"أن تنجو لتشهد" معرض تشكيلي افتراضي على منصة "آرت زون فلسطين" Art Zone Palestine (*)، للفنان الفلسطيني مروان نصار المقيم في غزة. أكثر من 280 لوحة معنونة في معظمها "مشاهد من الحياة اليومية في غزة"، أو غير معنونة، لكنها في الواقع تكشف عن "مشاهد من الموت اليومي في غزة" لا عن "الحياة اليومية". ومروان نصار من مواليد غزة عام 1984، تخرّج من كلية الفنون الجميلة في جامعة الأقصى، وعمل محاضرًا في كلية الفنون في الكلية الجامعية بغزة حتى السابع من أكتوبر، وجالت أعماله مع العديد من المعارض في غزة والضفة الغربية والقدس ونابلس والخليل. تُجسّد لوحاته اليومية مآسي الحرب معتمدًا على خطوط جريئة وتعبيرية مكثفة. منذ اندلاع الحرب، نزح مروان نصار مرات عدة داخل قطاع غزة، وفقد عددًا من أعماله بسبب القصف. ورغم الظروف القاسية التي مرّت عليه وتمرّ به، إلا أنه يواصل حضوره الفني، عبر وسائل التواصل، مؤكدًا التزامه بتوثيق الواقع الفلسطيني بريشة يقظة وروح مقاومة.
أن نقول 280 لوحة لفنان واحد في معرض واحد يعني أننا أمام مشروع هائل ومخيف في قدرته على الصراخ. كل لوحة تمثّل صرخة، هي أكثر من مشهد حيّ لألم التقطه مروان نصار خلال عبوره في طرقات الجلجلة الغزّاوية. لم يترك مروان نصار حزنًا ولا خوفًا ولا موتًا ولا جوعًا فلسطينيًا إلا وأرشفه، ولم يترك غدرًا وبطشًا ورعبًا إسرائيليًا إلا وصوّره، لترسيخه في الذاكرة؛ شهداء بأكفان بيضاء، جرحى محملون بنقالات، نزوح جماعي، جنود إسرائيليون يقتادون معتقلين "عراة"، معتقلون معقودو اليدين ومقرفصون، جنود إسرائيليون يسيرون مع كلاب، الأكثر قسوة لوحات البتر - أقسى مخلفات الإبادة- أطفال مبتورو الأطراف بلا معالم، غزّاويون يأملون أمام بحر غزة، رجال يائسون يعزفون على العود، بورتريهات لوجوه أدمتها الحرب؛ هذه ليست عناوين للوحات مؤقتة عن حرب ما، بل تأريخ موازٍ للأحداث المرعبة، تسجيل سريع قبل وبعد القصف، بضربات فرشاة عريضة، مسرعة وقوية وقاسية، عواصف لونية من الأحمر، الأخضر، الأزرق، والأصفر، وأحيانًا متنافرة، وكأنها انفجارات عاطفية أو توترات نفسية.
لوحات مروان نصار هي فضاء لتفريغ ما خلّفته الحرب فينا، تتقاطع ما بين الواقعية والتعبيرية والوحشية، يستعير نصار أدوات المدرسة الوحشية لناحية اللون والانفعال، لكنه يستخدمها في سياق واقعي وتعبيري، وفي سياق إنساني واجتماعي مرير. ملامح الأشخاص في اللوحات غير واضحة عمدًا، لكن مشاعرها واضحة، ما يعزّز الصدمة والحزن والغضب.
كل أعمال نصار تُحدث أسى عميقًا، كأنها تتناوب مع الشاشات على نقل مجريات الحرب، لنصبح فجأة أمام فضاءات تعبيرية لا تبرح مكان السرد بل تقبض عليه وتؤرّخه. اللون الأحمر يتكرر، إنه الدم، جثامين بلا أكفان، وأخرى ملفوفة بالأبيض ويُصلّى عليها. ثمة أجساد لأطفال مسجاة بالدم. وضع نصار في خلفية إحداها نصوصًا مكتوبة، كأن هذه النصوص هي طبقة مفاهيمية توثّق وتدين وتسائل. هنا يتحول العمل إلى الفن المفاهيمي، الكلمات مطموسة بالجسد، ولكن يمكننا أن نقرأ "وزادت الفجوة... الدول الأكثر... مليار ونصف لا يجدون مياهًا للشرب.. بلدان نامية... عولمة... أنظمة... تفكك الاتحاد السوفياتي كقوة عظمى... إرادة الهمينة على العالم وأمركته... إعطاء كل الأهمية للإعلام... بيان مخاطرها على... العربي..."...
كأن نصار يقول إن الجريمة موثقة، وهؤلاء هم الفاعلون، إنهم أولئك الذين يهيمنون على العالم، النص يشير إلى نظام دولي متواطئ، لوحة تحمل محتوى احتجاجيًا وأخلاقيًا وإنسانيًا. إنها لوحة تأبين ومساءلة في آن.
الأعمال الأكثر قسوة هي تلك التي وثّق فيها نصار الاعتقالات التي حدثت خلال الحرب، وكيف كان يتم تعرية الرجال، وتقييدهم. إحدى هذه اللوحات توثّق جنودًا يوجّهون أسلحتهم على مواطنين غزّيين مقيدين ومعصوبي العينين وعراة ومقرفصين على الأرض. الأجسام مشوّهة عمدًا، بلا تفاصيل تشريحية، لا تفاصيل في الوجوه، لكن غياب معالمها يعمّق الشعور بالظلم وباللاعدالة. الألوان القوية للأجسام تعكس الشعور بالاضطراب والألم، يبرز الأخضر، البرتقالي الداكن، والبنيّ، في تباين صارخ استقاه الرسام من التكنيك الوحشي الذي يهدف إلى التعبير عن التوتر والانفعال، لكن اللوحة تتجاوز المدرسة الوحشية نحو تعبيرية سياسية موجعة. إنه عمل يقترح بُعدًا توثيقيًا لوحشية المحتلّ، وبُعدًا نقديًا وسياسيًا، إذ أن خلفية اللوحة هي أيضًا نص مطموس بأجساد المعتقلين والجنود، ومما نقرأ فيها "Modenity... إنهاء القومية... تتراوح الثقافة بين انتشار الثقافات الغربية في الحياة اليومية..."، السطور لا تظهر بالكامل لكنها تومئ إلى سياق أوسع، وكأن هذا الفعل الإجرامي الذي يرتكبه الإسرائيليون هو نتاج التحديث الغربي وهو نفسه أحد أسس الثقافة الغربية كفعل استعمار على العالم.
يستخدم نصار الكتابة المطبوعة كقاعدة في عدد من لوحاته، يحوّلها إلى خلفية بصرية كأنه يعيد تفسير النص بطريقة موجعة أو يقترح نقضًا لمضمون هذه الأفكار ويعبّر عن تشوهاتها. فالمثل التي أصبحت نتاج الثقافة الغربية هي نفاق غربي بالكامل، في أعمال نصار. في لوحة تجريدية تعبيرية يلقي ألوانه بفرشات عريضة، وهو يغطي نصًا عن هذه المثل ويخفيه، فيما تظهر كلمة "الديمقراطية" بخط كبير أعلى اللوحة محاطة بعاصفة من الألوان التي تتعمّد تشويش المعنى. فالديمقراطية هنا لا تظهر كنظام سياسي، بل كفكرة محاصرة، ومتنازع عليها، وغير واقعية في السياسة الغربية، إنها عنوان فقط، لكن لا أثر لها في الحقيقة، حيث نقرأ من خلف الألوان "تصبح الديمقراطية مجرد ضرب... ما هي التجاوزات...".
ثمة لوحة تقدّم لنا حكاية غزة دفعة واحدة، تخبرها لعالم لا يرى، لعالم قرّر الاصطفاف مع المحتلّ والمجرم، نتذكر بول كلي وهو يقول "الفن لا يعيد إنتاج ما يُرى، بل يجعل غير المرئي مرئيًا". لوحة بقدر ما هي توثّق ما يُرى فهي تجعل الوجع مرئيًا، إنها تتجول بين الموجوعين وتلتقط أحاسيسهم المتعبة. اللوحة نفسها تحتكر الألم، فإذ بنا أمام جثة يحيط بها أفراد، جرحى على حمّالات، رجل يجرّ كرسيًا متحركًا تجلس فيه امرأة مبتورة الرجلين وطفل، وفي الخلف انتظار جماعي للمساعدات الغذائية، هو احتكار للألم أكثر مما هو انتظار لوجبة غذاء...
من اللوحات التي وثّق فيها نصّار أبناء غزة على شاطئها، لوحة تصوّر فتية يجلسون أمام قوارب فارغة متروكة بلا رحلات صيد سمك، الأجساد منحنية في تعبير عن الخيبة، ثمة تأمل في المياه يعكس الانتظار الطويل، الماء مرآة للقلق، ألوان الأزرق قوية وقوتها تنقل حدّة مشاعر الألم والشعور بالمنفى عن العالم الساكت. صحيح أنها صورة التقطتها عين مروان نصار من شاطئ غزة، لكنها أكثر من صورة للشاطئ، هي صورة للداخل الذي يقول "نحن وحدنا". يكتب نصار على صفحته على فيسبوك قرب هذه الصورة: "سترجع الطيور الى أعشاشها، ونحلق فى فضاء سماءنا الأزرق"، كأنه يواسي هؤلاء الفتية، كأنه كان معهم وقال لهم ذلك ثم عاد إلى خيمة لجوئه ليرسم ما رأى.
أما العازفون في أحد أعمال نصار، فلهم وجوه صلبة وقاسية وداكنة، ثلاثة رجال، أحدهم يغني وآخران يعزفان على العود، كأنهم بلغوا من العمر ألف عام، الوجوه أكبر من أصحابها، بل أكبر من زمنها. التدرّجات اللونية للأزرق والأخضر نحو الألوان الداكنة إنما تشير إلى عمق الانفعالية والصبر الذي لا مثيل له. نقرأ هذه المرارة اللونية والشعورية أيضًا في البورتريهات التي رسمها. وثمة لوحة يصوّر فيها نصار رجلًا أمام جمل كأنه يتحضّر للنزوح، لكن المؤلم في الصورة هو وجه الرجل، ليس وجهًا لكائن عادي، أشبه بوجه كائن فضائي بلون أزرق، فهكذا هم أهل غزة بعد كل ما آسوه، إنهم كائنات فضائية لا وجود لمثلهم ولصبرهم على الأرض، وما الجمل إلا رمز لهذا الصبر على مرارة وقساوة الحياة.
"كل صورة تُرسم هي سرد لزمن ما، فحتى الفراغات فيها تروي شيئًا"، يقول الرسام ديفيد هوكني، وهكذا هي أعمال مروان نصار الذي قرّر أن يرسم ليسرد، فحتى فراغاته إن وجدت لها طبقات سردية موجعة. "أن تنجو لتشهد" بقدر ما هو فعل نجاة جسدي في سياق الموت اليومي والإبادة اليومية في غزة، بقدر ما هو شاهد حيّ على هذه الإبادة، ومن ينجو لا يبقى كما كان، بل يحمل ندبات وحملات نفسية. الفنان لا يقدّم نفسه كناجٍ من الحرب، فلهذه النجاة وظيفة، وكل عمل من أعماله له دور كوثيقة احتجاج وصرخة بصرية في وجه العالم أجمع...
يُذكر أن منصة "آرت زون فلسطين" تأسست في بيروت خلال حرب الإبادة في غزة كردّ ثقافي على انهيار مصداقية النظام الدولي الغربي بعد أن كشفت هذه الحرب زيف هذا النظام الغربي وتواطئه مع الاحتلال. تسعى المنصة لتأمل تطوّر الفن الفلسطيني، مع التركيز على التجارب المهمّشة، واستعادة الأعمال المُغيّبة أو المُدمّرة بفعل الاحتلال والحرب التي قد تقود إلى مراجعة النظرة للثقافة الغربية. كما ترصد المنصة التحوّلات في الفنون البصرية بعد هذه الحرب، بوصفها لحظة مفصلية كبرى كالنكبة. وتهدف "آرت زون فلسطين" إلى بناء خطاب نقدي جديد يعكس الألم والصمود والتضامن، وتوفير مساحة للتفكير والإبداع، منفتحة على التعاون وتبادل الخبرات، لتعميق فهم المشهد الفني الفلسطيني وتطويره في ظل المتغيرات التاريخية والثقافية العميقة.
*يمكن مشاهدة المعرض على هذا الرابط:
https://www.artzonepalestine.net/exhibitions/marwan-nassar/artworks
من لوحات المعرض أيضًا:


تحميل المقال التالي...