من كاتبين عظيمين (بورخيس وستيفنسون)، من مفارقة (هوميروس الذي يسرق شكسبير)، من مواضيع (العمى، مرآة المظاهر)، لكن الآلهة غائبة عنه. ربما توجب ذلك، توجب الابتعاد عنها بشكل ضروري بعد هذا التوتر المأساوي ــ الكوميدي الذي عرفناه في "مالاما تاماي".
وفوق ذلك كله، يأتي تمثيل المرأة، في الكتاب، ليطرح مشكلة؛ إذ كان من الممكن، في العام 2025، أن يستفيد كتاب يدعي أنه مثير للشهوة الجنسية من امرأة أقل "انحناءً وتعريةً مثل الحيوانات"، "هذه الكومة من اللحوم المعروضة، طرية بعض الشيء، مسخرة بلا حدود، مهددة، مقضومة، كلها سقوط وشقوق وطيّات، تلك هي النساء العاريات في الرسم الياباني"،... إلخ. لا يتحدث ميشون عن النساء بهذه الطريقة فقط؛ في كثير من الأحيان، يتجنب الابتذال بمرونة بعد إحدى هذه المقاطع مباشرة. لكن حقيقة أن كل نص تقريبًا يحتوي على مشهد جنسي يعطي أحيانًا إحساسًا بأنه على عكس هيلين وباسيفاي وأرتميس ــ إلهات أكثر من النساء ــ فإن البشر هم مجرد كومبارس ينتقلون إلى خلفية الرغبة الذكورية. النص الأطول في الكتاب، "عودة هيلين"، يتحدث عن شغف سادي ــ مازوخي، نراه من خلال عيون مراهق فضولي. لكنه ليس الأكثر نجاحًا. ربما لأنه يشبه رواية "النهر الكبير" ــ أي نجد العلاقة عينها بين امرأة "فخمة" وشاب صغير القامة، مدرّس، طفل، الريف ــ ففي إعادة الكتابة هذه، بدلًا من الإيحاء، يبالغ في التفسير. لذاك نجد الكاتب أكثر إقناعًا عندما يستحضر بصوت شخصي للغاية ما ينتمي إلى الجميع: هيلين، بريام، الإسكندر، استراحة الدب الأكبر، طبيعة الهواء على شواطئ البحر الأبيض المتوسط؛ عندما يصنع خوذة أخيل، وهي قاطرة، "المادة المعادية والغبية في الليل"، من مواد خرسانية رهيبة.
من دون شك، تتناول كل هذه النصوص الأدب وتستدعيه. نقرأ المراحل التي يمرّ بها الإنسان عندما تهجره الكتابة، والسعادة العجيبة عندما تعود. لا يوفر ميشون نفسه من هذا الأمر، بل يسخر من الكتّاب الآخرين والنقاد والجمهور الذين "عبدوه". وبخاصة، يسخر من نفسه: ففي نص "لغة نقية"، يقوم كاتب خيالي بتدمير أحد نصوصه الخاصة لأنه "يبدو مثل ميشون، سادي ومزعج في الوقت عينه". فحين نقرأ: "ميشون، بجنون العظمة التي لديه، ينغمس في الفاحش، بدءًا من الجزء الثاني من قصته عن بون (النهر)، التي لا تستحق سنتًا واحدًا"، فلا بد أن نتردد في التساؤل عن هذه السخرية. أما الآلهة، أكانت في حالة سكر، أو في حالة من تضخم الكبرياء، فغالبًا ما تغرق في السخرية، ولكنها تتحدث أيضًا من خلال فم المهرج. يتشابك في هذا العمل الجدي والكوميدي، والسامي والغريب. لا يخفي المؤلف الإفراط والقسوة التي يحملها ميشون ــ الشخصية ــ في داخله، فهو يصعد على حصانه العالي، ويذهب إلى أبعد مما ينبغي: "الغطرسة المحملة حتى الفم تنطلق وحدها، أنا أنفجر". أما الكاتب في نص "لغة نقية" الذي لا ينشر شيئًا نجده ينتحر. لحسن الحظ كان اسمه سيلفان ديليل، وليس بيير ميشون.
أسلوب ميشون في كتابه هذا فهو أكثر حدة، وأكثر جفافًا ممّا هو عليه في كتبه الأولى، بيد أن صوره لا تزال غير متوقعة وحادة ومبهجة. من هنا أجد أن "أكتب الإلياذة" يؤكد مكانة بيير ميشون ككاتب عظيم، ليس لأنه الكتاب المتكامل، المثالي مثل أبولون، بل لأنه كتاب ينفجر بين أيدينا، يتنهد، ويزأر، يتأوه مثل ديونيسوس ليكشف لنا في الوقت عينه عن وجهات نظر متعددة للحياة، سواء أسميناها حبًا، أو نبيذًا، أو إلهة، أو أدبًا. وربما أيضًا لأن بيير ميشون تخلّى فيه عن حلم "اللغة النقية"، اللغة المطلقة التي من شأنها أن تشعل العالم، ما مكنه، عبر ذلك، أن يكتب وينشر (كتابين خلال عامين) لكي يمنحنا لمحات سامية من خلال نافذة الآلهة.
حتى هوميروس نفسه لم يرو حرب طروادة بأكملها.
هوامش:
(*) في منطقة Les Eyzies (دوردوني)، يعد مصطلح beune اسمًا شائعًا مرادفًا للتيار المائي، وفي بعض الأحيان يشمل حتى الأنهر، التي تنبجس في قاع الأودية. من هنا اتجهت إلى ترجمة العنوان بــ "النهران/ Les deux Beune"، و"النهر الكبير/ La grande Beune".
(**) أسمح لنفسي الإشارة هنا إلى كتاب باري بي باول الرائع "هوميروس"، الصادر في ترجمة لمحمد حامد درويش (مراجعة شيماء طه الريدي) عن "مؤسسة هنداوي" (نشر إلكتروني).