}

لالة بادي: صوت طارقي تجاوز الجنوب العالمي

هنا/الآن لالة بادي: صوت طارقي تجاوز الجنوب العالمي
جرت مراسم الجنازة بمسقط رأس الفقيدة بحضور رسمي وشعبي

لم تكن التجاعيد التي ارتسمت على وجهها، سوى دروب متباينة نحتها الزمن، بعد أن خطّ بها ذاكرة ممتدة ومتراكمة وناصعة، حفظت بها ومن خلالها الكثير من الألحان والقصائد والأشكال الثقافية الكثيرة، تلك التي أنجبتها جغرافيا الجنوب بصحرائه ورماله وفضاءاته الصوفية، وما يحتويه من تراث وعادات وتقاليد وقوالب فنية وموسيقية وأدبية يصعب حصرها وتصنيفها، صنعت هوية، وراكمت حضارة، وخلقت توجهًا مضيئًا أرسل خيوط أشعته النورانية إلى جميع الجهات، لم يبهر أو يضيء بها الجنوب فقط، ولم يكتف حتى بمساحات الجزائر باتساعها واختلافها وتنوعها، بل صال وجال العديد من دول العالم.
بذلك تكون بادي لالة بنت سالم، التي رحلت حديثًا، من أهم الأصوات الموسيقية النسوية الصحراوية الجزائرية، وأهم المتمرسات والمحترفات ممن عزفن على الآلة الموسيقية الطارقية "التندي"، حتى وُصِّفت ولُقِّبت، وعن جدارة واستحقاق، بـ"ملكة التندي"، لأنها تعاملت مع هذه الآلة بعقلية العاشقة الولهانة، لا تعزف على أوتارها بقدر ما تعزف على خيوط روحها، ولا تنظر لها على أنها وسيلة تسلية أو ترفيه، بقدر ما كانت تنظر لها على أنها جسر صوفي يوصل للذّة القصوى، تلك التي تسكن زوايا القلب وشغافها، تعالج النفوس المجروحة وتداويها، لهذا أحبها كل من سمع شعرها وعزفها وطريقة مداعبتها لتلك الآلة الوترية التقليدية التي أنجبها الجنوب، وحافظ عليها منذ عقود من الزمن، وورّثها لجيل بعد جيل، لتكون ملمحًا مهمًا وضروريًا من ملامح الهوية التي صنعت مجد وتراث الطوارق المتعدد والمختلف، عبّر به عن انتمائه ومحبته وطرق تعبيره وعيشه، فتناقلتها الأسر والعائلات، حتى تكون سجلًا يحفظ ثقافتهم بكل أشكالها.

جنوبية هزمت الجغرافيا

رحلت لالة بادي يوم 21 نيسان/ أبريل 2025، عن عمر ناهز 88 سنة (ولدت عام 1937)، ولقد تركت خلفها إرثًا فنيًا زاخرًا بالإنجازات، انطلاقًا من البيئة الحاضنة التي نشأت فيها، بل كان لها دور حاسم في بلورة موسيقاها وفنها ومعارفها الثقافية، فسمحت لها بالانتشار عالميًا، فقد تربت هذه الفنانة المتفردة في بيئة صحراوية عامرة بالفن والأدب، في مدينة عين قزام (تبعد عن العاصمة حوالي 2322 كم) الواقعة جنوب تمنغست، وهي منطقة حدودية على التماس مع دولة النيجر، لهذا نهلت من العديد من المعارف والفنون الأفريقية لدول الساحل والصحراء الكبرى، فحدث أن امتزجت تلك الفنون في بوتقة واحدة، تناسلت منها العديد من الطبوع المختلفة، ولقد كان للالة بادي دور محوري في هذا، وهي التي أشركت في فرقتها الموسيقية من خلال الجمعية التي أسستها سنة 1990 تحت تسمية "إساكتا" (تذكار) العديد من الأسماء الفنية، من النيجر ومالي والجزائر والعديد من البلدان الأخرى، وقد خلق لها هذا التنوع مزيجًا موسيقيًا أطرب وألهب كل من سمعه، خاصة وأن دور لالة بادي لم يكن إعادة ترانيم الماضي وموروثه الموسيقي فقط، بل جددت في موسيقاها، وأشركت في أغانيها العديد من الآلات الموسيقية العصرية، وهو الأمر الذي ضمن لها الانتشار من جهة، ومن جهة ثانية أخرجها من التقليدية إلى آفاق جديدة، أعطتها دفعًا قويًا للشهرة والتميز.




كما أصدرت الراحلة في عام 2017 أول ألبوم لها حمل اسمها، عادت من خلاله إلى العالم الموسيقي والشعري لمنطقة الأهقار في كل تجلياته وثرائه التقليدي والعصري، ميزه خصوصًا التنوع في الألحان والإيقاعات، ورغم أن صدور هذا الألبوم جاء متأخرًا، غير أنه كان يعكس فلسفة بادي في التعامل مع الأمر، بحكم أنها كانت تواجه الجمهور بشكل مباشر، بعيدًا عن التسجيلات والأجهزة الحديثة، قبل أن تغيّر رأيها وتجد الفرصة المناسبة لتسجيل أغانيها وحفظها.

"التندي" آلة تربط بين الأرواح والقلوب

تحتفظ ذاكرة بادي لالة بنت سالم بالعديد من القصائد الشعرية والمقطوعات الموسيقية، تلك التي ورثتها ونقلتها من عند والدتها وهي في سن العاشرة، وقد سمح لها هذا الاحتكاك بأهل الفن والشعر في خلق شخصية فريدة، تعرف جيدًا من أين تؤكل كتف الفن، من خلال معرفتها أصول هذه الحرفة التي أجادت ترويضها، حين حبستها وأرسلتها للجماهير العريضة، بعد أن صقلتها ومزجتها وألبستها أثوابًا جديدة، منسجمة وذات إيقاع ضاج بالروحانيات والجماليات السمعية غير المحدودة.

رحلت لالة بادي يوم 21 نيسان/ أبريل 2025، عن عمر ناهز 88 سنة


لم يكن زاد لالة بادي من خلال أسفارها الكثيرة التي جالت فيها الكثير من عواصم العالم ومدنها سوى حقيبتين، واحدة تضع فيها بعض الثياب والحاجيات النسائية، والأخرى تنام فيها آلتها التي تتوسد روحها وتتكئ على قلبها منذ عقود، وهي "التندي" التي لا يقربها الرجال، وهي عبارة عن آلة موسيقية يتم صناعتها من إناء خشبي يتم نحته بحرفة بالغة، ثم يتم تغطيته بجلد حيوان، وبعدها يتم وصله بخيوط من خلال عمود مصقول، بعدها يتم العزف عليه من خلال قوس يشبه الرمح.
وقد درجت العادة على العزف على هذه الآلة الموسيقية في ثقافة الطوارق، خاصة في مدينة تمنغست، في الأفراح وحفلات الزواج والأعياد الدينية، خاصة خلال المولد النبوي الشريف، كما تم استعمالها حسب الثقافات الشعبية في المنطقة لطرد الجن وتطهير الأرواح من دنسها، حتى أن هناك من كان يعزف بها للمصابين بلدغات الأفاعي والعقارب، إضافة إلى العديد من الاستعمالات الأخرى.
وتعود جذور موسيقى التندي، بحسب الباحث بيدا بادي، وهو شقيق الفقيدة لالة، إلى سنة 1935، وهي معلومة مستقاة من مقال نشرته صحيفة "العربي الجديد" بتاريخ (03 شباط/ فبراير 2018)، حيث ذكر صاحب المقال، نصر الدين حديد، بأن التندي انتقل "من منطقة الطاسيلي في الصحراء الجزائرية إلى منطقة "الأهقار"، بعدها رحل إلى مالي والمناطق المجاورة لها، وعاد بشكل أكثر جودة في نهاية السبعينيات، ومنذ ذلك الحين تعدّدت استخداماته الاحتفالية والطقوس المرتبطة به في مجتمعات الطوارق".

مساحة الحرية لدى المرأة الطارقية ومنطلقات التجديد

مساحة الحرية التي يعطيها مجتمع الطوارق للمرأة ساهم بشكل أساسي في ظهور فنانة شاملة ومتكاملة مثل لالة بادي، وقد سمحت لها هذه الحرية في التقدم والتطور والتنقل، ما طوّر من موهبتها ووسع من حاجتها لتقديم ما هو أفضل للفن الصحراوي بشكل عام، وبعد التقائها وتعرفها على الفن العالمي استطاعت أن تمزج بين الفن التقليدي والتجديد، وهذا من خلال خلق موسيقى مختلفة تمزج فيها بين التندي والقيثار الكهربائي.




خلق موت هذه الفنانة حالة من الحزن الكبير في الجزائر وخارجها، وهذا بعد معاناة كبيرة لهذه المرأة الرمز مع المرض، خاصة مع تقدمها في العمر، حيث مكثت أيامًا في أحد مستشفيات مدينة تيزي وزو، وبمجرد إعلان موتها قدمت العديد من الجهات تعازيها الخالصة إلى عائلة الفقيدة، من بينهم وزير الثقافة والفنون زهير بللو الذي سافر لحضور مراسم العزاء والدفن رفقة وفد رفيع، كما قدّم برقية عزاء باسم رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، والذي أعرب فيها عن تعازيه الخالصة لأسرة الفقيدة وإلى كافة أفراد الأسرة الثقافية والفنية داخل الوطن وخارجه، مُشيدًا بمكانة الراحلة في المشهد الموسيقي الوطني والدولي، وبما قدّمته من إسهامات رائدة في التعريف بالتراث الموسيقي الجزائري الأصيل، وصونه وإعادة بعثه برؤية معاصرة.
وقد جرت مراسم الجنازة في مسقط رأس الفقيدة، بحضور رسمي وشعبي واسع، شارك فيه فنانون، ومثقفون، وأعيان المنطقة، والعديد من محبي ومتابعي هذه الفنانة التي قدمت الكثير إلى الفن الجزائري والطارقي والأمازيغي.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.