}

جدار الفصل العنصري في فلسطين وسيكولوجيا الغيتو

باسم سليمان 4 يوليه 2025
هنا/الآن جدار الفصل العنصري في فلسطين وسيكولوجيا الغيتو
مقطع من جدار الفصل العنصري بفلسطين(Getty)
"جدارٌ في الرأس" هذه هي الاستعارة التي وصّف بها الشعب الألماني شعوره ولاشعوره إزاء جدار برلين حتى بعد هدمه، وإننا نجدها أكثر موضوعية وذاتية عندما نقارب بها واقع الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، سواء أكان الأمر على الصعيد العقائدي التنظيري أو الممارساتي على الأرض، فالجدار في العقلية الصهيونية هو مدماك وجودي لا يمكن أن تقوم من دونه، وليس لأنّ الآخر كما تدعي رافضًا لها، بل لأنّها هي بذاتها ترفض الآخر، لذلك ترفع الجدران والأسوار والأسيجة في وجه الآخر. وهذا ما نجده في أول الإرهاصات التطبيقية للاحتلال الإسرائيلي لفلسطين عندما كانت تحت الانتداب البريطاني، قبل أن تشرع بعد زمن طويل ببناء جدار الفصل العنصري حول الضفة الغربية في حزيران/ يونيو عام 2002 إبّان حكومة أرييل شارون مستندة بمشروعية هذا الأمر إلى أسباب أمنية إثر الانتفاضة الفلسطينية الثانية وهجمات المقاومة.
لقد أنشأت إسرائيل الكثير من المستوطنات الزراعية ما بين عامي 1936- 1939 تحت مسمى "سور وبرج". أمّا كيف كانت تقام تلك المستوطنات؛ فالأمر كان يتم تحت جنح الظلام، حيث تُقام المستوطنة على مساحة كيلو متر مربع، تُبنى فيها عدّة أكواخ وبرج للحراسة وتحاط بسور خشبي مزودج مملوء بالرمل والحصى مع الأسلاك الشائكة. وقد كانت تجهّز أجزاء المستوطنة مسبقًا، بحيث ما إن يحضر المستوطنون إلى موقع البناء حتى يشرعوا بالعمار، وذلك تفاديًا للاعتراض المزيّف من سلطة الانتداب البريطاني. قد نتصوّر أنّ مصطلح "سور وبرج" قد كان وصفًا للطبيعة المادية للمستوطنة، لكن إذا عدنا إلى نشيد الأنشاد في التوراة، سنجد أنّ هذا المصطلح قد أتى ضمن استعارة شعرية عشقية، يا للغرابة!: "أَنَا سُورٌ وَثَدْيَايَ كَبُرْجَيْنِ". لا يمكن أن تبتدع هذه الاستعارة الشعرية من فراغ، بل هي انعكاس لعقيدة الجدار في الفكر اليهودي، وعند البحث عن هذه العقيدة الجدارية، نلقى أنّ هناك أكثر من استعارة في نشيد الأنشاد تذكر الأسوار والأبراج: "عُنُقُكِ كَبُرْجِ دَاوُدَ الْمَبْنِيِّ لِلأَسْلِحَةِ- فَمَاذَا نَصْنَعُ لِأُخْتِنَا فِي يَوْمٍ تُخْطَبُ؟ إِنْ تَكُنْ سُورًا فَنَبْنِي عَلَيْهَا بُرْجَ فِضَّةٍ". وعند التوسع في البحث في أسفار التوراة الأخرى، نجد الحضّ والأمر على بناء الأسوار والجدران لا يفارق عقلية اليهود في ذلك الزمن، وقد انعكس ذلك على الفكر الإسكاتولوجي/ الأخروي في رؤيا يوحنا اللاهوتي، فبعد أن تنتصر العقيدة اليهودية على الأرض كما يتصوّرون، ما الداعي حينئذ لأن تكون أورشليم المقدسة التي ستهبط من السماء وتجمع شمل اليهود مسوّرة بذلك الحرص! في سفر أشعيا نجد بأنّ الأمان والخلاص بالنسبة للإسرائيليين لا يكون إلّا بمدينة محصنة، حتى لو كانوا وحدهم لا دول أخرى معادية قربهم: "فِي ذلِكَ الْيَوْمِ يُغَنَّى بِهذِهِ الأُغْنِيَّةِ فِي أَرْضِ يَهُوذَا: لَنَا مَدِينَةٌ قَوِيَّةٌ. يَجْعَلُ الْخَلاَصَ أَسْوَارًا وَمَتْرَسَةً". وبالمقابل إن أراد الرب معاقبة الإسرائيليين فإنّه يهدم أسوارهم كما جاء في سفر التثنية: "وَتُحَاصِرُكَ فِي جَمِيعِ أَبْوَابِكَ حَتَّى تَهْبِطَ أَسْوَارُكَ الشَّامِخَةُ الْحَصِينَةُ الَّتِي أَنْتَ تَثِقُ بِهَا فِي كُلِّ أَرْضِكَ. تُحَاصِرُكَ فِي جَمِيعِ أَبْوَابِكَ، فِي كُلِّ أَرْضِكَ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ". إذًا السور هو عقيدة وقناعة وإيمان لا يمكن أن تقوم للإسرائيلي حياة من دونه، ومن الطبيعي أن تتسلّل هذه العقيدة حتى إلى الاستعارات الشعرية. وكما كانت التوراة شغوفة بمصطلح السور واستعاراته دعي الشعراء لتخليد ذكرى إقامة تلك المستوطنات (سور وبرج) في القرن العشرين، ففي قصيدة الشاعر يعقوب أورلاند (1914- 2002) "حنيتا" التي تغنّت بإقامة مستوطنة (حنيتا) التي تأسست عام 1938 كتب: "حنيتا/ أنتِ حدود سنوسّعها/ أنتِ حدود سنحدّدها/ أنتِ جدار الفولاذ/ في ليالي الحصار/ أنتِ الحلم المنشود".

الغيتو

هو مصطلح وضع لتوصيف تواجد اليهود في المدن الأوروبية، حيث كان يعتقد بأنّهم يجبرون على العيش في مناطق مخصوصة انعزالية، لا تسمح لهم بالاختلاط بشعوب تلك البلاد. وكان الغيتو يعتبر نوعًا من العنصرية، مشابهًا لمصطلح الأبارتهايد في جنوب أفريقيا إبّان الحكم الأبيض العنصري لها، الذي قسم المجتمع إلى بيض وسود، وحصر السود في بانتوستانات (بانتو تعني المتكلمين باللغة البانتو وهي لغة محلية، وستان تعني أرض) وبذلك يتم فصل السود عن البيض في تلك البانتوستانات العنصرية.

أنشأت إسرائيل الكثير من "المستوطنات الزراعية" (Getty)


لكن هل كان الغيتو حقًّا هكذا؟ لننظر في رأي رئيس المنظمة الصهيونية ناحوم غولدمان في الخمسينيات من القرن العشرين الذي يقول: "إنّ الغيتو يُعتبر اكتشافًا يهوديًا من الناحية التاريخية. ومن الخطأ القول بأنّ الغوييم (الأغراب) قد أرغموا اليهود على الانفصال عن بقية المجتمع. هناك فرق بين أن يختار المرء جيرانه بحرية، أو أن يكون مرغمًا على السكن في مكان معين. إنّ الغيتو لم يكن مجرد مجموعة من المنازل والمؤسسات اليهودية المحاطة بسور، سواء كان هذا السور مبنيًا أم سورًا نفسيًا، لم يكن سجنًا جماعيًا لليهود فرضه الآخرون عليهم، وإنّما كان سورًا دفاعيًا داخليًا، حقيقيًا ورمزيًا في آنٍ واحد، شكّل حصنًا شيّده اليهود لأنفسهم".




إذًا كان غولدمان يعاكس كلّ التعريفات التي وضعت للغيتو، بأنّه آلية إقصاء، فهو يراه عبقرية يهودية تحافظ على نقاء عرقهم وعقيدتهم وثقافتهم. ولا يأتي تحليل غولدمان من عدم، فالعقيدة اليهودية التي تمنع اليهود من الزواج من الآخرين، والنصّ على أنّ القومية اليهودية لا تكون إلّا بالدم، بل أكثر من ذلك إذ أنّهم يعتقدون بأنّهم شعب الله المختار، فلا ريب بعد ذلك، أن يسعوا بكلّ جهد ليحيطوا أنفسهم بالأسوار، وليس الآخرين من فعلوا ذلك بهم. وإن كانت هناك حالات عديدة أجبر اليهود بها على العيش في مناطق مخصوصة، إلّا أنّ الأمر كان يوافق هواهم. وعندما نادى الشاعر الإصلاحي ليف جوردون بضرورة انفتاح اليهود على الشعوب من حولهم وخروجهم من محابسهم العقائدية والمادية في قصيدته: "انهض يا شعبي" قائلًا: "كن يهوديًا في بيتك وإنسانًا خارجه" لم يلق آذانًا صاغية لهذه الدعوة الإنسانية، فعقلية الغيتو متجذّرة في العقيدة الإسرائيلية.

النكبة الثالثة

عدّ الفلسطينيون جدار الفصل العنصري بأنّه نكبة ثالثة، قد أصابتهم بعد نكبة حرب 1948 وحرب 1967 لأنّه قد قطّع أوصال الضفة وفصلها عن أراضي عام 1948 المحتلّة، ولهم كلّ الحقّ في ذلك، فقد فتت البقية الباقية من فلسطين المحتلّة. بينما رأى الاحتلال به جدار الحماية والأمان متعلّلًا بالانتفاضة (الثانية) وهجمات المقاومة الفلسطينية. وعندما بدأ بناء الجدار على يد أرييل شارون في حزيران/ يونيو عام 2002 لم يكن استجابة مباشرة للأحداث في الحقيقة، كما أراد شارون أن يظهر الأمر، فقد كان الجدار أحد أحلامه، منذ عام 1973 وقد وضع مخططًا له على حائط مكتبه عام 1976 يتضمّن رسومًا أولية للسور الذي ستقطع به أوصال فلسطين وقد كان يسميه: "سور الصين العظيم".

فتاة تمد يدها إلى بالون أحمر، والبالون الذي يمثل الأمل قادر على تجاوز الجدار مهما ارتفع (Getty)


ومنذ ذلك الوقت والفكرة تتردّد في الأوساط الإسرائيلية، ففي عام 1994 اقترح وزير الشرطة (موشيه شاحل) خطّة لفصل الضفة وغزة عن أرض فلسطين وتتالت الاقتراحات إلى أن شُرع ببناء الجدار على يد أرييل شارون.
كان مسار الجدار وفق ما أعلن عنه، بأنّه سيكون على الخطّ الأخضر الذي يفصل الأراضي المحتلة عام 1948 عن عام 1967 لكن في حقيقة الأمر بُنى الجدار في أراضي الضفة بعمق يتراوح ما بين 5 إلى 10 كم، فاقتطع الكثير من أراضي الضفة ومنع الفلسطينيين من العودة إلى الأراضي ما بين الجدار والخطّ الأخضر، فتدهورت الثروة الزراعية لديهم، وهجّروا، ومنعوا من مصادر المياه التي استولت عليها إسرائيل، إلى جانب أنّ الخط غدا كحبل المشنقة، ففي مدينة كقلقيلية أصبح محيطًا بها بالكامل.
يبلغ عرض الجدار ما بين 80 إلى 100 متر ويتكوّن من: أسلاك شائكة لولبية، وخندق بعرض 4 أمتار وعمق 5 أمتار يأتي تاليًا للأسلاك الشائكة، وبعد ذلك شارع معبّد بعرض 12 مترًا؛ وهو شارع عسكري لدوريات المراقبة والاستطلاع، ويلي ذلك شارع مغطى بالتراب والرمل الناعم بعرض 4 أمتار، بهدف كشف آثار المتسلّلين على أن يجري تمشيط هذا المقطع من السور مرتين يوميًا صباحًا ومساء. ومن ثمّ جدار إسمنتي يعلوه سياج معدني إلكتروني تنصب عليه معدات إنذار وكاميرات وأضواء كاشفة وعناصر أمنية. يتراوح ارتفاع الجدار ما بين 4.5 و9 أمتار. أمّا من الجانب الإسرائيلي، فتعاد نفس بنية الجدار التي ذكرناها آنفًا. يمتد الجدار مسافة 730 كم أي أكثر من ضعفي طول الخط الأخضر الذي يصل إلى 320 كم. إنّ مقارنة جدار الفصل العنصري مع "خط بارليف" الذي أقامته إسرائيل على الضفة الشرقية لقناة السويس بعد احتلال سيناء لتمنع القوات المصرية من العبور لا يقل شدّة وعنفًا عنه. كذلك الأمر على خط آلون على الجبهة السورية، لكن هل صمدت تلك الخطوط الدفاعية التي أقامتها إسرائيل على الجبهتين الشمالية والجنوبية؟

الأسوار وفتاة البالون

يذكر الرسّام بانكسي الذي رسم لوحة غرافيتية عام 2005 قرب حاجز قلنديا على جدار الفصل العنصري وكانت تلك اللوحة الغرافيتية تمثل فتاة تمد يدها إلى بالون أحمر، بأنّ أحد العجائز الفلسطينيين الذي أبدى إعجابه بالرسم قد قال له: "عُد إلى وطنك، فأنت تُريد تجميل الجدار ونحن نكره أن يكون هذا الجدار جميلًا". أراد بانكسي أن يعلن احتجاجه على جدار الفصل العنصري، بأنّ البالون الذي يمثل الأمل قادر على تجاوز الجدار مهما ارتفع وارتدى الأسلاك الشائكة. وفي الوقت نفسه كان العجوز على حقّ أيضًا، فهذا الجدار رمز للبشاعة التي لا أمل معها. بين الرؤيتين أصبح الجدار معرضًا للاحتجاج الفلسطيني والعالمي ضد عنصريته التي أنشئ من أجلها، فقد رسم الكثير من الفنانين الفلسطينيين والعالميين عليه موقفهم المناهض له، وبذلك تم تقويض رمزيته المعنوية على الأقل بنظر الفلسطينيين وكلّ إنسان حرّ حقًا.
وأثبتت أحداث السابع من تشرين الأول/ أكتوبر عام 2023 وهم التسمية الإسرائيلية للجدار، بأنّه جدار الأمن والأمان. ومن هذا المنطلق لا يمكن أن يكون هناك من أمن وأمان إلّا بالسلام، لكن هل من بنى الجدار يريد ذلك؟ يبقى الجواب معلقًا في ذمّة الإنسانية على هذه الأرض.

* كاتب من سورية. 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.