}

عبد القادر رابحي: الشعرية الجزائرية بألف خير

حميد عبد القادر 23 يوليه 2018

 

يرى الدكتور عبد القادر رابحي أن الشعرية الجزائرية بألف خير، على عكس ما يظن الكثير من المهتمين بالأدب الذين يوجهون اهتمامهم الدائم للأجناس الأدبية الأخرى، والذين يجهلون مسارات تطور الشعر الجزائري عموما، والمعاصر على الخصوص.

وذكر الدكتور رابحي، في سياق هذا الحوار مع "ضفة ثالثة"، أن ثمة أسماء واعدة في المدونة الشعرية الجزائرية.

والدكتور عبد القادر رابحي (1959) شاعر وأكاديمي من الجزائر، يدرّس مساقي الآداب العالمية والنقد الأدبي الجزائري بقسم اللغة والأدب العربي بجامعة سعيدة الجزائرية. نشر العديد من القصائد في الجرائد والمجلات الوطنية والعربية. كما نشر الدواوين التالية: "الصعود إلى قمة الونشريس"، دار الغرب للنشر والتوزيع، وهران، 2004؛ "حنين السنبلة"، منشورات الاختلاف، الجزائر، 2004. وصدر له في مجال الدراسات النقدية "النص والتقعيد، دراسة في البنية الشكلية للشعر الجزائري المعاصر (في جزأين)"؛ "إيديولوجية النص الشعري"، دار الغرب للنشر والتوزيع، وهران، 2003؛ "إسنادية النص الشعري"، دار الغرب للنشر والتوزيع، وهران، 2003. وكذلك كتاب "أيديولوجية الرواية والكسر التاريخي... مقاربة سجالية للروائي متقنعا ببطله"، منشورات الوطن اليوم، العلمة، الجزائر، 2016.

ضيعنا فرصة بناء ذات ثقافية

جزائرية واضحة المعالم

(*) كان يبدو جليا أن الحركة الشعرية الجزائرية ظلت على علاقة وطيدة ببعض مسارات التجديد الشعري في المشرق العربي، وعليه، هل يمكن القول إن الركود الشعري الجزائري جاء كنتيجة وانعكاس لذلك الركود الذي تعرفه الساحة الشعرية العربية بصفة عامة؟

- كان بإمكان الحركة الشعرية الجزائرية أن تكون سابقة للمشرق في التأسيس لحداثة شعرية عربية فاعلة، لولا أن الواقع الثقافي الجزائري كان منقسما في تلك الفترة التاريخية الواقعة تحت القمع الكولونيالي بين المثقفين المفرنسين، الذين لم يستطيعوا أن ينقلوا الحداثة الشعرية الغربية إلى الواقع الثقافي الجزائري، والمثقفين المعربين، الذين كانوا مبعدين قسرا عن كل إمكانية للدخول إلى الحداثة الأدبية الغربية. ربما كان الشرخ الكبير بين رؤيتين للإبداع من هنا بالذات، ومن يومها راح كل فريق يبحث عن حداثته حيث يجدها. لقد نقل المثقفون المعربون حداثة مشرقية نقلها مثقفون مشارقة عن الغرب، أي عن الثقافة الفرنسية التي كانت تعلمها البرامج التربوية الكولونيالية للقلة القليلة من المثقفين الجزائريين الذين اختارتهم فرنسا للاضطلاع بمهام ثقافية مستقبلية. شكل هذا التناقض جدارا سميكا في الرؤية التي يحملها المثقفون الجزائريون عن بعضهم، والأخطر من ذلك أن كل رؤية تحاول أن تبني حداثتها الشعرية بمعزل عن الحداثة الأخرى. شيء من القطعة النقية الواحدة التي لا يستطيع كل وجه منها أن يرى ما في الوجه الآخر من إمكانات إبداعية. ولا أعتقد أن للمشرق أو للغرب دورا في هذا. إنها مشكلة المثقفين الجزائريين التي تنعكس على الشعر كما على الإبداع عموما بالنظر إلى ما توارثه هذا المثقف من تصورات مرتبطة أصلا بتضييعنا لفرصة بناء ذات ثقافية جزائرية واضحة المعالم. أما عن فكرة الركود الشعري، فأعتقد أنها فكرة خاطئة بالنظر إلى ما ميز المدونة الشعرية الجزائرية في الستينيات، وما يميزها اليوم من فاعلية كبيرة لا تحتاج إلى الاستلاف من أية شعرية أخرى، مشرقية كانت أو مغربية أو غربية.

(*) ما علاقة هذا الركود الشعري بانحسار التصورات الإيديولوجية التي كانت سائدة منذ الستينيات، بل حتى خلال الخمسينات مع تنامي المد الوطني والقومي، وأقصد هنا الطرح الحداثي المرتبط أساسا بالإيديولوجية اليسارية بوصفها مفهوما تقدميا تنويريا؟

- تعامل الشعراء الجزائريون في الخمسينيات من القرن الماضي مع الحداثة المشرقية تعاملا متميزا بالنظر إلى نظرائهم في العالم العربي، وكانوا السباقين إلى الانتقال بالوعي التجديدي من القصيدة العمودية إلى قصيدة التفعيلة في وقت وجيز جدا عن طريق الشاعرين أبو القاسم سعد الله وأبو القاسم خمار.  بعد ذلك، حدث نوع من الارتداد في تطور المدونة الشعرية الجزائرية نظرا لأسباب تاريخية مرتبطة بتكوّن مفهوم الجيل على المستوى الاجتماعي والثقافي في مرحلة تاريخية حساسة مشوبة بكثير من الضبابية والحيلة السياسية في صياغة المشروع الوطني الذي كان من المفروض أن يقود الدولة الجزائرية الحديثة إلى عالم أرحب وأكثر حرية. ولعل هذا ما ولّد لغلبة المفاهيم الإيديولوجية على الكتابة، وسيطرة فكرة الالتزام التي حددت المساحات التخييلية للإبداع وأدت بالوثبة التجديدية التي حققتها الشعرية الجزائرية في الستينيات إلى التراجع على مستوى اللغة والجماليات والبلاغات النصية. الشعر أصلا لا يحب التحديد، ولا يحب المكوث في القوالب العروضية والإيديولوجية، ولذلك وجد جيل بعينه فرصة الارتقاء بما قدمه جيل الستينيات من إمكانات تجديدية كبيرة.

(*) كيف لعبت الذائقة الشعرية الغربية، والفرنسية بالخصوص، على خلق تجديد شعري جزائري ضمن حداثة أدبية مختلفة؟

- رب ضارة نافعة كما يقال. هذا الجدار الذي بنته الظروف التاريخية والسياسية بين المبدعين مكن بطريقة غير مباشرة من خلق نوع من الشغف بالعوالم المرتجاة. هذه مهمة الشاعر الأساسية التي يريد أن ينكرها عليه الآخرون، أن يعرف ماذا يجري وراء الجدار، في الضفة الأخرى، في العالم المقابل أي المرفوض أو الممنوع. لقد اكتشف المثقف المعرب أن الحداثة التي يتطلع إلى فهمها عن طريق ما كتبه الشعراء والنقاد المشارقة هي نفسها الحداثة التي تحملها الكتب الكثيرة المنزوية في رفوف المكتبات في العاصمة في الستينيات والسبعينيات. ومن هنا، بدا للأجيال الجديدة أن النهل من هذه الكتب مباشرة، ومن التجربة الشعرية المشرقية كذلك بما تحمله من تراكم فني وجمالي كبير، كفيل بتجنيبهم المكوث في دهاليز القراءة الارتدادية للتجارب الشعرية من دون العودة إلى أصولها. غير أنه يجب الاعتراف أن الحداثة الشعرية الغربية ليست فرنسية فقط. لقد قرأ شعراء الثمانينيات تجارب شعرية عالمية كبرى تنتمي للإنسانية عن طريق الترجمات.

(*) وهل كان لها انعكاس على تلك العلاقة مع المشرق العربي؟

- سبق أن طرقت هذه الإشكالية في كتابي "إيديولوجية النص الشعري" بما يعني أن الشعراء الجزائريين ضيعوا في مرحلة معينة فرصة عظيمة لتحقيق حداثة شعرية سباقة لأنهم لم يدركوا معنى أن تكون كتب رامبو ومالارميه وسوزان برنارد بجانبك، ولا تستفيد منها نظرا لموقفك الإيديولوجي. كذلك الأمر بالنسبة للتجارب الشعرية التي كتبت باللغة الفرنسية وكانت مقطوعة بصورة ما عن جذورها الثقافية والتخييلية. لقد أصبح الشعراء الجزائريون، وخاصة جيل الثمانينيات بما شهدته هذه الفترة من انفتاح، أكثر تقبلا لفهم ما يجري في العالم من تحولات تاريخية وأكثر استعدادا لتمثل جماليات المرحلة التاريخية. كما مكنهم تكوينهم العلمي من الولوج بوعي في العوالم المتشابكة لفعل الحداثة الإبداعية بدون عقد لغوية أو سياسية أو إيديولوجية. والأكيد أن هذا الجيل بالذات لم يتوقف عند ت. س إليوت كما فعل شعراء التفعيلة (والملائكة)، ولم يتوقفوا عند روني شار ورافائيل ألبرتي كما فعل أدونيس. لقد تعددت المرجعيات بفعل تعدد الانفتاح على الثقافات العالمية وسهولة الاتصال بها. لقد تجاوز الشعراء الجزائريون كثيرا من العُقد المرتبطة باللغة والإيديولوجية والشكل مع الوعي المختلف لمفهوم المرجعية الإبداعية.

الحداثة الشعرية

السبعينية شكلية

(*) في كثير من دراساتك تصف المرحلة السبعينية وحتى مرحلة منتصف الثمانينيات كمرحلة حداثية في مسارات الشعرية الجزائرية، كيف برزت هذه الحداثة شعريا، ومن هي الأسماء الشعرية التي يمكن أن نذكرها في هذا السياق؟

- مثلما أشرت سابقا، كانت الحداثة الشعرية تسير في الستينيات وفق تطور البنيات النصية تطورا باطنا مضمرا يمتح من سلسلة إسنادية تحترم سنن التطور الإبداعي والشعري. لقد تحدثت عن هذه المسألة في كتاب "إسنادية النص الشعري" مطولا وشرحت بما توفر لي من مراجع أن مرحلة السبعينيات ثبطت من إمكانية تطور طبيعي للنص الشعري الجزائري بسبب إثقال كاهل الشاعر والنص بالمحددات الفكرية والإيديولوجية والموضوعاتية التي لم تعط للنص ولا للشاعر فرصة في احترام التطور الطبيعي الذي نجده في نصوص سعد الله ومحمد الصالح باويه السابقة.

 لقد كانت الحداثة الشعرية السبعينية حداثة شكلية مكبلة بلوازم لا علاقة لها بالشعر وبالتصور الذي يجب أن يكون عليه. لكن يجب الاعتراف للمدونة السبعينية الآن، إذ أراها قد لعبت دورا كبيرا في ترسيخ الحداثة الشكلية وتمتين قاعدة التقبل لقصيدة التفعيلة في مرحلة سمعية وذوقية مناوئة.

(*) بالرغم من أهمية هذه المرحلة إلا أنها لم تتمكن من فرض نفسها كمرجعية شعرية مهمة وكتجربة مؤثرة، هل لأنها انتهت مع انتهاء الإيديولوجيات التي عبرت عنها؟

- يبدو لي أن الوقت الراهن يقتضي العودة إلى هذه المرحلة التاريخية المهمة في حياة الشعرية الجزائرية المعاصرة. كما يجب الاعتراف أن جل ما كتب عنها كان تحت وطأة الإيديولوجية المضادة كذلك. لقد ظهر الصراع السياسي في النصوص وحول النصوص. وكان مفهوم الحداثة هو حصان طروادة والضحية الكبرى في الوقت نفسه. ما أحدثته هذه المرحلة من جدل جدير بأن يعاد النظر فيه بإعادة قراءة بنظرة أكثر حيادا وأكثر إحضارا للشرط التاريخي الذي شكلها. ولا أعتقد أن التصور الإيديولوجي هو المحدد لطرائق الكتابة وشروط اندراجها في الحداثة. لقد زال التزمت الذي كان يطبع القناعات وبقيت القناعات كما هي، نظرا للوعي الذي حدث في مقاربة الإبداع وربطه بالصراع السياسي أو الثقافي أو الإيديولوجي.

(*) هل انعكست الصراعات الإيديولوجية لمرحلة الثمانينيات على الفضاء الشعري الجزائري؟

- نعم. تماما كما انعكست صراعات مرحلة السبعينيات على الفضاء الشعري لتلك الفترة. لقد حملت مرحلة الثمانينيات كثيرا من الماء إلى البئر المعطلة للشعرية الجزائرية نظرا للانفتاح الكبير الذي شهدته المرحلة على المستوى السياسي والثقافي، مما أدى إلى عودة القضايا المكبوتة أو الممنوعة أو المضمرة في الخطابات الثقافية إلى الواجهة. والجميع يعرف كيف انتهت هذه المرحلة بما حملته من مقاربات متصارعة أدت إلى تجاوز الخطوط والدخول في النفق التسعيني المظلم. هذا يدل على أن المشروع الثقافي الذي رافق تكوين الدولة الوطنية كان مجحفا في حق العديد من الإحداثيات التي شكلت جزءا من التاريخ الثقافي الوطني. لقد رافق جيل الثمانينيات نوع من العودة الكبرى للمرجعيات المغيبة (التاريخ، اللغة، الهوية، الدين) إلى الساحة الثقافية والاستغلال الإيديولوجي المفرط لإبعادها، مما شكل وعيا مختلفا لدى شعراء هذا الجيل بمصادرها وبمآلاتها عن الجيل السابق السبعيني السابق الذي عبر مرحلته السبعينية وكأنه يعبر ذلك النهر الطويل الهادئ. نرى ذلك جليا في ما كتبه شعراء الثمانينيات من دواوين تشي بعمق المرحلة وتتنبأ بصعوبة ما كان قادما.

(*) عرفت الجزائر انفتاحا ديمقراطيا وتعددية سياسية مع مطلع التسعينيات، لكنها لم تنعكس إيجابا على الحركة الشعرية، لماذا؟

- عايش الشعراء الجزائريون الانفتاح الثقافي والإبداعي في مرحلة الثمانينيات، وانعكس ذلك جليا في كتاباتهم. ولم يكن الانفتاح السياسي في التسعينيات بالنظر إلى العديد منهم إلا لعبة ربما أدركوا سطحيتها وعدم تجذّرها في الواقع الجزائري قبل غيرهم حتى من السياسيين. ربما عكسنا السؤال لحظة لنلاحظ عدم استفادة الانفتاح الديمقراطي من كتابات المثقفين الجزائريين في هذه الفترة التاريخية العصيبة، ومن آرائهم الرزينة والبناءة، وأقصد هنا كتابات علماء الاجتماع المعروفين في تلك الفترة خاصة. أما الشعراء فنصوصهم تزخر بما يمكن أن يعتبر نبوءة لم ينتبه إليها السياسيون والإيديولوجيون في ذلك الوقت.  ربما تجاوز الشعراء الجزائريون اليوم مرحلة "النبي"، ودخلوا في مرحلة أكثر عمقا في فهم الذات الجزائرية من خلال الالتفات إلى ما لم تلتفت إليه المدونة الشعرية الجزائرية من قبل. وأصبح الشعراء ينظرون إلى الأبعاد الدينية والهوية نظرة هادئة، كما أصبحوا ينظرون إلى التجديد الشعري والحداثة بروح أكثر انفتاحا من خلال تجاوز عقد الأشكال التي كثيرا ما عرقلت مسارات البحث عن عوالم إبداعية أخرى.

لا نقرأ الشعر

(*) ما هي الأسماء الشعرية في الوقت الحالي، التي يمكن أن نعتبرها أسماء مرجعية في الفضاء الشعري الجزائري؟

- قد أظلم العديد من أصدقائي الشعراء إن أنا ذكرتهم بالاسم فنسيت بعضهم، أو تحاشيت أسماء فبدا الأمر متعمدا. وربما طالت القائمة، لو ذكرت الأسماء، إلى درجة لا يصدقها الذين يحملون فكرة سلبية مسبقة عن الشعر الجزائري. ما يهم هو أن الشعرية الجزائرية بألف خير كما يقال، على عكس ما يظن الكثير من المهتمين بالأدب الذين يوجهون اهتمامهم الدائم للأجناس الأدبية الأخرى، والذين يجهلون مسارات تطور الشعر الجزائري عموما، والمعاصر على الخصوص. ثمة أسماء واعدة في المدونة الشعرية الجزائرية تتخطى بنصوصها ما يكتب في المشرق العربي. كما أن هذه النصوص لو ترجمت إلى لغات أخرى لأخذت بعدا عالميا دون مزايدة. المشكل أننا لا نقرأ الشعر، وهذه ظاهرة يقال إنها عالمية للأسف، ولا نهتم بطبعه في الجزائر، وهذه كارثة بالنسبة للعديد من التجارب الجديرة بالتثمين، ولا نهتم بنقده، وهذه مسألة لها علاقة وطيدة بالتوجهات النقدية التي أغلق الخطاب النقدي الجزائري نفسه حولها. ولهذا وجب الاهتمام بالعديد من الشعراء الجزائريين الشباب الذين يحملون فعلا رؤية عميقة في الكتابة بإمكانها أن تبقي النص الشعري الجزائري في مقدمة ما يُكتب، وبعضهم لا يجد حتى من يدله على طبع ديوانه.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.