}

عبدالله عيسى: أنتمي للنص الذي يكتبني

عماد الدين موسى عماد الدين موسى 20 يناير 2019
ــــ

 

تكاد النبرة الاحتفائية الحميمة لا تفارق قصيدة الشاعر الفلسطيني عبدالله عيسى، ثمّة حوار مستمرّ مع "قتلاه"، كما يسمّيهم، نجده في أعماله الشعريّة، منذ باكورته "آلاء" (1996)، مروراً بدواوينه "موتى يعدّون الجنازة" (1997)، و"حبر سماء أولى" (1998)، و"قيامة الأسوار" (2000)، و"رعاة السماء رعاة الدفلى" (2014)، وصولاً إلى آخر إصداراته "وصايا فوزية الحسن العشر" (2017).

الشاعر عيسى، من مواليد مخيم ببيلا في سورية عام 1964، حاصل على دكتوراه في الآداب من جامعة موسكو، وحائز على عدة جوائز عالمية، عمل في مجال الإعلام المكتوب والمرئي والمسموع منذ مطلع الثمانينيات، كما عمل محرراً للشؤون الثقافية في راديو "صوت روسيا" منذ مطلع التسعينيات، ثم مديراً لوكالة الأخبار العربية منذ 2008، وممثلاً لمحطة وتلفزيون "دي إتش فيلله".

صدر له عدد من الدواوين الشعريّة والكتب النقدية، كما أنتج العديد من الأفلام الوثائقية.

هنا حوار معه:

- ماذا عن واقع الشعر العربي الراهن؟

- لا يجدر بالقراءة المتأنيّة لواقع الشعر العربي أن تتوسل البحث في حالاته وتجلياته أو تداعياته بمعزل عن استقراء الزمان والمكان العربيين كشرطين أساسيين في صياغة أو صناعة الذهنية العربية التي تقدم الشعر. فلا يمكن عزل الشعر كمادة تعبيرية عن التصورات التي تنتجه، وتجعله في المحصلة نموذجاً أو معياراً فنياً أو قيمياً. فكيف يمكن التنظير بما وراء الحداثات الشعرية في زمن النكوص إلى المعتم والظلامي في تاريخنا السالف، وفي مكان آيل للخراب الأبدي، حيث تجزّ فيه أعناق الكائنات الحية والأوابد الأثرية الدالة على المضيء في ماضينا؟ وهل يستوي في هذه الدوّامة من الدم والدمار اللانهائي فيك وحولك أن يكون الشاعر، كما كان يحلم قبل بضع عقود بأن يقدم ذاته المبدعة في منجزه الإبداعي قبل عقود، راصداً للعالم أم مفسّراً له أم نبيّه أم حداثيّاً، قادراً على تغيير العالم بالشعر، أو جعله أكثر جمالاً... إلخ، مع الهجوم الظلاميّ اللاإنساني لأصحاب اللحى والفتاوى في تحالفاتهم مع صناع الخطابة المألومة المجترّة الذين عادوا بالشعر إلى أغراضه الأولى من مدح وهجاء، وسواهما، تقدمه منابر ووسائل الاتصال الحديثة الحدائية على أنه القيمة الأكثر انتشاراً وقابلية؟

ثمة حنين طاغ للعودة للتمسك ببلاغة الموتى في ماضينا، أو غواية تستدرج كثيرين للمصالحة مع فصاحة الخطباء البليدة، للقبض على انتباه جمهور مأخوذ أصلاً بذاكرة ووعي القديم الباردين، قصيدةً وفكرةً.

غير أني على إيمان مكين بأن الحداثة الشعرية، مرتبطة بحداثات الفاعلية الجمالية والاجتماعية، سوف تجسد النقيض الحيوي لهجوم الظلامي، أشكالاً وإيديولوجيا، والكابح الموضوعي لاختراقه الزمان والمكان العربيين. كما أنني أظن أحياناً أن الشعر معافى أكثر من الواقع الذي ينتمي إليه. فالمشهد الحياتي أشبه بمسرح العبث، فيما الشعر أشبه بالفعل المسرحي.

 

قصيدة النثر تحولت إلى نمط

- هناك فترة زمنية لا بأس بها، بين صدور مجموعتك الجديدة "وصايا فوزية الحسن العشر" ومجموعتك السابقة لها، لماذا كل هذا الزمن بين الإصدارين، هل بسبب رداءة التعامل من قبل الناشر العربي مع الكتب الشعريّة أم هناك أسباب أخرى؟

- مردّ ذلك هو شغلي على ديواني الشعري الجديد، بعد نشر ديواني الأخير "وصايا فوزية الحسن العشر" الذي خرج للقارئ وأصبح من ممتلكاته أو أشيائه الخاصة، ولهذا من حقه أن يعيد بالقراءة، ومع كل قراءة، إعادة كتابته بتأويلاته واكتشاف انزياحاته الجمالية التي شكلت عناصر مختبري الشعري طيلة فترة أو سني كتابته. أؤمن أن أي ديوان أكتبه لا ينبغي له أن يشبه سواه، حتى لا يجب أن يتشبه بأي من دواويني المنشورة كلها. ثمة حالة تأمل، ومعاناة، ومخاضات، ودروب آلام.. تستدرج نصي إلى اكتشاف زمنه الشعري. وليس على هذا الزمن الشعري الذي أشتغل عليه لدى الكتابة أن ينكص إلى أي من اللحظات الشعرية المألوفة، سواء في كتاباتي أو في قصائد سواي. فكل لحظة شعرية أنتجت شعراً هي مألوفة وقديمة، تماماً مثل الشعر الذي أنتجته، علاقات ورؤية. الزمن الشعري يجب أن يجتاز عتبة الخلق الشعري، ليطل على مستقبل الإبداع غير المنجز بعد.

وثمة ما التقطه نقاد كثيرون في قراءات دواويني، أن كل ديوان مختلف عما سواه، تعبيراً ووؤيا. وكذا كل نص في كل ديوان، أو في كل الدواوين. كل ديوان عالم مخلوق يتحرك نحو مستقره الخصوصي في حركية الإبداع، تماماً كما كل نص في كل ديوان، أو كل الدواوين.

ولأني أرى أن الديوان يختلف عن المجموعة الشعرية، فهو ليس جامعاً لقصائد بأفكار وحالات وأشكال.. (إلخ ) مختلفة ولا تتشابه في الكلمة كأداة تعبير، أو الروح كرؤيا تخلق علاقة جديدة مع الإنسان والعالم، فإن هذا يغويني لأتصالح مع نصي وحده بعيداً عن متطلبات "السوق الشعري". في قصائد كثيرة قد أنشرها، لكني لا أجد لها مكاناً في دواويني لأسباب فنية أو رؤيوية، أتمرن على الكتابة. لست عكاظّياً بالتأكيد ولن أكون، طالما ثمة شروط "فنيّة" أو "قيميّة" تستدرج الشعر إلى حظيرة النموذج المقدّم من سلطة المجتمع، بأدوات تعبير مألوفة ولا طاقة لها على اختراق الحداثيّ (لأنها تسير في اتجاه معاكس لهذا الحداثي بالضرورة كونها قديمة معتلّة، وبتصورات مسبقة تنكص أبداً إلى الماضي الثابت إلا في اجترار تكراره).

غير أن الماضي الشعري، بأصوات شعرية هي صدى للمنجز الشعري القائم على صنعة البلاغة التي لا شأن لها بالشعر إلا استجلاب التصفيق، يتجول بيننا، أشبه بكاهن أعمى يرتطم بكل أشكال الحداثة الشعرية، بل ويسعى بالتحالف مع المؤسسة التقليدية التي تسيّد كل ما هو ماضويّ للإبقاء على وجودها، وكذلك مع سلطة المجتمع المصاب أبداً بالحنين إلى ماضيه، إلى محو جماليات المنجز الشعري الحداثيّ. هذا التحالف القديم- الجديد بين مؤسسة السلطة السياسية والدينية أساساً هي التي اتهمت كلّ محدّث بالزندقة والكفر، بشار بن برد وأبو العلاء المعري مثالاً لا حصراً، وبالعمالة والخروج على عصا الجماعة، أدونيس والحاج وسواهما مثالاً لا حصراً أيضاً.

وبهذه الصورة، قدّم السوق الشعري العكاظي شعراء جمّلوا بلاغتهم المعهودة بأداء صوتي مدرّب وكاميرات حاذقة، ونشرتهم الكائنات الإلكترونية العاطلة عن تقبل الجديد الشعري كالتشققات في أرض غزاها الجذب.

وفي هذا السياق، فإن معظم دور النشر وكذلك المنابر الثقافية ليست بريئة من عملية اختطاف الشعر، بعد كل الانزياحات الجمالية الحداثية التي اجترحها منذ خمسينيات القرن الماضي وما قبلها، إلى دائرة السائد المغلقة، بطباعة ما "يجود" به هؤلاء كونهم صُيّروا "شعراء تذاكر". فدور النشر مرهونة هي أيضاً بمتطلبات السوق، طالما تتوسّل الربح الماديّ على حساب المنجز الجماليّ.

بعض دور نشر مشكورة تنحاز للقيمة الجمالية الشعرية أولاً.

- قصائد مجموعتك الجديدة تنتمي إلى نمط التفعيلة، وكذلك بالنسبة لجميع مجموعاتك، وهي برأي تجربة جميلة في الحفاظ على النبرة الموسيقيّة التي نفتقدها لدى معظم الأصوات الشعريّة الراهنة، لكن أين هي قصيدة النثر بالنسبة لك؟

- أنتمي للنص الذي يكتبني، شعراً حديثاً (شعر التفعيلة كما وصفته)، أو شعراً نثرياً، مع التأكيد أنني أتعاطى مع تصنيفات أو تحديدات الشعر لحظة البحث الأكاديمي فحسب، وهي تعسفية في كثير من أشكال قراءتها للنص ضمن أطر مسبقة. فالشعر هو الشعر. الحد الفاصل بين الشعر وسواه هو الفرق بين الجديد جمالياً وما هو دون ذلك. أن ننتصر للشعر هذا يعني أنك تنحاز للفن أولاً، لا لضروب أخرى من شكل أو محتوى يعيد اجترار الصنعة الشعرية القديمة أو التي تحاكيها.

ولا بد أن قراءة عميقة في ما يُكتب وينشر ستكشف لا ريب أن سواده الأعظم نكوص للماضي الشعري بلاغةً وضروباً وعوالم. وتأسيساً على ذلك، فإن أي فعل شعريّ حداثي بالضرورة إيذان بقطيعة مع الزمن الشعري الماضي، وكابح لانتشار القصيدة التي تحيي أو تحاكي القديم، حتى وإن جاءت بأشكال حديثة. ولا أعني بالقديم الشعر العمودي، بل والحديث، فكل ما هو منجز أصبح جزءاً من الماضي الشعري.

ومهما يكن من قول، ينسب لما أسموه نقداً وهو ليس منه في شيء، يشي بأن قصيدة النثر تحولت إلى نمط، أو شكل مفتوح دون ضوابط سمحت للسطو عليها بكتابات رديئة، إلا أن هذه القصيدة تبقى شاهدة، ودالاً أكبر، على فعل حداثيّ إبداعيّ رشّ الماء على بلاغة الشعر المألوف، المجترّ، بخلقه أدوات تعبير تتفاعل مع رؤى وعوالم، جعلت، كما في إبداعات شعراء كثيرين، قصيدة النثر أصلاً لا يمكن نسخه، ومتناً أساسياً في حركة الحداثة الجمالية الإنسانية.

أما أنا فأكتب الشعر، وكثيراً ما ركبت بحور الشعر التقليدية في دواوين عدة بلغة حداثية تتقنع بلغة السرد، سمها إن شئت لغة السرد الشعري أو النثر الشعري، فأنا لا أؤمن أن هناك كلمة شعرية وأخرى دون ذلك. أبداً، الشعر هو الشعر. طفولة الروح الإنساني التي لا يمكن أن تحدّ في إطار أو عالم أو رؤية.

يبقى هو المتحرك الدائم المتجدد أبداً.

لا مستقبل للشعر دون قصيدة النثر، أو ما يأتي بعدها.

 

الشعر طفولة العالم

- في مجموعتك (موتى يعدون الجنازة- 1987)، تقول في ذكرى استشهاد ناجي العلي: "سربٌ من حجلٍ حطّ على قبّعةِ الصيّاد/ فاختنقَ برائحة البارود"؛ هذه النبرة الاحتفائيّة الحميمية تكاد لا تفارق معظم مجموعاتك؟

- ما الذي يجعل الشعر شعراً إذا أهملته، أو غابت عنه، أو ذبلت فيه حتى، هذه الاحتفائية الحميمية.

فطالما أن الشعر طفولة العالم كما قدّمت قبل قليل، فإن الشاعر لا شك هو ذاك الطفل الذي يكثف في ذاته، كلمة وروحاً، الطاقات الإنسانية منذ بدء الخليقة، وانحيازها في البدء للتعبير عن مكنوناتها بالشعر.

وما دمت قدّمت أيضاً أن الشعر لا انتماء له لإطار أو عالم أو رؤية محددة، فلا يمكن له أن يكون ملهاة أحياناً، ومأساة أخرى، وهما، أعني الملهاة والمأساة، ضربان أصلاً.

هناك نقاد اكتشفوا في ديوان "موتى يعدون الجنازة" تعاطياً صوفياً، طفلياً، مع فلسفة الموت، وآخرون رأوا فيه انتصار معجزة الحب للحياة على داء الموت الذي لا شفاء منه. لكنني كنت أؤرخ بالشعر لطفولتي الشعرية، طالما كان الديوان أحد بواكير منجزي الإبداعيّ. كنت آنذاك وما زلت أتجول بين أشباح الموت، وأتقدم نحو الحياة كلها بذاكرة الموت كله، والقتلى، قتلاي، كلهم. هذا الموت الذي يتربص بي ليسطو على أنفاسي وقف غير مرة في مراياي، وهو يمد لسانه لي، ولم أتوسله، ولم أبتسم له أيضا، ولم أعقد هدنة معه.

ومن البداهة التوكيد على أن كل الفن العظيم جسّد موضوعتي الحب والموت، لكن ثمة افتراق حاسم عن الغنائية الدرامية المعهودة، فأنا لا أغنّي الموت، كما فعل شعراء قبلي وغيري، ولا أغني له، ولا أؤسطر ضحاياه، لأني باختصار أراه ضفة أخرى مفقودة لحياة مفقودة أيضاً. أقيم فيه باللغة كي أدلّ عليه، لأنني أدرك أنه سوف يشبهني حين يستوطن جسدي.

لكن كل ديوان لي، كما هو حال كل نص لي، لا يرى ما يراه سواه ولا يتشبه به، كما أسلفت، كلمة وروحاً، فيما يبقى للنقد كتابة ما ننجز باللغة من رؤى وعوالم في كل قراءة.

 

- مَن مِن الأسماء الشعريّة تجدها الأقرب إليك، وتعود إلى قراءتها بين فترة وأخرى، سواء عربيّاً أو عالميّاً؟

- قد أعود لقراءة قصائد محددة لشعراء معينين أكثر من مرة، أو لديوان في أحيان نادرة. هذه الحالة أشبه بالولوج في عتمة مزاج ظلامي يختطفك للخروج إلى لفحة ذلك الضوء الذي لا تراه إلا حين تنتهي من قراءة النص الذي تذهب إليه، لتعود إليك. ثمة نصوص عبقرية تعيد قراءتها لتكتشف الجماليّ فيها، وأخرى تعود إليها لتكمل ترتيب الطبيعة فيك، أو لتخرج من حالة صدامك مع الكآبة أو الوحشة أو الموت. مثالاً لا حصراً، أذكر: "شتاء ريتا الطويل" درويش، "قصيدة الوقت" أدونيس، "سرّ من رآك" أمجد ناصر، "موسيقى قداس" أخماتوفا، من "دكتور جيفاغو" باسترناك، "الإنسان الأسود" يسينين، "الأرض الخراب" إليوت، "أغنية شرقية" و"جريح المياه" لوركا.. وسواها الكثير.

وطالما قيّض لي أن أقرأ الشعر الإنساني، بدءاً من الإغريقي حتى الأوروبي المعاصر وسواه، بشكل أكاديمي، طيلة سني دراستي في معهد مكسيم غوركي للآداب، وامتهنت هذه القراءة خلال تدريسي للشعر المعاصر، وكتابتي لرسالة الدكتوراه، في معهد آداب آسيا وأفريقيا، كان لزاماً أن أعتصم بالجماليّ، فلا شأن لي بالضرب أو الطرب الشعري. وكلما تعددت قراءة الجمالي المبدَع كلما تتكشف لك طفولة شعرية جديدة، تعيدك إلى ذاكرة الشعر فيك التي تتحرك بك إلى الزمن الشعري المستقبلي. وكأن كلّ شيء قيل قبلك، وعليك أن تقول ما لم يقل بصوتك الخصوصي محمولاً على موجتك الخصوصية.

 

- هل من تأثير لشاعر ما، دون غيره من الشعراء، في تجربتك الشعريّة والتي تمتد لعقود؟

- كل شعرٍ قرأته، أو عشته، أو حللتُ فيه، أثّر بي، تماماً ككلّ جملة موسيقية، أو لوحة فنية، أو عرض مسرحي، أو سواه من المنجز الإبداعي، ناهيك عن معماريات مدن، أو حركة أرواح بشر أو حيوات قطنت، ولو لفسحة من الوقت، حياتي أو مرت بها بأثر لم يكن عابراً، إلخ..

عليك كشاعر أن تلتقط بروحك المفتوحة على الإنسانيَ الجماليّ مفردات العالم الذي يصبح مكاناً تقيم فيه، في الفن أو الحياة. ولأن الشعر بيتيَ الخصوصيّ، فلا بدّ أن شعراء يزورونني عادة  بنصوصهم الإبداعية، ولعلّ منهم من يكثر الزيارات، ويترك شيئاً من مزاياه في عالمي. لا يمكن لشاعر أن يولد دون أب شعري أو جيل شعري دون آباء شعريين، وإلا أصبح نبتاً شيطانياً. أحيل إلى ما قاله درويش عن نزار قباني بأنه أحد آباء جيله الشعريين، كما أحيل إلى حالة التأثير المتبادل بين درويش وسليم بركات. وأذكّر، إن نفعت الذكرى، بتأثير باوند على إليوت، وفاليري على رامبو، وبوشكين على ليرمنتوف، وبلوك على أخماتوفا، مثالاً لا حصراً.

ثمة فارق حيوي بين التأثر والتقليد. فأحمد شوقي قلّد المتنبي، في حين تأثر به درويش، والسياب لم يقلد في "أنشودة المطر" "الأرض اليباب" لإليوت. وعلى القراءة النقدية الأكاديمية أن تكشف عن القابلية الفنية في حال التأثر، والقبول بالصنعة والنظم في حال التقليد.

أي اكتشاف الخيط الرفيع بين الفاعلية الإبداعية، والانفعال التقليدي.

غير أنه لا شك ثمة شعراء تدين لهم بتحريضك على إطلاق طاقاتك الإبداعية، بما يقدمونه من خلق شعريّ، إلى أقصاها، وآخرون أشباه شعراء يحثونك، لسوء ما يفعلون، على حماية فن الشعر بكتابة نصوص خلاقة.

 

- ماذا عن الشاعر محمود درويش، وهل من تقاطع ما بين قصيدتك "وصايا فوزية الحسن العشر" وقصيدة درويش "تعاليم حوريّة"؟

- محمود درويش شاعر يتكئ على سماء وينظر إلى أعلى. ما يزال يتنفس في قصائده المتجددة، وربما في أخرى جديدة لم تكتب بعد بأصابع غيره. هو الأقرب إلى اللغة كونها أقامت فيه كوطن لا نهاية له، والذاهب إليه بعالم يحمله في الشعر كمن يمنح أجنحة الفكرة هواء طازجاً، ومدى لا يحدّ إلا باللغة التي تبدأ كلما تنتهي.

لكني لا أعثر، وكم حاولت لدى إجابتي عن سؤالك، على أيّما مقاربة بين "تعاليم حورية"، و"وصايا فوزية الحسن العشر". فالوصايا مفتتح الديوان بلاءات بلغت ثلاثة وثلاثين "لا"، وكل من هذه الوصايا لا تشبه شقيقتها، كلمةً وروحاً، وتتحرك في أزمان شعرية تكسر صورة الماضي لتترك ظلال عينيها في مرايا الأبدية، وتعلن القطيعة مع ما ترثه الأمومة من تعاليم تدعو لضبط الوقت على عقارب ساعات الآخرين بوعظهم أو تلقينهم لشرعة أو شريعة. التعاليم، في سطوة التصور، لهجة تلقينية تقترب من الكهنوتي، فيما الوصايا فلغة الرفض والإيحاء والتأويل.

ربما كان من شأن الإيحاء وحده الذي يثيره العنوان أن يجد ما يربط بين تعاليم حورية للكبير درويش ووصايا فوزية الحسن العشر لي. وعلى كل حال، فإذا كان العنوان فضاء أولياً للنص، فلا ينبغي أن يكون الدالّ الأكبر عليه.

في ديوان وصايا فوزية الحسن العشر، وفي فصل "بما يبقي أثراً للريح" ثمة اقتراف لفعل تلاوة وصاياي في نصوص أخرى على ابنتي لتحمل وزر سيرتي- جسدي بخطاياه وصلبانه وفكرتي- وطني بعصا الراعي العمياء. وكذلك أسعى في فصل "حيث لا ظل لي في المرايا سوى جسدي" أن أطلّ في نصوصه على سيرتي بما حملت من دروب آلام وموائد للمغفرة. كما أنني في نصوص فصل "بما يشبه حنكة نسر عجوز" أؤرخ باللغة لخطى السلالة، بأسماء كائناتها وحيواتهم المهمشة في المخيم، بين حجارة الوطن الذي حملوه بالذاكرة بي وحجارة الشتات البعيد التي حفرت عليها تراجيدياهم حلم العودة المنتظر بعد حين، وفي فصل "في الطريق الأخير" أروي لقتلاي سيرتهم لأشهد أنني ما زلت حياً تماماً كما أرادت وصايا فوزية الحسن العشر: لا شبيه لي كوني لا أشبه سواي.

وفي وصايا فوزية الحسن العشر أسطرة لشخوص هامشيين بوشاياتهم وخباياهم، مثل أحمد وناس وطعمة الشتيوي وسواهما، لكنهم ببطولة أشيائهم وصراعهم على بقائهم بقوة الأمل والحلم، يتجاورون مع شخوص أبطال في تاريخنا مثل ياسر عرفات وسميح القاسم وسواهما.

وكل ما وصلني من منجزات نقدية أعادت قراءة ديوان وصايا فوزية الحسن العشر رأت هذا إلى حد ما، أو غيره، لكنها لم تشي قط بأي شبه بينه وبين سواه.

 

سأبقى وفياً للشعر

- ثمّة ظاهرة لافتة في الوسط الإبداعي، العربي تحديداً؛ وهي تحوّل العديد من الشعراء إلى عالم الرواية، كشاعر كيف تنظر إلى هذه الظاهرة، وما هي الأسباب التي تدفع الشاعر تحديدًا إلى كتابة الرواية؟

- هذه الظاهرة ليست وقفاً على المشهد الأدبي العربي، لكنّ جلّ الشعراء العالميين الذين كتبوا رواية ظلوا مخلصين للشعر. فيما ذهب شعراء عرب لكتابة الرواية على اعتبار أنها كتاب مسوّق، وأعلنت له جوائز مالية كبيرة، وآخرون بعد قنوطهم مما يتم تعاطيه في المقاهي والصالونات والزوايا حول أزمة الشعر التي لا شفاء منها، وربما لجأ قلة منهم إلى الرواية كنوع أدبي يمكن التعبير بأدواته وعناصره، بما لا يستطيع الشعر، وفق ظنهم ولعلهم محقون، تجسيده باللغة. والملفت أن شعراء كتبوا رواية نالت شهرة أكثر من كثير من روائيين يمتهنون منذ عقود طويلة كتابتها، أذكر سليم بركات مثالاً طاغياً، وليس حصراً.

ثمة ما قيل من قبل إن السواد الأعظم من المبدعين لجأوا لكتابة القصة والرواية وقد بدأوا بكتابة الشعر، لأنهم لم يجترحوا فيه مآثر تذكر.

ولعل عليّ الإشارة أن من شعراء العرب من اتجه لكتابة المسرح والسيناريو وسواه من فنون الإبداع. وكما تعلم فقد كتبت مسرحاً وسيرة وأخرجت أفلاماً، لكني سأبقى وفياً للشعر. أعتقد أن لا حاجة لي لأتمرن على كتابة الرواية، ولعلي لن أنجح في خوض هذه المغامرة، طالما لم أخفق في سواها بعد.

 

- عملت سابقاً في مجال الإعلام، سواء ككاتب مقال أو كمعد ومقدّم برامج في راديو صوت روسيا. برأيك العمل في الصحافة والإعلام ماذا يقدّم للمبدع، هل يضعف إبداعه أم يجعله أكثر غنى؟

ربما ابتسم لي قدري طالما عملت في الصحافة الثقافية، منذ ثمانينيات القرن الماضي حتى مطلع الألفية الثالثة، ولا شك في أنها أغنت تجربتي، خاصة لدى عملي محرراً للشؤون الثقافية في راديو صوت روسيا، وإعدادي وتقديمي لبرامج تركت أثراً مثل "مقهى عبدالله عيسى الثقافي" و"في عالم الشعر والموسيقا"، حيث أعدت طرح الأسئلة الثقافية بتفاعلات شخوصها وعناصرها الإبداعية، وبشكل يقترب من أدوات البحث الأكاديمي، بما في ذلك لدى تصديّ لأعمال مبدعين عرب وروس، وترجمتها وتقديمها للقارئين العربي والروسي.

أما امتهان المبدع للصحافة في ملاحقة الأحداث اليومية ونقلها، فأمر يختطف المبدع من العملية الإبداعية، ويزجّ به في أتون اليومي المعاشيّ العادي المتكرر. وعلى الرغم أن الصحافة الثقافية قد تشكل كوة يطل فيها المبدع على قرائه، إلا أنني أعتقد أن التفرغ للعمل الإبداعي هو المناخ الإبداعي للتأمل في أسئلة الفن والحياة، والخروج بمنجزات إبداعية خلاقة.

 

نحن الآن نقف خلف مرايا التاريخ

- قلت في حديث سابق أنك نقلتْ إلى العربيّة قصائد للعديد من الشعراء الروس، ولكنها بقيت حبيسة الأدراج، ما السبب في ذلك؟

- لم تكن قط هذه الترجمات حبيسة الأدراج، فقد نشرت تباعاً، ومنذ تسعينيات القرن الماضي،  في كبريات المنابر الثقافية، مثل نزوى والشعراء وكتاب الشعر، وعلى أثير راديو صوت روسيا، وصدرت مؤخراً تحت عنوان "مختارات من الشعر الروسي" عن وزارة الثقافة الفلسطينية، وقد قدم لها مشكوراً وزير الثقافة الفلسطينية د. إيهاب بسيسو، وتم توقيعها في اختتام أيام الثقافة الفلسطينية في موسكو في الثلاثين من نوفمبر الفائت بأمسية أدبية اتفق على  أن موسكو لم تشهد مثلها من قبل، حيث قدم المختارات المستشرق المعروف فاسيلي كوزنيتسوف مدير معهد الدراسات الشرقية والإسلامية في معهد الاستشراق التابع لأكاديمية العلوم الروسية، وشارك فيها شعراء معاصرون معروفون تمت ترجمتهم بقراءات شعرية، فيما تلا مستشرقون وطلاب اللغة العربية قصائد مترجمة لشعراء عظام قمت بترجمتهم. وقد ضمت المختارات قصائد للشاعر إيفان بونين الحائز على نوبل، والشاعرة آنا أخماتوفا، سيرغي يسينين، إضافة إلى أنطولوجيا الشعر المعاصر. وأعتقد أن ما كتب عنها حتى الآن يؤكد أهميتها وأثرها في حركة الترجمة والحياة الثقافية العربية.

 

- كيف تقرأ المشهد الإبداعي والثقافي في العالم العربي اليوم، في ضوء المتغيرات السياسية والاجتماعية المتلاحقة التي طالته في السنوات الأخيرة؟

- لم يصادف تاريخنا مرحلة اعتى ظلامية وأشدّ وحشية تقتيلاً وتدميراً مما هو عليه الآن. ليس لصبر الأنبياء أن يحتمل هذا. نحن الآن نقف خلف مرايا التاريخ. اختلطت الوجوه والأجساد والرايات والأفكار.

 من هو القاتل؟ ولي الأمر أم الداعية أم المصلح أم القاضي أم الراوي أم المخلوق الذي جنّد للقتل تحت وطأة الدينيّ أو الطائفيّ أو القوميّ أو الشخصيّ؟ هل تصدّق أن من كنت تلقي عليه سلاماً طيباً، وقاسمك مقاعد الدراسة، أو الركوب في حافلة ما، أو الجلوس في مقهى ما، أو التسكع على رصيف ما، وشاركك نظرة عاجلة لامرأة تتعجل الوقت لتدخل مرايا الرجال وتبقي ظلالها فيها، أو ربما علا صوته على نبرتك في مظاهرة ما ضد الاحتلالات والاعتداءات والظلامية، وشاطرك السماء النظيفة والهواء الطازج والماء البسيط.. إلخ، أن يتحوّل إلى قاتل فذّ فظّ؟ هل كان بمقدورك من قبل أن تتصور أن المثقف الداعي للتحرر والحداثة يتحالف مع الظلامي المتطرف، ليعلنا الحرب على المضيء المنجز في دول ما بعد الاستقلال، ويفتيا بتكفير وتقتيل جيوش كاملة قدمت شهداء جميلين في حروبها ضد الاحتلالات والاعتداءات، ويشهرون عصا الفتاوى وصكوك القتل ضد مثقفين ومبدعين وبشر عاديين افترقوا بخطابهم ورؤيتهم عن ادعاءات ودعوات هذا التحالف الشيطاني بين الليبرالي المتطرف والديني الظلامي؟ هل تصدّق أن يتفق ما كنا نرى فيه مثقفاً تحررياً عصرياً مع ما كنا لا نرى فيه إلا داعية للمعتم في ماضينا على تكفير وقتل أدونيس أو فيروز مثالاً لا حصراً، ومنع تداول إبداعاتهما تحت طائلة جزّ الأعناق؟ يمكنني أن أورد أمثلة أكثر دلالة على هذا الزمن الرديء، في حين لم يعد دور جوقات من المثقفين إلا الشهادة على سقوط التاريخ في عمامة الداعية، أو بين أسنان مقدمي نشرات الأخبار، أو تحت سبابة قناص حاذق ينفذ أمر ولي أمر أو أمير جماعة أو من حالفهما من متداولي ومروجي خطابهما.. إلخ

ولعل أسوأ ما في الأمر أن كفّ كثير من المثقفين عن لغة الحوار، واستقدموا لمحو خصومهم الفكريين والسياسيين هذا القناص الحاذق من خنادق وليّ الأمر أم من غزوات أمير جماعة.. كل هذا يحدث في بلادنا. حروب بعض منا على بضع منا باستخدام أسلحة متطورة ومحرمة أحياناً كانت مكدسّة في المخازن، أو حروب بضع منا على أحد منا تأتي على أنفس قتلت بغير حق، أو تنتظر..  

تتنزه كوارث إنسانية بيننا عمياء، وتتنفس الكوليرا والمجاعات والقبور الجماعية برائحة الموت في وجوهنا. كلّ هذا وسواه من القتل والدمار يحدث فينا وحولنا وبيننا، ونحن محكومون بأحاديث عابرة عن تحرير أرضنا ومقدساتنا المحتلة، وتأويل صفقة قرن ترامب، وتفسير عجزنا المطبق بحنكة المؤامرات العدوة، وترسيم الحدود بين محور ننحاز إليه وآخر قد نتعاطف معه بعد حين تبعاً لحركة سوق النفط والبنك الدولي. ننقسم على ذاتنا ليسود بنا عدونا المحتل ومن والاه.

ويحدث أيضاً في بلادنا أن مثقفين قضوا دفاعاً عن فكرتهم أو وطنهم أو أشياء صغيرة أم كبيرة، مدينة أثرية أو تمثالاً صغيراً أراد قتلة التاريخ بيعه في سوق النخاسة في إحدى العواصم المتحضرة، وآخرين قضوا ليمنعوا تاريخنا من الانجراف إلى حظيرة الظلمات القادمة إلينا بالسالف الماضي المعتم وراياته السوداء.

ويحدث أيضاً أن يتم تداول حوار ما أعد بعناية في محطة ما في برنامج ما يقدمه مذيع ما لكاتب ما (يطمح للحصول على نوبل عبر تقديم آيات الرياء للإسرائيلي) بتبني روايته الضالة المضلِّلة)، يحقّر الناصر صلاح الدين، ويزيل المسجد الأقصى في الوقت الذي يحميه الفلسطيني، مسلماً ومسيحياً، من اجنياح الجندي الخارج أعمى من تلموده.

ويحدث أيضاً أن يتشدق مدّعو ثقافة، كانوا رعاة غنم قبل قليل، على فضائيات تفوح من جنباتهم رائحة النفط والدم بأن الحق لأعداء الحق في فلسطين، ما دام لم يذكر اسمها في القرآن الكريم، ولم يجهدوا أنفسهم بقراءة التوراة التي تذكرها على رؤوس الأنبياء والأشهاد معاً، وأن القدس يبوسية بناها ملك اليبوس ملكي صادق قبل أن يأتي أبو الأنبياء إبراهيم الخليل عليه السلام إلى فلسطين، ويعمّده ملكي صادق بالخبز والخمر، كما جاء في التوراة وقصة الحضارة وكتب تاريخ أخرى.

في الوقت الذي تقرر "يونسكو" بأن لا علاقة لليهودي تاريخياً بالقدس، ويدين العالم تهويد القدس وانتشار سرطان الاستيطان في جسد الأراضي المقدسة.

هكذا يحدث عندنا: تغتصب الثقافة والأوطان والأرواح البشرية اغتصاب لئيم مقتدر.

ويحدث أيضاً بالمقابل أن مثقفين يفرون من أوطانهم، وقد تفننوا من قبل، بالتغني بوفائهم لها والموت من أجلها، في وقت تحتاجهم فيه أوطانهم التي يقطنها شبح الموت والدمار أكثر من أي وقت مضى. 

لكن بالمقابل يحدث أيضاً أن مبدعين يجترحون مآثر إبداعية مهمة في الشعر والرواية والفنون جميعها تستحق التأمل والقراءة المتأنية، على الرغم من هكذا حالة هذيان تشهدها وسائل الاتصال وبعض دور نشر تترزق على حساب الإبداعي. هناك ما يشبه الأدب الأصفر يطبع في دور نشر صفراء وتحتضنه مهرجانات صفراء. أشبه بالزبد الذي لا ملح له ليبقي أثراً على الرمال.

لن يكون المشهد الثقافي بخير طالما صورة الحياة كلها معتلة، أو مصابة بداء قد يطول شفاؤه.

 

- هل من عمل جديد يصدر لك قريباً؟

- أنتظر صدور كتابي "الكلمة والروح في الشعرية المعاصرة– مقدمة في علم جمال عربي" عن دار ابن رشد في القاهرة، وأعمل على وضع اللمسات الأخيرة على مسرحية شعرية قمت بترجمتها عن الروسية للشاعر الكبير نيقولاي غوموليوف "طفل الله"، لكنني أشتغل على ديوان شعري جديد "الأنثى ضاد" أسعى من خلاله للعثور على أجزائي المبعثرة في منافيّ وشتاتي بعد أن عجزت أن أجد الأنثى التي تصير لي وطناً.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.