}

محمد نورالدين أفاية: انفجار السمعي البصري خلخل دور الإبداع(2)

أشرف الحساني 19 أبريل 2019
لا أحد يستطيع أن يشكك اليوم في كتابات المفكر المغربي ابن مدينة سلا، محمد نور الدين أفاية، كأحد الأقلام الفكرية المغربية المائزة، بل والأرفع عربيا، بما تتميز به كتاباته من عمق في التحليل وقوة في التركيب وحصافة التفكيك ونزوعه الدائم نحو اختراق ومساءلة المفاهيم الفكرية بالكثير من الجدية المدفوعة بهاجس المغايرة والاختلاف، فتراه متنقلا بين العلوم والمعارف، لكن داخل وحدة موضوعية وفسيفسائية تنطلق من السؤال الفلسفي لتلتقي داخل فضاء مركب من الخطاب، الذي يتقاطع فيه الفلسفي بالتاريخي والأنثروبولوجي بالنفسي، ويتسم بنوع من الجدب والوجد الصوفي ليلتقيا داخل خطاب مركب وجامع بتعبير جيرار جنيت.
وقد صدر للدكتور أفاية الكثير من الكتب الفكرية، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: الخطاب السينمائي بين الكتابة والتأويل (1988)، المتخيل والتواصل: مفارقات العرب والغرب (1992)، الغرب المتخيل: صور الآخر في الفكر العربي الإسلامي الوسيط (2000)، الديمقراطية المنقوصة: في ممكنات الخروج من التسلطية وعوائقه (2013). كما فاز بعدة جوائز أهمها جائزة أفضل كتاب عربي سنة 2015 عن كتابه "في النقد الفلسفي المعاصر، مصادره الغربية وتجلياته العربية".
عن كتابه الأخير "الصورة والمعنى" الذي تصل عدد صفحاته إلى 400 صفحة وغيرها من الموضوعات والمفاهيم المرتبطة باللغة والمتخيل والمثقف العربي والقضية السورية، التقت "ضفة ثالثة" المفكر محمد نور الدين أفاية فكان هذا الحوار. هنا الجزء الثاني والأخير منه:

مكتسبات أكثر من منهج
(*) حتى لا يكون حوارنا ينصب على موضوعة مخصوصة دون غيرها، لننتقل إلى موضوع آخر مرتبط بالنقد. نادرة وشحيحة هي الأسماء النقدية، التي ظلت تحافظ على مصداقيتها وتعاقدها الرمزي مع القارئ، لأن النقد هو مسؤولية فكرية، وهو جزء أساسي من المسار الديمقراطي داخل الثقافة العربية وبغياب هذا النقد في نظري يتحلل ويتفسخ فعل الممارسة الثقافية، فيفقد عنصرا أساسيا من عناصر التقدم والتطور. الدكتور نورالدين أفاية، حين مارست النقد الفني في تسعينيات القرن المنصرم أو قبله بسنوات، ما هي المعايير والرؤى، التي كنت تحتكم إليها في كتاباتك؟
صحيح أن النقد كما الفكر مسؤولية كبيرة. كما أنه يصعب علينا إنكار الاجتهادات الفكرية ذات النفس النقدي التي عرفتها الثقافة العربية المعاصرة، منذ بداية القرن العشرين إلى اليوم. فأنا أعتبر، ومن دون تردد، أن كتابات علي عبد الرازق وطه حسين وسلامة موسى وأحمد أمين وغيرهم من المثقفين في مصر وغيرها من البلدان العربية التي أنجبت مثقفين استطاعوا التبرم من الدوائر التقليدية والمحافظة التي رهنت الثقافة العربية منذ قرون.
أما جيل الحداثة العربية الجديدة، منذ أواسط القرن الماضي، فإنه أنتج متونًا وأعمالًا نقدية لا

يمكن لمؤرخ الأفكار النزيه أن يتغاضى عنها. فهناك كتابات لفلاسفة ومفكرين ومثقفين وباحثين استوعبوا الفكر الإنساني العصري، وتملكوا بعض مفاصل التراث بما جعلهم يقوضون "القراءات التقليدية للتراث"، بتعبير محمد عابد الجابري، ويتحاورون مع الفكر الإنساني من دون حرج أو عقدة. يمثل هذا التيار وما يزال نزعة نقدية في منتهى الغنى والعمق التي أنتجها الفكر العربي المعاصر. لا شك في أن تيارات النكوص الفكري وسطوة السلفية والتدين السطحي وتهديدات التكفير شوّشت وتشوش على انتشار الفكر العصري بما هو فكر نقدي بالضرورة، كما أن الأنظمة التسلطية فتحت قنواتها ومنحت إمكاناتها لهذه التيارات لمحاصرة أي اجتهاد فكري يجعل من النقد عنوانه ومنهجه وهدفه. وهذا منتظر من أنظمة تعادي التفكير وتمنعه وتنشر بدل ثقافة وقيم الإذلال والطاعة. لقد أنجز العديد من المفكرين العرب ما عليهم من مهام باعتبارهم مفكرين، لأنه لم يعد الممكن التعويل على المثقف العضوي اليوم، أو المثقف المناضل في هيئة سياسية، سيما وأن السياسة اعتورتها الأمراض من كل جانب منذ أكثر من أربعين سنة. لذلك راهن عدد كبير منهم على الفكر والتربية لعل ذلك يؤثر في الفكر والذهنيات.
أما في ما يخصني، فأنا تركيب لتأثير مزدوج: تأثير الفلسفة الغربية ولا سيما ما يتعلق فيها بالفكر النقدي، منذ كانط، مرورا بفلاسفة القرن التاسع عشر، والنظرية النقدية إلى يورغن هابرماس وأكسيل هونيت وهارتموت روزا، وبعض فلاسفة الاختلاف الفرنسيين...؛ كما تلقيت من جهة أخرى، تأثير أساتذة ومفكرين عرب كبار تتلمذت على بعضهم مباشرة أو عن طريق نصوصهم. وهذا التزوُّد المزدوج سمح لي، بالتدريج ومن دون أوهام، بمجابهة نصوص وأفلام تمخضت عنها مجموعة من الكتب التي انطلقت عملية نشرها من "الخطاب السينمائي" مروراً بـ"النقد الفلسفي المعاصر"، و"الوعي بالاعتراف"، و"صور الغيرية" إلى "الصورة والمعنى". وقد كان واضحاً، منذ البدء، أن القراءة، اعتماداً على أي مستند كان، في حاجة إلى التحرر الدائم من الارتهان لمنهج واحد أو سلطة مرجعية وحيدة، وإنما اجتهدت، باستمرار، لكي أستثمر مكتسبات أكثر من منهج، حسب ما تسمح لي به إمكاناتي في البحث.

(*) كيف يمكن خلق مناخ وأرضية لتأسيس نقد فني جديد ممارسة وتنظيرا ومن ثم تيار نقدي عربي جديد يحتكم في تقنياته ومقارباته إلى مناهج عربية وليس غربية؟
من ينكر وجود اجتهادات نقدية في كل مجالات التعبير في الثقافة العربية المعاصرة إما أنه غير متابع لما ينشر ويصدر من أعمال ونصوص، وإما أنه لا يمتلك ما يلزم من شروط التواضع والاعتراف بعطاءات الآخرين. نجد أقلاما أخضعت كل حقول القول والإبداع للنقد والدراسة. وهناك أجيال برهنت على اقتدار لافت على مقاربة الإبداعات التي فجرتها المخيلة العربية. أما القول بتأسيس "نقد عربي" بالاحتكام إلى "مناهج عربية وليست غربية" فهو قول أحسبه متجاوزاً، لأن الفكر المبدع، كما النقد. بحكم أن الفكر المبدع هو في عمقه فكر نقدي بالضرورة، يصعب عليه ادعاء تأسيس "نظرية قومية" في النقد، بسبب انتقال الأفكار وهجرة المفاهيم وتفاعل النظريات. لقد انتهت "السطوة الإبستمولوجية" للغرب الذي لم يعد غرباً هو نفسه حسب الإدراك الذي ساد في الثقافة العربية منذ ستينيات القرن الماضي، وما تزال تلوكه العديد من الأقلام التي لم تدرك تحولات الفكر في العالم.

الخطيبي والعروي
(*) يعتبر مفهوم الهوية من بين المفاهيم المضمرة التي اشتغل عليها الخطيبي في مشروعه الفكري، سواء تعلق الأمر في كتاباته الأدبية أو الفكرية. كيف تقيم سؤال "الأنا" و"الآخر" في كتابات الخطيبي؟ وما مدى حضوره واشتغاله بين الأدب والفكر عند الخطيبي؟
الخطيبي كان أكثر المفكرين المغاربة والعرب الذي وعوا مبكرا باهتزاز الحدود أمام النظريات؛

وعمل على موضعة كتاباته ضمن الأفق العالمي للمناقشة الفكرية. ليس لأنه كان يكتب بالفرنسية وإنما لأنه فهم أن التقدم إلى العالم بادعاء هوية مغلقة لا يجدي في المجابهة الفكرية أو في العمل النظري. عبد الكبير الخطيبي كان مفكرا مُساجلا ومُجادلا ومُناقشا، وفرض احترامه على عدد كبير من المفكرين والمثقفين في فرنسا وأميركا واليابان. ومنذ كتابه "الحمى البيضاء؛ الصهيونية والوعي الشقي" (1974) الذي واجه فيه أحد كبار فلاسفة القرن العشرين في فرنسا وهو جان بول سارتر بالأساس، كما ناقش في هذا الكتاب مثقفين آخرين مثل ألبير ميمي وغيره، إلى كتابه الحواري مع الأميركي صامويل فيبر بعنوان "السبيل نحو الآخر"، مرورا بمساجلاته المعروفة مع جاك بيرك، وبمناقشاته مع رولان بارث وجاك ديريدا، الذي كان يكن للخطيبي تقديرا خاصا قلّما صدر عنه تجاه الآخرين.
فالخطيبي، كما لخصت ذلك في الفصل الأخير من كتابي "في النقد الفلسفي المعاصر"، يرى أن معالجة مسألة الهوية والاختلاف، الذات والآخر، تبدو في كثير من الكتابات العربية، وكأنها عمل بلاغي بامتياز. بل وتتقدم في بعض الخطابات كمشكلة مزيفة. حيث يواجه المرء صيغًا تطغى عليها النبرة المأساوية، وكأن الأمر يتعلق بنقص أو بخصاص في الذات، وبفخ جهنمي تتعرض له من كل جانب. واستدعاء ثنائيات من قبيل ماضي/ حاضر، أصالة/ حداثة، هوية/ استلاب، شرق/ غرب، كثيرا ما يتم داخل أطر فكرية ونفسية تعطي لهذه الثنائيات مضامين «جوهرانية»، لا تراعي مفعولات التغيير أو الازدواجية أو الخلخلة التي يتعرض لها الأشخاص والأوطان والثقافات. بل إن التقدم باسم حضور منغلق على حدوده الخاصة، إزاء آخر اجتياحي، لا يعني، البتة، الانفلات من السياق الثقافي العام التي تعمل الحضارة الغالبة على نحته. حصل هذا في الماضي، ويحصل في مجال إدراكاتنا اليومية. وسيحصل في المستقبل.

(*) يقول الخطيبي في عبارة صريحة "أيديولوجية العروي منهارة في أساسها". لماذا ذلك في نظرك؟
اسمح لي أن نختلف قليلاً حول هذا الموضوع. صحيح أن الخطيبي انتقد عبد الله العروي وتباينت مقارباتهما. فالعروي، انطلاقاً من نزعته الهيغيلية (أو الماركسية المبكرة)، يدعو، للخروج من التأخر التاريخي، إلى إقامة دولة عصرية مركزية تستطيع استنبات الحداثة وتأهيل المجتمع بالتربية والثقافة؛ أما الخطيبي فكان يرى في المركزية تهديداً دائماً للهوامش وسلباً للاختلاف. لكن المرء حين يتأمل في كتابات هذين المفكرين، قد يجد فيهما ما يسمح بإقامة تركيب ممكن من دون الشعور بأدنى تناقض. فالعروي مفكر كبير وجسور حتى وإن اختلفت مع تاريخانيته أو نزعته الليبرالية. ولذلك لا أستطيع تصورهما كخصمين فكريين بقدر ما هما معا يشكلان خصمين إيديولوجيين وفكريين لتيارات التقليد والسلفية.

(*) لا يخفى أن كتاب عبد الكبير الخطيبي "الاسم العربي الجريح" يعد في طليعة المتون الفكرية داخل الثقافة العربية المعاصرة ويوازيه أهمية في مجال الإبداع "كتاب الدم" إذ عمل من خلاله على قراءة الجسم العربي انطلاقا من خلل الموروث داخل الثقافة الشعبية بوعي علمي ونقدي أصيلين. ما الطريقة المنهجية والمعرفية التي جاء بها نقده للمفهوم اللاهوتي للجسم العربي وأيضا عن الدراسات والمقاربات الاثنولوجية التي تعاملت مع الذاكرة الشعبية تعاملا برانيا ومتعاليا، كالتي يمثلها العروي مثلا؟
كان عبد الكبير الخطيبي وسيبقى مثقفا يمتلك جدارة فكرية في سياق ثقافي مغربي وعربي يقاوم الخروج من الارتهان الفقهي التقليدي الذي قامت عليه الثقافة المغربية والعربية. وهو، وإن تناول موضوعاته بلغته المميزة وبأسلوبه الخصوصي الحديث دوما، لم يتعب نفسه كثيرا في

المرافعات التي سجنت مناقشات ومساجلات المثقفين العرب منذ الستينيات. عبد الكبير الخطيبي هو أولا وقبل كل شيء "أسلوب" في الكتابة التحليل، والقلق والحضور. تمرد على المنهج السوسيولوجي الصارم للانشغال بكل تجليات الكائن. غامر في الشعر، والمسرحية، والرواية، والنقد، والجماليات والفلسفة. وفي كل هذه الحقول كان كاتبا محترفا خبر صنعة البناء والتقديم والنقد والاستشراف.
من "الذاكرة الموشومة" التي اختزنت كثيرا من انشغالات الخطيبي الفكرية، مرورا بـ "المغرب المتعدد" و"الحمى البيضاء" و"الاسم العربي الجريح" و"كتاب الدم" وأوجه الأجنبي" إلى آخر نص نشره عن الفن، أصر الخطيبي على ألا يتوقف عن محاولة تفجير الثنائيات القاهرة التي تحجز الفكر وتمنعه من الغوص عميقا في اللامفكر فيه، والهامش، والمنسي. الخطيبي مفكر وفنان، كاتب وناقد، "مغربي" وإنساني. تكثف كتاباته في كل المجالات إرادة عارمة لتكسير الحدود، كل أشكال الحدود، سواء تقدمت باسم الدين أو السياسة، والوطنية أو التخصص.
يتبرم الخطيبي من كل النزعات ذات الخلفيات التي تستهدف الاستقطاب أو الخندق، يصر على التفكير خارج منطق المنظومات أو المشاريع التعبوية. بل إن كتاباته تدعو إلى تفكيكها وخلخلتها من منطق الحرص على هامش الحرية، والانفلات من الاستلاب، والتغني بالحياة والجسد، والجمال والحب.
كان مسكونا برعب التناقض أو الانشطار الذي وجد العربي نفسه داخله، وحاول التسلل إلى ما هو جدير بخلق التوازن لكل فكر يقظ أو لنمط حياة متجددة.
يمثل هذا المفكر أحد الخصوم الطبيعيين لكل أشكال الأصولية التي تشوش على التفكير، والإبداع، وعشق الحياة. كان من المثقفين الذين اهتدوا، باكرا، إلى قضايا الاختلاف داخل الهوية، والتنوع في إطار الوحدة. انتبه، بحدسه الفني والفكري، إلى ثراء الثقافة المغربية قبل أن يتصاعد الضجيج حول "التنوع الثقافي" في زمن العولمة. كما كان يقول دائما بأن الاختلاف ليس في متناول أول متمرد. لأنه باسم الاختلاف يمكن إزهاق أرواح بريئة، كما أنه باسم "هوية عمياء" يمكن ارتكاب جرائم في حق توازن مجتمع إسمنته التنوع والتعدد، كما يتجلى ذلك في تنازع الهويات اليوم في بعض البلدان العربية.  

العلاقة بين الثقافي والسياسي
(*) كيف تشخص طبيعة العلاقة بين الثقافي والسياسي في تاريخ الثقافة العربية المعاصرة؟
هذا سؤال لا يمكن الاقتراب منه في حوار يخضع لإكراهات الحيز والاستعجال. لا شك أن جدلية الثقافي والسياسي في "تاريخ الثقافة العربية المعاصرة" سمحت بإنتاج مئات الكتب والمصنفات. لقد انتصرت السياسة، بكل تعبيراتها الاستبدادية، على العقل الإبداعي العربي، وفي فترات متفاوتة من هذا التاريخ. علما بأن العالم العربي يزخر بكفاءات فكرية وبخزان ذكاء هائلين، لكن تحالفًا رهيبًا، مباشرا أو غير مقصود، جمع التسلطية، بكل تعبيراتها العسكرتارية والثيولوجية والفاشية، والإسلام السياسي وأموال النفط، مع الأدوار التدميرية للصهيونية، فرض هذا التحالف على هذه الكفاءات الفكرية والمبدعين العرب إما الهجرة، أو الصمت، أو السجن، أو سلوك سبل المهادنة والاندماج في مسلسل الانحدار العام. صعب هو العمل الثقافي والفكري في سياق هذا التحالف الرهيب، وفي زمن دعوات التكفير والقتل. ومع ذلك نجد انفلاتات هنا وهناك في هذا البلد العربي أو ذاك، بالرغم من مظاهر الخراب التي تصدم الكيان والوجدان.

(*) كيف يمكن أن نفسر اليوم تراجع المثقف المغربي عن إنتاج المعرفة والتأمل والحوار الصامت معها نقدا وتفكيكا لمصلحة مثقف مخزني/ انتهازي، لا تهمه الثقافة إلا من خلال ما تجنيه من وراءها من مال وسلطة عبر وظائف مرموقة في الدولة، فوجدنا أنفسنا أمام مثقف متعدد الأقنعة: الأكاديمي، الحزبي، المخزني ويعملون على تأجيج الفرجة على حساب إنتاج المعرفة، التي يتميز بها المثقف الحر اليقظ صاحب المشاريع الفكرية المؤسسة في تاريخ المعرفة؟
بعض عناصر الجواب على هذا السؤال تجدها في الجواب السابق. لقد انتصرت السياسة المريضة على الثقافة، وتغلب التقليد على النزوعات إلى الحداثة، وهيمنت سياسة الإذلال على مقدرات الدولة والمجتمع، وتمّ إخضاع الجميع لعمليات الإفساد وشراء الذمم، إلا باستثناءات قليلة. المثقف إنسان قد يمتلك ما يلزم من شروط مقاومة هذا المد الجارف، وقد يضعف أمام إغراءات الوقت. ثم علينا أن ننتبه، مرة أخرى، إلى أن الحديث عن المثقف اليوم وإصدار أحكام عليه يجب أن يراعي تحولات الثقافة وأدوار المدرسة والجامعة والفكر في الأنسجة المؤسساتية والتربوية والوسائطية. فالتكنولوجيات الجديدة والثورة الرقمية هددت العديد من القناعات والأدوار. ولا يمكن الاكتفاء باجترار أفكار تعود إلى ما قبل هذه الفتوحات التقنية والاستهانة بقدرتها على التشويش على عمل الفكر ووظائف الثقافة التقليدية. فالمجتمع العربي ليس مجتمعا قارئًا بما فيه الكفاية حتى نعرض المثقف لمحاكمة عن وضعية ليس وحده المسؤول عنها. كما أن انفجار السمعي البصري واستيلائه على الوجدان والأذهان خلخل أدوار الإبداع والفكر. فضلا عن أننا رأينا عشرات مما يسمى "مراكز التفكير" Think Tank تنبت كالفطر لتعويض المثقف النقدي والباحث الجاد الذي يحتاج إلى الوقت والجهد والمسافة والحرية المناسبة إزاء السلطة لبلورة تفكيره وإنتاجه.

(*) لماذا في نظرك لم يتفاعل المثقفون المغاربة مع القضية السورية كما فعلوا مع القضية الفلسطينية؟
الجواب البسيط على سؤالك هو أن ما أسميتَه بـ"القضية السورية" ليست هي القضية الفلسطينية. وأعداء الأولى ليسوا هم أعداء الثانية، ومن صنعوا خراب سورية ليسوا هم من ساعد الإرهاب الصهيوني على خلق القضية الفلسطينية. ثم على ماذا تعتمد لإصدار حكم حول غياب تفاعل "المثقفين المغاربة" مع القضية السورية؟ حسب ما أعرف هو أن هناك عددا كبيرا من

الكتابات والبيانات تمت صياغتها حول ما جرى في سورية. قد تتفق معها أو تختلف. ثم إن هذه القضية تساوقت مع خراب عام تقريبا خلخل العديد من البلدان العربية في سياق ما سمي زورا وبهتانا "الربيع العربي". لقد كان الرهان على العودة بالعالم العربي إلى مرحلة ما قبل الدولة، وهذا المسلسل انطلق منذ بداية تسعينيات القرن الماضي. والمؤشرات كلها تفيد بأن الهدف تحقق. وإذا شئت أن تعرف موقفي من هذا الموضوع أدعوك للعودة إلى كتابي "الديموقراطية المنقوصة؛ ممكنات الخروج من التسلطية وعوائقه" الذي صدر سنة 2013؛ لكن أهم دراسة فيه نشرت في ماي 2011، أي في عز ّ الحراك الجماهيري الكبير في بعض الساحات العربية. وقد تضمن حينها نزعة شكية واضحة حول مآل هذا الحراك في الوقت الذي عبر عدد كبير من المثقفين عن حماس غير مفكر فيه بأفق جديد لذاتية عربية متحررة. فالتفكير العالمي في زعزعة سورية وتغيير نظامها سابق على ما نعت بـ"القضية السورية" وبأحداث الاحتجاجات الشعبية السورية ضد تسلطية النظام السوري، والتي تعامل معها بكثير من العنف والتنكيل.
وفي هذا السياق يكفيني أن أقترح عليك مراجعة مذكرات رولان دوما، وزير خارجية فرنسا في عهد فرانسوا ميتيران، وتصريحاته المباشرة في بعض القنوات الفرنسية، وكيف فوجئ وهو يزور لندن بما كان يُحضر له لخراب سوريا منذ 2008 من طرف بلدان خليجية وإقليمية ودولية يذكرها بالاسم. وذلك تحت عناوين كبرى تتعلق بالغاز والإسلام السياسي وموازين القوى الجديدة التي فرضها المد الإيراني في المنطقة العربية، بعد وقف المعارك مع حزب الله بلبنان في صيف 2006 وخروج أميركا منكسرة من العراق لصالج إيران. لا أدعي أنني مختص في التحليل الجيو استراتيجي، فهذه الأمور تدخل في نطاق معلومات ضرورية قبل اتخاذ مواقف. معَ من تريد أن يقف المثقف المغربي في متاهات المستنقع السوري؟ مع النظام التسلطي المدعوم من إيران وروسيا أم مع فسيفساء الإسلام السياسي المتطرف العنيف المسنود بدول الخليج وتركيا وإسرائيل وأميركا، والذي يقتل باسم الله؟ لقد فرض هذا المستنقع على الجميع قطبية لا مثيل لها في الصراعات المعروفة. هذا في الوقت الذي جرف فيه هذا المستنقع وأضعف كل الحساسيات السياسية والفكرية السورية التي يمكن للمثقف أن يتعاطف مع مواقفها، حيث فرض عليها القمع الوحشي من جهة والإرهاب البربري من جهة أخرى الانكفاء والصمت والتفرج على وطن جميل تحرقه أحقاد المتأسلمين والفاشيين والمتهافتين على روائح الغاز ومواقع توازن القوى. وفي كل الأحوال فإن بعض الفاعلين في الأحداث ممن تزعمواالمجلس الوطني السوري بدأوا يعلنون ويجهرون ويعترفون بالقوى والخيانات وصراع المصالح التي ساهمت في جعل القضية السورية ترقى إلى مستوى مأساة إنسانية نادرة في التاريخ العربي المعاصر.

(*) هل تشاطرني الرأي، في أن عملية قمع الشعوب العربية وتعنيفها وأسرها ومنعها من التعبير عن رأيها، قد شكل عاملا أساسيا في تعثر المشروع الثقافي العربي؟
نعم.. أشاطرك الرأي تمامًا.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.