}

سميح شقير: الشعر والموسيقى بعض مفاتيح توازننا

ميسون شقير 16 ديسمبر 2019
حوارات سميح شقير: الشعر والموسيقى بعض مفاتيح توازننا
"في تجربتي الغنائية حاولت اكتشاف أشكال مختلفة من التعبير"
في زمن بلا عيون، زمن ينصر الظالم والقاتل وصاحب السلطة، ثم يقفل عينيه وفمه عن كل المجازر والجوع والفقر الذي يملأ هذا العالم، في هذا الزمن ستجد الفنان سميح شقير حاملا موهبته وجروحه وقلمه وعوده، شاهرا قصيدته وموسيقاه في وجه هذا العالم الأعمى.

في الطريق ما بين "لمن أغني" 1983 و"يا حيف" 2011، ستجد سميح شقير يضيء وجع المخذولين، ينتصر للحياة والجمال، ينتصر للشعر والموسيقى، يمجد الحب، يكتبه ويغنيه، وستدرك أنه يكتبنا كما تكتبنا الأشجار، لا كما كتبتنا بلادنا، نصاً بلا أصابع، وستشعر أنه يغنينا كما لم تفعل الموسيقى من قبل، يغنينا كما لو كانت تغنينا سماؤنا هناك في دمشق؛ فضة على شكل لحن، وحرير على شكل معنى.
في الطريق ما بين "لمن أغني" و"يا حيف" ستدرك أن هذا الصوت، بكل ما قدم من شعر ولحن وأغنية، قد ساهم في صناعة وعي جيل كامل، مثلما ساهم في صنع ذائقة حقيقية بعيدة عن التسطيح الممنهج الذي مارسته علينا كل قنواتنا الإعلامية. الصوت الذي غنى للأجمل فينا، وغنى للقدس كما لو كان مقدسيا، وللجولان كما لو أنه إحدى أشجار تفاحها، غنى لسانتياغو والقادمين من ثورات العمال والفلاحين، وغنى لشيفان كما لو أنه وريث النيروز والنار على هامات الجبال، وغنى لمصر كما لو كان بحة "بهية"، وغنى للراحل عن بلاد أكلت قلبه كما لو كان ذاك الملح التي تجمد في العيون، وغنى للغرفة الصغيرة والحنونة التي لمتنا نحن جيل المدانين، كما لو كان ما بقي من آهاتنا على جدران تلك الغرفة، وغنى للمعتقل، سجين الرأي، كما لو كان صوت احتكاك أظافره بجدار الزنزانة، وغنى للحرية كما لو كان جناح نسر لا يتعب، وغنى للعشق كما لو كان قمرا، وغنى للحياة كما لو كان غزالا يرعى في عشب الكلام. هو سميح شقير، الذي رفض منذ أول يوم في ثورة السوريين المجيدة، العنف والقتل الذي واجه به النظام السوري المتظاهرين السلميين، وفضح عهر وغطرسة هذا النظام، ورفض التشدد الإسلامي منذ بدايات ظهوره.
وفي زمن بلا عيون ولا أصابع، يُتهم هذا الصوت بالعمالة، ويصبح منفياً عن بلاده لأنّه كان سباقاً في توثيق أوجاع كل سوري، ولأنّه كعادته لم يخف، لم يتردد، ولم ينتظر، فقد كان على صوته أن يقول وقال، وحلقت "يا حيف" أبعد من سياط تعذيبهم، وكبرت في كل قلب، وكل زنزانة.
لكنه كعادته، يقاتل أعداءه بأسلحته الخاصة، وينشر بعد كتابه الشعري الأول عام 2005 الذي حمل اسم "نجمة واحدة"، كتابا شعريا ثانيا يحمل عنوان "لا يشبه النهر شيئاً سواك" 2019:

أنا النهر

تركتني ضفتاي

أنا الجسر

أربط المعنى بمعنى

والقوارب لا تلوح لي

أنا الورد

يحزنني انتظار فتى سيحملني

وينتظر الفتاة ولا تجيء

أنا الغياب

أزين الماضي وأنفخ في التفاصيل البسيطة هواء الحنين

كأنها قصب عتيق

وكأنني

عازف ناي.. 
سميح شقير فنان سوري من مواليد 1957، قام بكتابة معظم أغانيه، لحنها جميعا، لم ينتسب إلى أي حزب سياسي، بل بقي صوتا حرا مستقلاً، قدم العديد من الأغاني الإنسانية والثورية والعاطفية والسياسية، كما ألف الموسيقى التصويرية للعديد من المسلسلات والمسرحيات، أبرزها ألحان مسرحية "خارج السرب" للمرحوم الشاعر والكاتب محمد الماغوط، والعديد من النصوص الشعرية للشاعر الفلسطيني محمود درويش. له مجموعة ألبومات هي: لمن أغني 1983، وبيدي القيثارة 1984، حناجركم 1985، وقع خطانا 1988، زهر الرمان 1990، زماني 1998، على الأيام 2006، قيثارتان 2006، وبعد نشره لأغنيته يا حيف عام 2011 سجل مركز اليوتيوب العالمي دخولا غير مسبوق في منطقة الشرق الأوسط.
وقوفاً مع ما تمثله تجربة سميح شقير كحالة فكرية، ومع ما تركته هذه التجربة في بناء وجداننا وذاكرتنا، ووقوفا مع مجموعته الشعرية الجديدة التي تشد قارئها من قلبه، وتترك فيه الكثير من الدهشة والموسيقى، ومن الصور الشعرية التي تثقب هذا القلب، وقوفا مع كل ما يمثله سميح شقير كان لنا معه هذا البوح الخاص:

الشاعر والمغني
(*) في مجموعتك الشعرية الجديدة "لا يشبه النهر شيئاً سواك" تنحاز التراكيب الشعرية إلى عمق دلالاتها، من دون أن تفقد متعة الدهشة، أو متعة الرقص على موسيقى المغني التي لا تغيب. إلى أي مستوى يتفق فيك الشاعر والمغني؟ وهل يمكن أن يكون لقوة حضور المغني في روحك تأثير على كثافة الصورة الشعرية بحد ذاتها؟
- لزمن طويل مضى، وعبر العديد من الثقافات العالمية، كان هناك الشاعر المغني الذي يحمل آلة موسيقية ويُنشد أشعاراً وملاحم تحكي قصص تلك الشعوب ببطولاتها ومآثرها، عن الحب والحرب والموت والحياة، ولذلك لا أرى شيئاً جديداً في المزاوجة بين الشعر والموسيقى والغناء، وإن كنت قد كتبت أشعار هذا الديوان بهاجس الشعر دون التفكير بتلحينه، ولكن ربما تبقى الموسيقى الداخلية المختبئة في إيقاع الكلمات كجسرٍ يربط بين الشاعر والمغني، أما الصورة الشعرية فهي وليدة الحس والخيال، وهما عاملان مشتركان بين الشاعر والمغني، هذا رأيي فيما قد يكون للنقد الأدبي مدخل مختلف لقراءة ما وراء تلك النصوص.

(*) تلاقي المجموعة قارئها بمزيج مدهش من العذوبة والقسوة معا، وتترك فيه طعما غريبا من الحلاوة والمرارة اللاذعين، تاركة لنفسها حرية التفرد والتميز، نائية بنفسها عن كل التسميات والتصنيفات الشعرية.. هل تراهن في قصيدتك على خصوصيتها هذه، أم على قربها من قلب متلقيها؟
- حينما أكتب، لا أفكر بما ينتظره القارئ ولا بأي مقياس أو صدى، فبالنسبة لي الكتابة هي عبارة عن تحرير طاقة كامنة، وهي أشبه ما تكون بغيمة تحركها رياح المشاعر، ومن برق الفكرة تمطر الغيمة معاني ورؤى، وهذه الغيمة تُدهش بتحولاتها الشاعر ذاته قبل الآخرين. الكتابة كما أراها هي فعل حرية ينتقص من حقيقيتها أي إشتراط، بما فيه حضور المتلقي في مخيلة الكاتب.

(*) المجموعة تنضح بالوجع السوري الذي يتمدد على طول صفحاتها، هل تخاف أن تكون الحرب والعنف الذي ووجهت به ثورتنا قد حكما على أقلامنا بالوجع، وبأننا سنبقى ننتج أدبا ملذوعا محروقا كقرانا ومدننا وحياتنا؟
- لا شك أن المسار الدموي التراجيدي للنظام في مواجهة الثائرين، ولا محدودية العنف القاتل تجاههم، وسقوط الوهم بأن الضمير العالمي لن يسمح بتتالي المجازر،

إضافة إلى التشويه المتعمد للمنتفضين على الاستبداد عبر تمكين ثورة مضادة ذات أيديولوجيات دينية لبست لبوس الثورة ورفعت علمها ومارست استبداداً دينياً وتطرفاً في أماكن سيطرتها، مما شوه صورة الثورة الحقيقية الرائعة وعظمة التضحيات التي أذهلت العالم ببداياتها، وصولاً إلى أن أصبح مصير السوريين بيد اللاعبين الدوليين وتبعاً لتوازن مصالحهم، كل هذا سيجعل من تجاوز عمق الألم أمراً في غاية الصعوبة، ولا شك أن الأدب والموسيقى سيتأثران بذلك لوقت طويل، ولكن قدر الإنسان أن يتمسك بالحياة في مواجهة الموت وأن ينهض من جديد، وهكذا سنكون وسنكتب أغاني للفرح ولو بعد حين.



 (*) سميح شقير الشاعر كان حاضرا بقوة في المجموعة الغنائية الأولى "لمن أغني"، ثم اختبأ قليلا ليترك مجالا لأغنية قادمة من التراث تحاكي عمقا وطنيا رائعا، لكنها تبتعد عن اللغة الشاعرية الأولى، فهل عجز الشعر عن تحمل نبض الشارع القوي، أم أنك أحسست أنه مقتصر على نخبة قليلة تجعل من الأغنية أبعد عن ناسها؟
- في تجربتي الغنائية حاولت اكتشاف أشكال مختلفة من التعبير، ومن الصعب مقارنة تلك الأشكال ببعضها، اذ أن لكل منها أجواؤه وعوالمه، فالقصيدة الحديثة المغناة تحتمل قدراً كبيراً من التعبيرية الموسيقية، فيما يتطلب تأليف أغانٍ ذات أجواء شعبية الإتكاء ولو من بعيد على موروث إيقاعي ولحني إضافة إلى لغة تنسجم مع هذا البناء الفني، إذاً نستطيع القول إن هناك مقاربات لغوية مختلفة بإختلاف الشكل الموسيقي المطروح.

حينما أكتب، لا أفكر بما ينتظره القارئ ولا بأي مقياس أو صدى، فبالنسبة لي الكتابة هي عبارة عن تحرير طاقة كامنة 














 



(*) سميح المغني والشاعر والملحن، الاسم الذي لم تغب الجولان عن إنتاجه، مثلما لم يغب الفلسطيني بكل رموزه، ما الذي يقوله هذا الوطني حتى العظم في اتهامات النظام السوري بعدم الوطنية والعمالة فقط لأنه صرخ يا حيف؟
- بعد كل جرائمهم التي يندى لها جبين الإنسانية هم خوّنوا الملايين من أبناء البلد الثائرين ضدهم من دون أن يرمش لهم جفن، فهل من الغريب أن يخوّنوا المغني حين صرخ في وجههم رافضاً تلك المقتلة؟ لم أكن لأكون أنا لو لم أفعل ما فعلت.

الشعر والموسيقى لمواجهة عالم قاس وغير عادل
(*) لأي درجة يمكن للشعر وللموسيقى أن يحميانا من كل هذا الوحل، ومن كل هذا الدم؟
- على الأغلب أن ما يكسر الإنسان ليس الضغط الخارجي وإنما تفتت الصلابة الداخلية له، لذا فإن كل ما يقوينا من الداخل ويعزز إرادتنا ويجعلنا نحب الحياة أكثر يقدم لنا أكسير النجاة وبالتالي فالشعر والموسيقى حين يمنحانا ذلك الإمتلاء الروحي وذلك الشغف فإنهما يساهمان ببقاء نوافذنا مفتوحة على الجمال في عالم تُرتَكب فيه كل بشاعات الدنيا، إنهما بعض مفاتيح توازننا مع عالم قاس وغير عادل.

(*) كانت لك تجربة خاصة جدا مع الشاعر محمود درويش تمثلت في غناء عدة ملاحم له توزعت في الأشرطة الأولى، ثم في إنتاج شريط كامل من قصائده ومن ألحانك وغنائك، وبتوزيع موسيقي للفنانين زياد حرب وعاصم مكارم، حمل اسم (قيثارتان)، وانا أرى أن هذا الشريط قد ظُلم كثيرا، فهل تحدثنا عنه وعن علاقتك الروحية والشعرية بهذا الشاعر. 
- من الصعب أن تتحدثي عن الأغنية بوجود الأغنية ذاتها لأن سماعها يغني عن الحديث عنها، وشريط "قيثارتان" متوفر على شبكة الإنترنت، الا أن هذه المجموعة الغنائية ميزها الطابع الأوركسترالي، وأن جميع قصائد المجموعة هي لمحمود درويش، الشاعر والفيلسوف الذي شكّل مع قلة من المبدعين وجدان أبناء جيلي ونشأت صداقة متأخرة بيني وبينه، حيث كان من المنتظر أن أُهديه النسخة الأولى من هذا الألبوم، لكن وفاته المؤسفة سبقت إصدار الشريط بأيام.

(*) نشرت مجموعتك الشعرية الجديدة، بالعربية، وأيضا بالفرنسية بترجمة الشاعرة والروائية الجزائرية المعروفة ربيعة الجلطي، ما هي قدرة القارئ الفرنسي على فهمنا شعريا وفهم انزياحاتنا وتراكيبنا الشعرية، وعلى التعامل مع خصوصية وجعنا الذي يختزل الوجع الإنساني؟

- يذكرني هذا الموضوع بمستوى فهم الأوروبي مثلاً للموسيقى الشرقية لأن هناك مساحة ما (مقامات) لا تستطيع الأذن الغربية التقاط جمالية تراكيبها نظراً لخصوصية (الربع صوت) الذي تتمايز به الموسيقى الشرقية عن الغربية.


ولكن شغف الأوروبي المنفتح على الثقافات العالمية يقربه من فهم عوالم تلك الموسيقى مع مرور الوقت، وفي الشعر أرى الأمر يتكرر، لأن التراكيب اللغوية وطريقة بناء الصورة مختلفة في حيز كبير من الكتابة العربية عن مثيلتها الغربية، وكما أن بين الموسيقى الشرقية والغربية هناك مقامات مشتركة، أيضاً في الكتابة هناك من الكتاب العرب من يكتبون القصيدة الحديثة بأسلوب مشابه للقصيدة الأوروبية، مما يعطي فرصة أكبر لتكون مفهومة وجميلة بالمقياس الأوروبي نفسه، ثم تأتي إشكالية الترجمة والتي يمكن لها أن تزيد من الغموض أو أن تبدده.

(*) ما رأيك بالحراكين الثوريين في الشارعين العراقي واللبناني؟
-  أسميتهما بـ"جناحي الثورة" السورية، وذلك لأني أراها تحلق مجدداً عبرهما. أنا أتابعهما يومياً وأرى فيهما وعياً مُضافاً، واستفادة من دروس الثورات التي سبقتهما، وأُحيي تمسكهما بالسلمي، وابتعادهما عن الشعارات الدينية، بل كأنهما يدفنان اللغة الطائفية، ويؤسسان لمعنى المواطَنة، ويحدث ذلك رغم سيل الكثير من دماء ثوار العراق وكثير من التحرش الخشن من جانب الميليشيات المناوئة للثورة في لبنان.

ولن استغرب بدء موجة احتجاجات جديدة في الشارع السوري، لأن الجوع هو نتيجة حتمية لكل هذا الإجرام والفساد واستغلال السلطة، وهو ما سيدفع بالناس إلى الشارع في نهاية الأمر، مُضافاً لذلك هذا الشعور العميق بارتهان حكومات تلك البلدان، وفقدانها الشرعية الشعبية، وتحولها لمجرد أدوات لقوى إقليمية عفنة.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.