}

عبدالواحد كفيح: للرواية قدرة على احتواء أجناس أدبية أخرى

أشرف الحساني 19 نوفمبر 2019

نادرة وشحيحة هي الأسماء القصصية العربية التي استطاعت أن تفرض نفسها داخل مدونة القصة في المغرب، أمام الحصار الرهيب الذي باتت تفرضه الرواية على كتاب القصة في العالم العربي، بسبب الدعم المادي والتشجيع المعنوي الذي تخصه بعض المؤسسات الثقافية لخدمة المشروع الروائي العربي، بحيث أننا نجد عدداً من الكتاب العرب، ممن تعودنا على مطالعة نصوصهم القصصية، تحولوا إلى روائيين. والقاص المغربي عبدالواحد كفيح أحد هذه الأسماء التي باتت تراهن على الكتابة الروائية بقدر من التميز والتفرد، لكنه لم يتخلص من الكتابة القصصية وعوالمها التخييلية، بحيث أن أسلوبه في الحكي الساخر ما يزال يميز شكل الكتابة في روايته الأخيرة "روائح مقاهي المكسيك" الصادرة ضمن منشورات سليكي إخوان في طنجة/ المغرب. وهذه الأخيرة تنزلت منزلة رفيعة داخل الرواية المغربية، وتشهد على ذلك المقالات والدراسات والبحوث الجامعية، التي تناولتها في سياق تجربة الكتابة عند كفيح.
تجدر الإشارة إلى أن كفيح عضو في اتحاد كتاب المغرب، واسم أدبي حاضر بقوة داخل عدد من المحافل الوطنية والعربية منذ سنة 1984، وداخل عدد من الجرائد والمجلات العربية. صدر له: أنفاس مستقطعة، رقصة زوربا، رسائل الرمال، روائح مقاهي المكسيك، تناغمات نصية: قراءات في أعمال إبداعية مغربية؛ إضافة إلى جملة من الكتب الجماعية نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: ما القصة؟ واقتصاد النسيان، وجماليات السرد في التجربة القصصية للزهرة رميج، والنص والصدى: قراءات في رواية طريق الغرام لربيعة ريحان، والقصة القصيرة المغربية: قريباً من النص.
بمناسبة صدور كتابه الأخير، "تناغمات نصية: قراءات في أعمال إبداعية مغربية"، ضمن منشورات الموجة الثقافية في بالمغرب، التقينا القاص والروائي المغربي عبدالواحد كفيح، وكان معه هذا الحوار:

حارس المدينة

(*)بداية، ماذا تمثل لك مدينة الفقيه بن صالح، التي احتضنت جميع كتاباتك القصصية والروائية وعوالمها الإبداعية المتخيلة، فجعلت نفسك حارساً مطيعاً لقلاعها العالية، ودونت كل كبيرة وصغيرة عن المدينة، وعانقت خيباتها وأفراحها، بل ورميت نفسك بين أحضان وديانها، وأنت ما تزال يافعاً. ما الذي يئن في جسدك اليوم من هذه المدينة الغريبة العصية على المحو والنسيان؟
جميل جداً منك هذا التوصيف: أن أكون حارس المدينة. فكل الأصدقاء والأقران طوحت بهم الأقدار في كل ركن من أركان أرض الله الواسعة بحثاً عن أرزاقهم، وأكيد غادروها مكرهين، بينما تشبثت أنا وما زلت متشبثاً بهذه الأرض الطيبة، ولن أبغي عنها أبداً حِولاً ولا عِوجاً، وما بدلتها تبديلاً. كما تحرسها عين الله التي لا تنام، وعين دفينها الصالح الذي يقال إنه - وهو رفات رميم - لا يهدأ له بال، ولا يغمض له جفن، حتى يشبع الجوعان، ويأمن الغريب، وينام عابر السبيل. فيها نبتت أسناني اللبنية، وفيها وقفت على اثنين، وفيها عشت الدهشة البكر، وفيها أموت. ما أحببت أرضاً قط غيرها، فكانت لي نعم الموطئ والموئل والمسكن، وأحسن مقاماً. عشقت حاراتها وأزقتها وكل دروبها. وفي ضواحيها، طاردت الفراشات والعصافير،

جذلان فرحاً، أدفئ قدمي الحافيتين بتربتها اللاهبة، وفي بساتينها الممتدة في سهول بني عمير - على مرمى البصر- تسلقت أشجار المشمش التي ما زلت أتلمظ حموضة ثمارها كلما عادت بي الذاكرة إلى الوراء كما الآن، فيسيل لعابي ويقطر لذة وحلاوة. وفي قنوات الري - المثخنة بالبلهارسيا - تعلمت السباحة عارياً، كما ولدتني أمي أول مرة. كيف لا تسكنني مدينتي، وفي كل كُتَّاب من كتاتيبها القرآنية المبثوثة كخلايا النحل في الدروب والأزقة والحارات تركت أثري على كل لوحة خشبية، وفي كل مساجدها. وفي غفلة من الفقيه، احتسيت جرعات الحبر ببراءة الملائكة، وفيها أكلت الصلصال، ولحست قلم السمق، وفيها عشقت الكراريس والكنانيش، وفيها انفتحت أمام ناظري طلاسم الحروف السحرية الأولى، تلك المغلفة بالدهشة، وفيها تعلمت أول أمر إلهي. ومنذ ذاك تأبطت مسوداتي ورقعي وأقسمت على نفسي ألا امتهن قط في حياتي غير فن الحكي، كيف لا وأنا الذي أدمنت الركض في ساحات الجوطية الخلاء، حيث زاحمت وأنا طفل غر، الشيوخ بالمناكب والركب. زاحمت أولئك العجزة الذين يستحلون نشر رفاتهم على التراب الدافئ، ما بعد العصر، وقبل صلاة المغرب، وداوموا الجلوس في الصفوف الأمامية من حلقات الحكواتي، حيث القصص الفاتنة الماتعة والأساطير الساحرة وخوارق الحكايا العجيبة الغريبة. كيف لا أحبها وهي التي ألهمت واحتلت كيان شاعر عظيم، وسكنت وجدانه، وفيها أبدع "الهجرة إلى المدن السفلى"، وجعل من الهامش مركزاً، فأضحت أشهر من نار على علم. وجعل من ثانوية الكندي صرحاً ثقافياً ومنارة للثقافة والإشعاع، فأورثها الشعراء والكتاب والأدباء والقصاصين والروائيين.

 

(*)عملك الروائي، "روائح مقاهي المكسيك"، خصصته لسيرة متخيلة حول أحد المقاهي الشعبية الموجودة في المدينة، واستعرضت فيه بعناية فائقة سيرة المهمشين والمشردين والمنبوذين من المدينة، داخل نسق سردي دافئ متشعب بفيض من الحكي والجرح. كيف جاءت فكرة هذه الرواية وعوالمها، وهل للأمر علاقة بطفولة قاسية في هذه المدينة العريقة، التي أسست منذ القرن السادس عشر؟
حاولت استحضار عوالم تلك المقاهي، التي كنت في سنوات جد متقدمة من عمري واحداً من روادها. حاولت قدر الإمكان أن أعيد إلى هذه الأمكنة سحرها وغموضها ودهشتها، واستنطاق الصامت فيها، وتحريك الساكن، واستغوار مكامن الدهشة والغرابة في الفضاءات المعتمة والأقبية المنسية، وأسرار الدهاليز الساحرة، والرواية  تتيح أكثر من أي جنس أدبي آخر الغوص عميقاً في ذوات وعوالم  شخصيات الهامش، وعلاقتها بالأحداث والمحيط ككل، وتشريح ما هو اجتماعي ونفسي في محاولة لإبراز الأعطاب والأوضاع والنوازع والطبائع الإنسانية، ومعالجتها في مناورات إبداعية لا تحيد عن  الشروط الاجتماعية  التي تحكم الأفراد والجماعات على اختلاف مراتبهم ومشاربهم. تلك كانت مقاه شعبية أبوابها مشرعة على الدوام، تؤوي من لا مأوى له. إنها مأوى الحشاشين والسكارى والمشردين والمقامرين والأفّاقين والسماسرة ولاعبي الثلاث ورقات والحمقى والمعتوهين والجواسيس والغرباء ومروجي الإشاعات والمساجين والشواذ وعابري السبيل. رواد المقهى أناس بسطاء، فاشلون، مختلفون في المهن والأفكار والأذواق، يستحلون الثرثرة واحتساء القهوة وافتعال المناوشات والمشاحنات العنيفة، فيقتتلون قعوداً على الحصر في مباريات لعبة الورق، يحتسون الشاي البارد، أو قهوة عفنة عطنة من عصير الشعير المحروق، يزدردون لحم الناس في ثرثراتهم بالغيبة والنميمة وهم مكدسون حول طاولة كبيرة جعلوها ساحة للعبة الورق، التي لا تنتهي أشواطها الإضافية إلا بالقمار والصراخ والتصايح والتراشق بالألفاظ النابية التي تتحول إلى حلبة للمصارعة العنيفة، فلا تسمع عادة إلا الزحار والطّحار والأنات الدفينة في الحناجر، ونطحات الرؤوس الكتومة، والاشتباك بالأيدي. ولأنها كانت هكذا، تشتعل بها الحرائق سريعاً، وتنتهي سريعاً، أطلق عليها مقاهي المكسيك عوض مقاهي الشعب. أما القاطنون، فكانوا من الغرباء البدو الذين لا يعرف لهم أصل ولا فصل، لا مناطق انطلاقهم، وإلى أين هم ذاهبون، وأي زاوية وركن من الأرض هم قاصدون. غرباء رحّل كالغجر، أو الهنود الحمر. رجال ونساء، من الأعراب والبربر، نزحوا من القرى فراراً من شدة الجدب وغدر القحط، محملين بالأكياس والحقائب، والصرر والأطفال العراة على الأذرع، أو مشدودين كالحرادين على الظهور. يكترون غرفاً للمبيت، فتراهم ملتئمين حول المواقد كعبدة النار المقدسة. وكان أغلب هؤلاء من الحصادين، الذين ينزلون هناك، كقطعان البقر الجافلة، يقضون ليلة مقدارها خمسون ألف سنة. تجتاح الفضاء زوابع صخب يتحول إثرها مقهى المكسيك لحلبة الاقتتال، وينقلب عاليها سافلها فينتشرون في أرجاء المقهى مرميين على ظهورهم وأرجلهم منفرجة متناثرة من أثر العياء، كرعاة البقر، وقد غطوا وجوههم بـ"تارازات" أسطوانية الشكل تشبه قبعات المكسيك، ومن هنا جاءت التسمية.

طبيعة الرواية مركبّة
(*)تبدأ الرواية بتقنية الفلاش باك، ونحن نعلم أن هذه الأخيرة ظهرت في السينما قبل أن تنتقل إلى الأدب، خاصة في الرواية الجديدة، التي عملت على تطويع الفنون داخل قالب سردي مركب تمتزج فيه الحكاية بالتاريخ، والقصة بالنفس الروائي. كيف تفهم إذاً العلاقة بين هذه التقنيات داخل النص الروائي؟
للرواية وحدها دون فنون السرد الأخرى، بأفقها المفتوح القدرة على احتواء العديد من الأجناس الأدبية والفنية الأخرى، فتقوي لحمتها، وتكثف سداها. فطبيعتها المركبة تمكنها من استثمار عدة ميادين من المعرفة، فتستوعب، في تزاوج خصيب، المسرح والصور الدرامية والسيناريو،

وغيرها من الفنون الإبداعية الأخرى، كالمقامة والتاريخ والجغرافيات والشعر وفن التراسل، في تجاوز لكل الحواجز الوهمية الفاصلة بين كل هذه الأجناس، يمنحها قدراً من الجمالية والمتعة والإدهاش. في "روائح مقاهي المكسيك" اعتمدت خطاباً سردياً غير مألوف تقصّدت منه منذ البداية المزج بين عالمين روائيين، حيث تتخذ الأحداث مجرى سردياً لا يتبنى الانسياب الزمني المتعارف عليه في الرواية الشهرزادية، بل التفجير من الداخل، من دون مراعاة منطق التوالي والتعاقب، وهكذا تنطلق من راو أول أكبر يقتني رواية في محطة القطار، ومن هنا تبدأ لعبة الحكي، فينغمس الراوي في قراءة روايته المقتناة، وعنوانها هو لماذا تركتني يا أمي، أو الشيبة العاصية. وكلما عنّ له في القطار ما يستدعي التوقف كان يغلق كتابه وتنهمر شلالات أحداث تجري أمامه في القطار، ليعيد بعدها فتح روايته، ويشد بتلابيب المتلقي، وهكذا دواليك تتولد الحكاية من الحكاية، في تناوب سردي تارة على لسان الراوي العليم، وتارة على لسان سارد أحداث الرواية، فجاء هذا التداخل والتوقفات لخلق الارتجاج والتدمير والتفكيك والسفر عبر الأزمنة عن قصد، لإحداث الرجة وإثارة الشك لدى المتلقي، ودفعه دفعاً إلى طرح السؤال، والمشاركة، وجعله فاعلاً ومنفعلاً مشاركاً في إعادة ترتيب الأحداث، وتشكيل البناء المعماري للرواية، حتى لا نجعل منه مستهلكاً سلبياً. وأثناء كل توقف قصير، أو طويل، يُفتح عالم شاسع لفن التداعي والتذكر، والفلاش باك يمنح الفرصة للعودة إلى سبر أغوار أحداث جديدة. هكذا جاءت الرواية في اعتقادي الشخصي، بهذا التدمير والإنشاء، متماشية مع ما تتسم به حياتنا وواقعنا اليومي من تركيب وتعقيد على كل المستويات.

(*)يتميز مستوى اللغة داخل الرواية بتباين مستمر بين اللغة الفصحى والدارجة (العامية) وفق قاموس منغرس في التربة المغربية وثقافتها الشعبية، وهو معجم له دلالات كبيرة في المخيال التراثي. بهذا المعنى، هل يمكن أن نقول إنك من كتاب الهامش، أعني ممن يشتغلون على الهامش كموضوع؟
وجب التذكير أولاً بأن كتاباتي تنبع من نبض الحارات وهمس الشوارع وبرودة البيوت الواطئة ودفء البسطاء، تستمد لغتها من عوالم العتمات ورائحة الخبز، ومن عرق الحمالين في المحطات والأسواق. لغة مدججة بالمخاتلات المفخخة والمراوغات الموحية، لغة بليغة تخلق الثغرات الجميلة، حيث يقع القارئ ملتذّاً بمدهشها ومرعبها. ولأن كتاباتي تمشي في الاتجاه المعاكس لما اعتاد عليه الناس، فقد جاءت لغتها مخالفة للعادي والمألوف، وتغامر باكتشاف الطرق غير المعبدة للوصول إلى محطات مدهشة غير عادية ومألوفة، وبما أن شخصيات أعمالي القصصية والروائية مخاتلة تارة، وفاضحة مارقة تارة أخرى، فقد كان حرياً بي أن أوظف  لغة غنية وبليغة قادرة على التشخيص والإيحاء، مكتظة بالمعاني الدالة، حتى وإن اقتضى الأمر تفصيح الدارج، وتوظيف العامية في إطار ما يصطلح عليه بإسناد الملفوظ لصاحبه، وخاصة إذا ما تعلق الأمر بالحوار، حيث صدق التعبير والحفاظ على حرارة اللحظة بألفاظ خفيفة أقرب إلى الفصحى منها إلى الدارجة المغربية. والهامش ميدان خصب علينا أن نرى فيه الأشياء بعين عذراء، وألا نراها كما يراها الآخرون؛ أن أرى في الهوامش التي أومأت إليها أعلاه ما يمر عليه الآخرون، ولا ينتبهون إليه. الهامش يمكن أن يكون مجرد فكرة، أو تصور جغرافي ليس إلا، وعادة ما يقتضي أن تكون مدججاً بكل أدوات التحليل والتدقيق في معنى الهامش، ثم يأتي التمحيص للمعاني الجاهزة، إذ لا يوجد هامش واحد، بل تتعدد الهوامش الاجتماعية، وعلاقة كل عنصر منها ببعضه في مواجهة نخبوية المركز المهيمن وصراعه الأبدي في محاولة تذويب الهامش واحتواء خلفيته الخصبة، وفي هذا الصراع الدائم يكمن عنصر الإبداع.

 

كتاباتي الأولى اتسمت
بنوع من اللاتجنيس
(*)بدأت بكتابة القصة في ملاحق ثقافية مغربية عريقة منذ ثمانينيات القرن الماضي، وتوجت ذلك بمجاميع قصصية مذهلة أذكر منها "أنفاس مستقطعة"، و"رقصة زوربا". لماذا هذا التحول صوب الرواية وعوالمها؟
اتسمت كتاباتي الأولى، كأي مبتدئ أواخر السبعينيات، بنوع من اللاتجنيس، حيث حبرت نصوصاً منفلتة هيولية لا هي بالسرد ولا الشعر ولا الخاطرة، بل كانت كل هذا، إلى أن اشتد

عود القصة واستوى، وكانت البداية الحقيقية بداية الثمانينيات من القرن الماضي، حيث ظهرت أغلب نصوصي على صفحات الملحق الثقافي لجريدة البيان، وما زلت مداوماً على هذا الفعل السردي إلى اليوم. والقارئ لنصوصي يلفى فيها نفساً طويلاً، والقصة القصيرة كما نعلم تحتاج إلى صرامة في الحبكة والضبط والدقة في الحبكة القصصية، بينما تتميز الرواية بشساعة عوالمها، فكانت لي الجنس الأدبي الأنسب، وكان أن أطلقت العنان للقلم، وهناك في فيافيها شيدت عوالمي السردية. غير أنني سأبقى بالتأكيد متصلاً بالحبل السري الذي يربطني بالمخاتلة المتمنّعة المراوغة، وسأفرد لكل منهما غرفة دافئة في القلب متمنياً أن أرقى لمستوى العدل بينهما.

 

(*) اتصالاً بموضوع الجوائز، كيف ترى وتقيم هذه العملية، خاصة أن هذه الجوائز، بقدر ما عملت على تأسيس مشروع سردي عربي جديد، أثرت سلباً، بحيث أصبح الكل يكتب الرواية، حتى أصبحنا نشهد هجرة عدد من الشعراء صوب هذا الرواية، بسبب الدعم الكبير الذي تمنحه بعض المؤسسات؟
كما أسلفت القول أعلاه، فقصصي كانت بمثابة روايات قصيرة، وقد أثارت انتباه العديد من المبدعين الأصدقاء الذين شجعوني على خوض غمار سلم الرواية الطويل، وكان ذلك قبل أن يظهر حتى مجرد التفكير في هذه المسابقات، فقد كتبت "روائح مقاهي المكسيك" بزمن سابق عن انطلاق ظاهرة الجوائز. إذن فلا علاقة لهذا التمدد السردي - حتى لا أقول الانتقال - بما ذهبت إليه في سؤالك.
أما في خصوص موقفي من هجرة الشعراء، وغير الشعراء، نحو الرواية، وظاهرة الجوائز التي عرفتها الساحة الثقافية العربية مؤخراً، فأنا مع التشجيع وإيلاء الرواية الاهتمام الذي يليق بها. ومهما تعددت الهجرات والمشاركات والكتابات الروائية، فالزمن كفيل بإفراز الكيف من هذا الكم الهائل من الإنتاجات، وأكيد لن تكرّس إلا الأعمال التي تستحق، هذا من جهة، أما من جهة ثانية فأنا ضد أن تكون الجوائز مضمار تنافس بين جهات معلومة لتلميع صورة مؤسسة على حساب أخرى في نوايا مبيتة، فيتهافت الكتاب لاهثين وعيونهم على المال، وأقول إن مضمار السباق والتسابق للعدائين والرياضيين، وليس للمبدعين، خاصة أننا أصبحنا نرى كيف تنوعت المسابقات والجوائز، وتناسلت وتكاثرت حتى فقدت قيمتها الرمزية التي أنشئت من أجلها، وهدفها الأسمى الذي رفعته الجهات الراعية غداة الإعلان عن تأسيسها، وهو إعلاء شأن الرواية العربية، وتعميق التواصل الثقافي العربي، وترسيخ حضور الروايات العربية المتميزة عربياً وعالمياً، وتشجيع وتقدير الروائيين العرب، وزيادة الوعي الثقافي والمعرفي.

 

(*)القارئ لكتابك الجديد يكتشف تنصل عبدالواحد كفيح من النقد الأكاديمي المتعارف عليه، وفق كتابة نقدية عاشقة تلتحم بفعل الكتابة من دون إرهاق الخطاب النقدي بمقولات ومفاهيم ونظريات الكتابة الأدبية. ألا يمكننا أن نعتبر ذلك حيفاً في حق تاريخ الأدب والمناهج والمعارف والعلوم بشتى ألوانها، وإن كانت للكتابة "العاشقة" خصائصها ومميزاتها عن الأولى؟
هنالك أعمال إبداعية تترك أثرها القوي في النفس، وتغري، فتغوي، ثم تجعلك تعيد القراءة وتتفاعل معها إيجابياً، لما توفره من متعة جمالية، فتحاول إنتاج نص مواز للنص المقروء. ومن هنا، جاءت هذه المقاربات الفنية العاشقة كرغبة خاصة في إعادة توهج النص باستغوار

مكامن الجمال القابعة بين سطوره، والثاوية خلف كل لفظة وتعبير، واستنطاق جوهره الفني والأدبي، فيخلق خلقاً جديداً، وليس من السهل اليسير أن تستحلب لذة النصوص بكل معانيها ودلالاتها الخبيئة والمعلنة، إذا لم يكن لدى القارئ الناقد العاشق حس نقدي وذخيرة معرفية شاسعة تسعفه على فك مغاليق النص، ودرجة تفاعل قصوى ترقى به إلى مستويات الإبداع الفني، وتجعله يكتشف دهشة النص وسحره وغموضه. وكثيرة هي الأعمال الإبداعية التي استفزت قريحتي وذائقتي الأدبية، فحاولت قدر الإمكان أن أعيد قراءتها بشكل مخالف وغير مألوف، متمرداً على قواعد وصرامة المنهج بعيداً عن الإسهاب في التحليل الجاف ومعايير ومقاييس النقد الأكاديمي بقدر ما احتكمت إلى الأثر الوجداني والفكري الذي تركه لدي كل عمل على حدة.

 

(*)ماذا تقول للقارئ العربي عن روايتك الجديدة، التي ستصدر قريباً؟
روايتي المقبلة، التي أتمنى أن ترقى إلى مستوى ذائقة القراء، مختلفة تماماً عن سابقتها "روائح مقاهي المكسيك"، من حيث الثيمة والأمكنة والأحداث. وفيها حاولت أن أدفع بموضوعات تشترك فيها عوالم البوادي بالمدن، فكان (باختصار شديد) أن تم الاستيلاء على أرض وعرض أسرة مسالمة، ليتم تهجيرها قسراً تحت ضغط سلطة الدين، وما يمارس باسمه من فظاعات تتدخل فيها الشعوذة والدجل والزعامات. وكيف يطغى منطق القوة والجهل بتواطؤ مع السلطة الدنيوية على ضعاف النفوس (أولئك الذين إذا لم يجدوا أوثاناً يعبدونها صنعوها)، بيد أن أفراد الأسرة، وهم يلجأون إلى أحزمة البؤس، مارسوا هم أيضاً، بعدما صقلتهم رحى ماكينة المدينة، السلوك نفسه، بإيعاز من المتنفّذين والفاسدين والمتاجرين في كل شيء، وأصبحوا وحوشاً ضارية يضربون بقوة العضلات والذكاء البدوي الخارق بخسة ودناءة على جيوب المستضعفين من بني جلدتهم، الذين لم يجدوا بداً من الاستسلام لجشع هؤلاء الذين كانوا في الأمس القريب ضحايا السلوك ذاته.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.