"الملك".. لا يمكن أن نضع أمام اسمه غير ذلك.. في مسرحية "الملك لير" لسحر عساف منذ أربعة أعوام أدّى روجيه عساف دور الملك، لكنه كان أيضًا ملكًا حقيقيًا للمسرح. سنواته الثمانون لم تمنعه من التفكير بمشاريع تخص ّ المسرح، يبدو أكثر اقترابًا منه، بعد موسوعته "سيرة المسرح- أعلام وأعمال" يفكر عساف في أرشفة المسرح اللبناني لأن "مسرحيات عظيمة تذهب بفقدان الذاكرة"، يريد تخليد يعقوب الشدراوي وجلال خوري وريمون جبارة والمبدعين الآخرين على طريقته. فلسطين هي قضيته الروحية، يقول إنه ينطفئ إذا تخلّى عنها. يقف مع حراك 17 تشرين لأنهم يكوّنون العامل الأساسي بتكوين ثقافة المستقبل، ويؤكد أن الذين يراهنون على التطبيع مع إسرائيل من أجل الربح سيخسرون.
روجيه عساف (1941) وبتشجيع من أستاذه الفرنسي جورج هاريتيه للإلقاء المسرحي في المدرسة، بدأ بعلاقة عاطفية غير سرية مع المسرح منذ طفولته، فشارك وهو في الثانية عشرة من عمره في مسرحية جوّالة من إخراج هنري خياط. درس الطب لمدة أربع سنوات (1958-1962) لكن شغفه بالعمل المسرحي دفعه لترك الطب كمن يهجر حبيبة بديلة ويعود إلى مسقط رأسه وحبه الأول. شارك عساف بتأسيس المركز المسرحي الجامعي (C.U.E.D) في معهد الآداب حيث عرضت عدة مسرحيات ذات طابع طليعي، وشارك في تلك الفترة في أعمال تلفزيونية مع المخرجين جان كلود بولس وأنطوان ريمي والياس متى وأنطوان مشحور. في عام 1963 حصل من السفارة الفرنسية، على منحة لدراسة التمثيل في المعهد العالي للدروس المسرحية في فرنسا، موطن أمه. عاد إلى لبنان عام 1965، ويقول عن تلك الفترة: "الغربة نبّهتني إلى عروبتي، حين كنت أدرس في فرنسا أحسست لأول مرة معنى كوني عربيًا". عندما عاد، ساهم في تأسيس كلية الفنون في الجامعة اللبنانية في عام 1966، وشارك في إنشاء "مسرح بيروت" ودشّنه بمسرحية "عودة أدونيس" مع غبريال بستاني، ثم شارك في التمثيل مع مخرجين آخرين مثل جلال خوري في مسرحية "أرتيرو أوي"، ومع شكيب خوري في "بانتظار غودو"، والأخوين رحباني في "أيام فخر الدين"، ومنير أبو دبس في "هاملت". عاد عساف محمّلًا بفرنكفونية كاملة قدّم من خلالها مسرحًا فرنسيًا نخبويًا بلغة موليير تمثيلًا وإخراجًا منها مسرحية "خادم السيدين" لكارلو غولدوني، مسرحية "السيد" لبيار كورناي، مسرحية "الكراسي" لأوجين يونسكو، ومسرحية "زيارة السيدة العجوز" لفريديريش دورنمات، وأخرج مسرحية "هنري الرابع" لشكسبير، وكان جمهور عساف فيها جمهور البرجوازية الاجتماعية.
"صرت إنسانًا آخر بعد النكسة"، يقول روجيه عساف عن ذلك العام الذي وجد ضالّته فيه، عام 1967، قدّم مع نضال الأشقر مسرحية "الآنسة جولي" لأوغست ستريندبرغ التي اشتغل عليها أنسي الحاج ليقدّمها لجمهور المتكلّمين بالعربية بلغة عصرية. تشجيع أنسي الحاج له ليقدّم مسرحًا باللغة المحكية، لقاؤه مع نضال الأشقر، ونكسة حزيران 1967 كانت كلها أشبه بحفريات في الأرضية الداخلية الخصبة لروجيه عساف، فأسّس في عام 1968 مع نضال الأشقر "محترف بيروت للمسرح" الذي جمع عددًا من المبدعين في المسرح والشعر والموسيقى، ومنهم: عصام محفوظ، طلال حيدر، أسامة العارف، نزار قباني، وليد غلمية، نبيه أبو الحسن، نقولا دانيال، فؤاد نعيم، وجان شمعون، وقدّم أعمالاً مسرحية كبيرة منها: "المفتش غوغول" (1968) و"طبعة خاصة" (1968)، لكن المسرحية التي ستنبؤنا عن ثورة عساف وتمرّده هي مسرحية "مجدلون" (1969) التي أوقفتها الرقابة خلال العرض وأخرجتهم من المسرح لكنهم أكملوا التمثيل في الشارع. كما تعرّضت بعدها مسرحية "كارت بلانش" (1970) للتضييق. وفي عام 1972 قدّم مع الفنان شوشو (حسن علاء الدين) "آخ يا بلدنا" و"خيمة كركوز" (1974). يقول عساف عن انتقاله إلى المسرح العربي: "المسرح الذي كنت أمارسه من قبل منقطع ولا يقيم تواصلاً معه، على الأقل بسبب النصوص المعتمدة من ثقافات وتجارب مختلفة".
المحطة الأهم في تجربة روجيه عساف كانت مسرح "الحكواتي" (1978) الذي يعتبر مرجعًا في تاريخ المسرح اللبناني والعربي، هناك نقّب عساف عن هموم الفئات الشعبية والمجتمعية المهمّشة، أراد أن يقدّم أعمالًا فكرية وسياسية واجتماعية، وكان المسرح أداته فقط في ذلك، فالمسرح بدون هؤلاء "شغلة تافهة". أصدر "بيان الحكواتي" (1979) الذي يدعو فيه إلى قطيعة مع المسرح الغربي لأنه لا يلبّي الحاجة الملحّة إلى التعبير، ودعا إلى تغيير نوعية العلاقة مع الإنتاج المسرحي ومع الجمهور عبر العمل الجمعي والبحث عن قصة أو حكاية شعبية من التراث والتاريخ، والانطلاق من صور وشخصيات وأحداث واقعية وحسية. ومن أهم الأعمال التي قدّمها مسرح الحكواتي "عيناتا" (1978) "حكايا 1936" (1979)، "أيام الخيام" (1982).
أطلّ روجيه عساف على العالم حاملًا معه حكاياته إلى "مسرح الأمم" في عام 1984، وعرضت أعماله في عدد من الدول الأوروبية والعربية. كما أنتج عساف فيلم "معركة" (1985) الذي يتناول مقاومة الجنوب للاحتلال الإسرائيلي. وفي عام 1991 قدّم "الجرس" مع الفنان رفيق علي أحمد (1991). صمت روجيه عساف بعد "الجرس"، لكن الياس خوري أعاده إلى المسرح مع "مذكرات أيوب" (1993). لم يعد بعد ذلك إلا في عام 2000 عندما قرّر تأسيس "جمعية شمس" وهدفها دعم محاولات التعبير الشبابية وتفعيلها، أراد لهم أن يعمّروا وطنهم على قياس الثقافة والفنون التي افتقدها الشارع البيروتي، بدأ بـ"جنينة الصنائع" (2001) ولا يزال حتى الآن هذا المسرح يقدّم نشاطات ثقافية ومسرحية وسينمائية متنوعة.
منذ الستينيات فُتح الباب أمام عساف على الجوائز والتكريمات التي لا تزال مستمرة حىى الآن، ومنها جائزة الأرزة الذهبية (1962)، جائزة أفضل عمل مسرحي في أيام قرطاج المسرحية (1983)، وسام مهرجان Montpellier (1985)، جائزة أفضل عمل مسرحي وجائزة أفضل إخراج في ملتقى القاهرة الدولي (1994)، جائزة الامتياز في أيام قرطاج المسرحية (1998)، وجائزة "الأسد الذهبي" في "بينالي البندقيّة/ فينيسيا" للمسرح (2008) عن مجمل مسيرته المسرحية.
إضافة إلى مسيرته المسرحية الحافلة كان له عمل مسرحي من نوع آخر، فأصدر كتاب "المسرحة - أقنعة المدينة" (1985)، وكتيّبًا بعنوان "في العمل المسرحي والسياسي في لبنان" (2007) وسلسلة من أربعة كتب بعنوان "سيرة المسرح- أعلام وأعمال" (2010) ترجمت للغة الفرنسية بعنوان "المسرح في التاريخ" (2016).
في رسالة اليوم العالمي للمسرح 2019، كتب المخرج الكوبي كارلوس سيلدران: "رحلتك مذهلة، لا أحد يمكن أن يعطيها حق قدرها أو يسكتها، ولا أحد يمكنه أن يقيس حجمها الصحيح، إنها رحلة في مخيلة شعبك، بذرة مغروسة في أبعد أرض، موجودة بالوعي المدني، الأخلاقي والإنساني للمتفرّجين عليك"، وفي الصفحة الأخيرة من غلاف كتابه "المسرح في التاريخ" يكتب روجيه عساف: "ذات يوم اكتشفتُ أن المسرح هو الوجه الخفيّ للتاريخ"، كل ما فعله عساف هو مسرحة التاريخ على الخشبة في رحلة مذهلة من داخل القلوب الصغيرة للجمهور إلى العالم. أراد عساف أن يقوم بفعل سياسي للمجتمع فأدّاه من خلال الفنون التي اقترنت مع بعضها البعض فتحوّل مسرحه إلى مكان قائم على غرس الوعي في نفوس المتفرجين، مكان لا نريد أن نغادره.
مع روجيه عساف، الإنسان الجميل، الشكسبيري والبريختي، المعلّم والممثّل والمخرج والكاتب، وأحد أبرز رواد المسرح الطليعي العربي الواقعي، الذي يعرّف نفسه بـ"اليساري الماركسي المسيحي المسلم"، كان هذا الحوار عن تجربته ورؤيته للواقع المسرحي والسياسي:
عن تجربة مسرح الحكواتي
(*) اعتمدت في مسرح الحكواتي على بناء نص من ذاكرة الناس، نجحت هذه التجربة محليًا ودوليًا ونالت جوائز عديدة، حدّثنا عن تجربة الحكواتي وأين أصبحت الآن؟
- حتى نفهم تجربة مسرح الحكواتي يجب أن نعرف أمرين، أنها امتداد لتجربة سياسية. من الأساس أنا رجل مسرح، اشتغلت مسرحا باللغة الفرنسية وباللغة العربية في محترف بيروت للمسرح منذ أوائل الستينيات حتى عام 1973 حين التحقت بأنصار المقاومة الفلسطينية وتركت المسرح، لأني اعتبرت أن ليس له دور بالمرحلة التي كنا نعيشها، وهي مرحلة النضال، حيث كانت السياسة هي التي تحدّد قيمة الثقافة والفنون. قرّرت أن لا أشتغل مسرحا، وكنت أخوض التجربة النضالية مع الفئات الشعبية اللبنانية في إطار المقاومة الفلسطينية دون أن أحمل سلاحًا. أثناء تجربتي النضالية السياسية، اشتغلت مع الناس بمشاريع سياسية لها طابع ثقافي وأخلاقي وفلسفي، وقتها طُلب مني أن أشتغل مسرحا، رفضت في البداية وتساءلت عن أي مسرح سأشتغل. المسرح الذي كنت أقدّمه ليس له مكان في ذلك الواقع الذي كنا نعيشه. قلت لهم: "إذا كنتم مصرّين على شغل مسرحي فأنا عندي التقنيات لكن أريد أن أتعلّم منكم"، صدمهم جوابي، لكننا انطلقنا بعد ذلك في حفلات سمر على مدى عامين مع الناس في الجنوب وفي الأحياء الشعبية. طلبتُ منهم أن يحكوا ماذا يتذكرون وماذا يحسّون، ما هو الفضاء الخيالي لديهم، وممّا هو مكوّن، من ذكريات وأشياء يشعرون بها ويعيشوها، من الواقع المُعاش ومن الذاكرة، هذان الأمران هما عناصر تكوين كل الثقافة وكل الفنون. هكذا بدأت تجارب جديدة في المسرح، أي أنها مسرحيات مكتوبة من قلب الواقع المعاش مع أشخاص هم أصحاب الموضوع، وهذا الموضوع مبني على ذاكرتهم وأفكارهم. بين العامين 1975 و1978 حدّدت هذه التجارب منهجية مسرح الحكواتي الذي قُدّم مع طلاب وأساتذة من الجامعة. إذًا هناك تاريخ قبل الحكواتي يفسّر معنى مضمون مسرح الحكواتي ومنهجية التجربة. أُسّست هذه التجربة في إطار الإحتلال الجنوبي ووجود جنوبيين بكثافة تهجّروا من الجنوب وحملوا معهم الجنوب، تاريخه، آماله، وآلامه. مسرح الحكواتي كان مرتبطًا بتاريخ ولغة وثقافة هذا المجتمع. وقد قدّمناه بين العامين 1978 و1982، لكن الاعتداء الاسرائيلي في عام 1982 ودخول الجيش السوري غيّرا كل المعطيات التي كانت تحضن تجربة الحكواتي ولم يعد من وجود لهذه الفرقة. الأحداث السياسية غيّرت كل الأمور، فتوقّف مسرح الحكواتي، لكننا تابعنا العمل المسرحي مع مسرح عين المريسة ومسرح بيروت، ثم العودة إلى الحياة بعد 1990 وإلى حيوية ثقافية جديدة. المسرحيات التي اشتغلت فيها منذ التسعينيات ليست تمامًا تابعة لمسرح الحكواتي لكن لها نفس المنهجية والطريقة والنوع، أي أنها مسرح عمل جماعي مبني على علاقة مباشرة مع الواقع المعاش، منها "مذكرات أيوب" و"جنينة الصنايع". ليس هناك فرق بينها وبين مسرح الحكواتي غير أن الموضوع لم يعد موضوع الجنوب والقضية الفلسطينية، صارت القضية هي بيروت والمجتمع اللبناني، والتقسيم الطائفي في لبنان.
(*) كيف ترى الواقع المسرحي بين مسرحة السياسة وتسييس المسرح؟
- هذا يحتاج إلى تعريف للمصطلحات، تسييس المسرح يعني أن يكون المسرح مستندًا على حزب معيّن وأن يكون في خدمة خط سياسي معيّن، هذا الشيء موجود لكن لا شيء له قيمة بهذا المعنى، لسبب بسيط، أن الزعماء السياسيين لا يهمهمّ لا ثقافة ولا مسرح. لكن المسرح السياسي يعالج الواقع بنظرة عميقة وبتساؤلات سياسية ولا يخدم سياسة معينة.
(*) هل هناك تعاون لبناني أو تبادل خبرات مع حركات مسرحية عربية، وهل يحتاج المسرح العربي حاليًا إلى تعاون مع المسرح العالمي؟
- لولا هذه العلاقات العربية والدولية لم يكن من الممكن أن تحدث تنمية وتطور للحركة المسرحية اللبنانية. لا أحكي عن تجربتي بل بشكل عام. المسرح في لبنان عاش من إبداع الفنانين اللبنانيين الذين أيضًا اغتنوا من علاقتهم مع المسرح العربي والدولي، مع أوروبا الشرقية وأوروبا الغربية، ومع المشرق والمغرب العربي. هذه العلاقات موجودة منذ الستينيات. وجود الفنانين العرب في لبنان ووجود المسرح اللبناني في الدول العربية مثل تونس والعراق والجزائر أحدث تفاعلًا مثمرًا، وكان ذلك مفيدًا جدًا لنا بشكل خاص وللمسرح العربي بشكل عام. الحركة الفكرية كانت غنية جدًا من بيان مسرح الحكواتي ومن البيانات التي أُعلن عنها كبيان الحركة الفكرية في العراق وفي سورية. توجد حياة مسرحية كاملة بيننا وبين المسرح السوري. نحن نتكلّم بالتأكيد عن المسرح في المراحل السابقة وخاصة بين السبعينيات والتسعينيات. أما في القرن العشرين فقد تغيّرت الظروف ولم تعد نفس الحيوية موجودة.
(*) عمّرت وطنًا كاملًا من المسرح مع نضال الأشقر وعبيدو باشا ورفيق علي أحمد والآخرين، لماذا نرى هذه الاستكانة المسرحية في السنوات الأخيرة؟ هل لذلك علاقة بعدم قدرتنا على الإبداع ونحن وسط مدن مشوّهة طائفيًا وسياسيًا؟
- هذا الموضوع غير خاص بالمسرح، فكل الحياة، كل المجتمع اللبناني أصيب بأمراض على الصعيد الاقتصادي، وعلى الصعد الثقافية والأخلاقية والسياسية. أهم موضوع لعب دورا سلبيا جدًا بشكل عام هو ترسيخ التقسيم الطائفي. التقسيم الطائفي حاليًا يدخل في أعماق المجتمع ويشظّيه. لطالما كانت هناك طوائف في لبنان وكان ذلك إيجابيًا في بعض جوانبه وسلبيًا في جوانب أخرى. بعد التسعينيات، صار التقسيم الطائفي أساسيا بكل الحياة الاجتماعية في لبنان وعلى كل المستويات. قبل الحرب الأهلية كان هناك طوائف وكانت هناك خلافات بينها لكن هذه الخلافات والفروقات والمصالح المختلفة بين الطوائف لم تكن بهذا القدر عميقة ولم تكن تؤثّر على الحياة العائلية والثقافية والتربوية بهذه الدرجة. التغيير الجذري الذي حدث في لبنان في المجتمع وفي الثقافة، هذه التشظية في المجتمع، ستنعكس على الجمهور، الجمهور حمل هذه الأمراض معه. مثلًا لا نرى في الأعمال المسرحية الموجودة نفس الجمهور هنا وهنا. هناك تقسيم بين الجمهور، ويوجد تقليص لمدى تأثير المسرح والفنون على المجتمع.تغيّر الجمهور
(*) ما هو الفارق بين مسرح الستينيات امتدادًا إلى التسعينيات والمسرح الآن، وكيف صارت العلاقة مع الجمهور، هل لا يزال الجمهور قادرًا على أن يتلقّى مسرحًا جادًّا، أم يبحث عن عروض الشانسونيه من أجل الترفيه فقط؟
- هناك جمهور يبحث عن عروض الشانسونيه وهناك جمهور يبحث عن المسرح الجادّ. وهذا موجود منذ ستينيات القرن الماضي. كانت لعروض الشانسونيه حيوية كبيرة. كان هناك المسرح التجاري، المسرح الشعبي، المسرح السياسي، المسرح الثقافي، والمسرح الطبيعي، كله كان موجودًا. اليوم نرى عددًا من أنواع المسارح لكن الأحجام تغيّرت وما عادت الحياة الثقافية موحّدة. تغيّر الجمهور ابتداءً من التسعينيات، ثمة اتجاه جديد حدث في الثقافة وفي كل الحركات الثقافية الاجتماعية. هناك فرق كبير بين النشاط المسرحي في الفترة الأخيرة، والنشاط أثناء الحرب. حاليًا هناك اهتمام من المؤسسات المانحة الأجنبية بكل المعطيات في الحياة الإجتماعية في لبنان، على الصعد الصحية والتربوية والثقافية والمسرحية. كل من يريد أن يشتغل مسرحا سيلجأ للتمويل من الأجنبي، وهذا ينعكس بشكل كبير على النص وعلى منهجية العمل، فلم يعد العمل مرتبطًا بالواقع المعاش حتى إذا عالج العمل مواضيع لبنانية، لكن لم نعد نرى علاقة حيوية بين المسرح والجمهور، وصار لكل مسرح جمهوره، ولكل مسرح تمويله ولا علاقة له بالمسارح الأخرى. المسرح الآن موزّع على جزر، كل مسرح له جمهوره وتمويله ويعيش منفصلًا عن النشاطات الأخرى. هناك مسألة مهمة أود قولها عن الثقافة والفنون، في الثقافة يجب أن يكون هناك تفاعل بين الفنون، بين المسرح والموسيقى والشعر والرقص والفكر، كي يعيشوا حركة موحّدة، لكن هذا الأمر غير موجود حاليًا. ليست المسارح وحدها المنفصلة عن بعضها البعض، أيضًا المسرح منفصل عن حياة الرسامين، وعن الأدباء، وعن الصحافيين، علاقة الصحافيين بالمسرح تغيّرت أيضًا، لم تعد كما كانت، لا توجد هذه العلاقة العميقة التي كنا نعرفها بين المسرحيين والصحافيين والشعراء والرسامين والأدباء والموسيقيين.
(*) لماذا لم يتم وضع خطة أو مشروع لدعم القطاع المسرحي عبر الدولة كي لا نلجأ إلى الأجنبي؟ ألا يجب أن تتحمّل وزارة الثقافة مسؤولية الثقافة عبر المسرح؟
ـ(يبتسم) دعينا لا نحكي عن "غائب"، وزارة الثقافة لم يكن لها دور مهم منذ بدايتها في الحياة الثقافية. دورها كان بسيطًا جدًا، وجودها وغيابها لم يكن يغيّر ولم يكن يؤثّر. ربما كان هناك دور بسيط لتخفيف الضغط الرقابي، وهذا أمر مهم، لكن إجمالًا لم يكن لها دور يشكّل مصدر حركة، أو أن تساند حركة معينة، أو أن يكون لها دور على الصعد الفكرية والفنية والإجتماعية. ودورها الآن أقلّ مما كانت عليه أيضًا. أولاً ميزانية وزارة الثقافة ليست عظيمة، وهذه الميزانية موزّعة على أجور الموظفين وعددهم أكثر بكثير من اللازم مثل كل الوزارات، ثم تتوزّع على فنانين وأندية ثقافية، لا يوجد خطة والمبالغ صغيرة لأنها تتوزّع على عدد كبير من المؤسسات الثقافية الصغيرة التي لا تشتغل فعليًا، وتكون تابعة لطائفة معينة ولزعيم معين. من الأساس فكرة "وزارة ثقافة" هي خطأ، ليس لها دور ثقافي حتى لو أنه توجد نية أن يكون لها دور. يجب أن يكون لها دور كوزارة للشؤون الثقافية، أن يكون لها دور بمساعدة الثقافة بامكانياتها، بمتطلباتها التقنية والإدارية. مثلًا بالنسبة للمسرح، على الأقل أن تكوّن هذه الوزارة أرشيفا مكتبيا للمسرح والمسرحيات في لبنان، هذا من المفروض أن يكون وظيفة أساسية في الوزارة. ثانيًا أن توفّر للفنانين بشكل عام وللمسرحيين بشكل خاص إمكانيات العمل، ليس مطلوبًا منها أن تعطي الفنانين أموالًا، المطلوب أن تمنحهم إمكانيات وأماكن شغل، أي آليات العمل وإمكانية تجوّل في لبنان وإمكانية السفر. وثالثًا أن تهتم اهتماما حقيقيا بتعليم المسرح بالمدارس وبالجامعة، ففي الجامعة حاليًا لم يعد هناك من اهتمام حقيقي بتعليم المسرح. التربية على المسرح بحاجة إلى مؤسسات تدريبية وهذا غائب عن وزارة الثقافة.
(*) يقوم المسرح على التفاعل الحيّ والمباشر مع الجمهور، كيف ترى تجربة المسرح عبر الأونلاين في ظلّ جائحة كورونا؟
- هي ردّ فعل على الظروف الصعبة حيث من الصعب تقديم مسرح حي أمام الجمهور، ليس المسرح وحده، الحياة كلها، مدارس ومؤتمرات وندوات.. كلها عبر الأونلاين. وهي ليست بالعمل الأساسي، إنها مثل شخص مريض لا يستطيع أن يأكل فيأخذ دواءً. إنها نوع من تبرير لوجود المسرح، كي يظلّ موجودًا، وكي يستمرّ نوع من الحركة بين الفنانين ونوع من العلاقة مع الجمهور. لكن على المدى الطويل، وإذا بقي الوضع هكذا سيكون المسرح الحقيقي مقلًا وضعيفًا. ويمكن أن يكون ذلك سببًا لاختراع جديد أو لغة جديدة من الثقافة. المسرح الذي أعرف أن أشتغله والذي كرّست حياتي له من غير الممكن أن يتطوّر عبر الأونلاين، لأن المسرح أساسه التفاعل والعلاقة المباشرة مع الجمهور ليس فقط بصالة المسرح بل خارج المسرح أيضًا.
(*) أزمة كورونا والواقع الإقتصادي الحالي في لبنان لا يشجّعان على العمل المسرحي، لكن هل لديك مشاريع للمرحلة القادمة؟
- في هذه الأجواء لن أعرف أن أشتغل مسرحا، لكن لديّ مشروع كبير أحاول أن أؤكّد على أهميته، هو مشروع توثيق الأعمال المسرحية والتجربة اللبنانية. هناك مسرحيات عظيمة تذهب بفقدان الذاكرة، يجب العمل على أرشفتها والحفاظ عليها. إذا ردّدت أمام الشباب الجدد على المسرح أسماء مثل يعقوب الشدراوي وريمون جبارة وأسامة العارف وعصام محفوظ سيجيبون أنهم لا يعرفونهم ولم يسمعوا بهم.
(*) عندما قدّمت آخر مسرحياتك "حرب طروادة" منذ ثلاث سنوات، ثمة من قال إننا نستعيد قصصًا تاريخية وبتنا نعاني من أزمة نص مسرحي؟ هل توافق على ذلك؟
- هذه ليست المرة الأولى التي نتعاطى فيها مع نصوص أدبية، "بانتظار غودو"، المغنية الصلعاء" وغيرهما من الأعمال. اشتغلنا على نصوص انطلاقًا من وضعنا الذي نعيشه؛ "حرب طراودة" مسرحية واضحة جدًا، إنها تحكي حكاية الاحتلال، وهي تجربة شرعية، النص جديد وليس اقتباسًا والتركيب جديد، وأنا أؤكد أن أحدًا من المسرحيين الكبار ومنهم شكسبير لم يخترع أي مسرحية، كل الأعمال تم اقتباسها هي من أعمال روائية أو مسرحية سابقة.
![]() |
فلسطين ليست قصة أرض محتلة وشعب مشرّد أمام دولة إجرامية، المسألة إنسانية أساسية، أين العدل وأين الحقيقة؟ على الانسان أن ينطلق من هذه القيم الأساسية وإلا سينطفئ وجوده في هذا العالم. القيم الحقيقية تعمّر أكثر من الإنسان، والذي يختار أن ينسى فلسطين يكون قد باع روحه |
![]() |
(*) "المسرح ما بيطعمي خبز"، سمعناها منك في السابق، ألا يشكّل ذلك إحباطًا لطلاب المسرح والمتخرّجين من معهد الفنون الجميلة؟
- ربما نعم، المسرح بكل تاريخه لم يكن مصدر ربح إلا نادرًا. إذا نظرنا إلى دول العالم لن نرى مسرحيين أنتجوا مالًا من المسرح، كانوا ينتجون من السينما ومن التلفزيون، وفي نفس الوقت يشتغلون مسرحا. في لبنان الأمر نفسه، كل الذين اشتغلوا مسرحا في لبنان باستثناء بعض الأفراد، كانوا يشتغلون في التلفزيون أو الدوبلاج أو التعليم أو أي وظيفة ثانية لتأمين معيشتهم ومردود مالي كافٍ.
(*) اشتغلت في المسرح ممثلًا ومخرجًا، وكنت في الوقت نفسه أستاذًا أكاديميًا، لماذا لم تذهب صوب التلفزيون حيث المورد المالي الأكبر، ولديك الخبرة والموهبة والكاريزما؟
- أحب التعليم، التعليم بالنسبة لي له أهمية بقدر أهمية العمل المسرحي. أريد أن أعترف أنني حاولت أن أقدّم مشاريع للتلفزيون ولكني لم أتفق معهم على طريقة العمل. كنت أريد إمكانيات تؤمّن مستوى عميقا للعمل وللممثلين وللنص، ولم يكن هناك من تجاوب.
(*) من محترف بيروت للمسرح إلى مسرح الحكواتي إلى جمعية شمس وعملك مع شوشو وجلال خوري ومارسيل خليفة وزياد الرحباني وأسماء عديدة كنت معها إما ممثلًا وإما مخرجًا، ما هي الإضافات التي منحتك إياها، هل تسمّي لي أحدًا أعطاك ما يبقى في ذاكرتك دائمًا؟
- كلهم أعطوني، حتى الأشخاص الذين ليس لهم اسم معروف أعطوني. كل علاقة مع الذين اشتغلوا معي كانت علاقة غنية استفدت منها. عندما توفي جلال خوري قلت إنني تعلمتُ منه من دون أن يعرف. هذه هي الحقيقة، عندما أتكلم مع الناس أستفيد منهم وأحاول أن أفيدهم. استفدت من الجميع، من ريمون جبارة ورفيق علي أحمد، ومن أشخاص عديدين منسيين الآن.
حراك تشرين شكّل الفارق في تاريخنا
(*) بعد حراك 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019 عملت مع عدد من المثقفين على تأسيس رابطة للأدباء والكتّاب، هل اختلفت أدوار المثقفين والموجودين في الأدب والفن والمسرح بين الماضي والحاضر تجاه السلطة والمجتمع، هل لا يزال بالإمكان فعل شيء وسط هذا الخراب المجتمعي والنفسي في لبنان؟
- 17 تشرين شكّل الفارق في تاريخنا. بسبب 17 تشرين هناك جيل جديد ينمو وهم مسؤولون عن مستقبل الثقافة والمسرح والفنون في لبنان. لا يمكنني أن آخذ مكانهم، فهم يشكّلون الدور الأساسي. المثقف الذي لا يرتبط بهذا الحراك هو متعاطف معه، وأعتقد أن قسمًا كبيرًا من المثقفين يتعاطفون مع الثورة، لكن يجب أن نعيش معهم لنتفاعل معهم، لكنهم يكوّنون العامل الأساسي بتكوين ثقافة المستقبل، ويجب لهذا المستقبل أن يكون له علاقة مع الماضي، ودورنا أن نؤمّن لهم أن يستفيدوا من أسماء التجارب السابقة.
(*) وسط التحوّلات العديدة التي مررت بها، ما هي المحطات الأساسية التي يمكن أن تخبرنا عنها؟
- حياتي كلها تحوّلات، لكن أبرز محطة في حياتي هي فترة العامين 1967 و1968. هذان العامان لعبا دورًا أساسيًا ومنعطفًا أساسيًا في حياتي. حدثت نكبة حزيران/ يونيو 1967 وكانت بداية المقاومة الفلسطينية التي غيّرت كل المعطيات حولنا. صرت انسانًا آخر بعد عام 1968.
الذي يختار أن ينسى فلسطين
يكون قد باع روحه
(*) في أحد حواراتك تقول: "فلسطين هي النقطة الأساسية التي يمكن لكل العالم ولكل البشرية أن تمتحن الحقيقة عبرها، حقيقتها"، ماذا تقول عن موجة التطبيع حاليًا مع الكيان الإسرائيلي؟
- هؤلاء يريدون أن يخرجوا من التاريخ ويأملون بمستقبل مبني على السلام والنمو الاقتصادي لكنهم فقط يبيعون أرواحهم. عندما أحكي عن فلسطين لا أقصد الفلسطينيين، الفارق كبير، القضية الفلسطينية هي قضية تحتّم موقفنا من التاريخ والحياة والمستقبل. فلسطين ليست قصة أرض محتلة وشعب مشرّد أمام دولة إجرامية، المسألة إنسانية أساسية، أين العدل وأين الحقيقة؟ على الانسان أن ينطلق من هذه القيم الأساسية وإلا سينطفئ وجوده في هذا العالم. القيم الحقيقية تعمّر أكثر من الإنسان، والذي يختار أن ينسى فلسطين يكون قد باع روحه.
(*) ثمة أصوات في لبنان ترى أنه من مصلحة لبنان الدخول في التطبيع، ما رأيك؟
- أي لبنان؟ لبنان المافيا؟ لبنان أولئك الذين لديهم المليارات؟ نعم هؤلاء يريدون التطبيع أما لبنان الشعب، لبنان التاريخ، لبنان الذاكرة، لبنان المرتبط بجذوره بفلسطين ومرتبط بمصلحة إنسانية فينكر وجود شيء اسمه إسرائيل. وهذا الأمر ليس له علاقة باليهود أو المسيحيين أو المسلمين، إنها تشملهم كلهم، إنها قضية فيها ظلم لهذه الدرجة. أكبر عملية ظلم في التاريخ الحديث إلى جانب القصص الأخرى التي تخصّ الأرمن والتي تخصّ اليهود والتي تخصّ شعوب أفريقيا فيها ظلم، لكن أطول قضية بمدتها الزمنية وأعمق بنتائجها على الأرض وعلى الناس هي قضية إسرائيل، إن كنت عربيًا أم لم تكن سيكون لديك نفس الأهمية لهذه القضية. إضافة لمستوى القضية على المستوى الإنساني فأنا عربي، وأعرف أن الوحدة العربية تعيش من علاقتها بفلسطين، والوحدة العربية صارت ممزّقة وتنهار بسبب ما يحدث بالقضية الفلسطينية. هي القضية الوحيدة التي يمكن أن تعطي قوة لفكرة الوحدة العربية. بالرغم من الحكومات الفاسدة، كانت الشعوب العربية موحّدة وقوية فكريًا ومعنويًا بعلاقتها مع القضية الفلسطينية. حتى دعم لبنان أثناء الحروب مع إسرائيل، الدعم العربي للبنان، كان مرتبطًا بالحس العربي العميق مع القضية الفلسطينية. لا أريد أن أدّعي أني ألعب هذا الدور لكني أعتقد أن الذين يستندون على التطبيع مع اسرائيل ليربحوا سيخسرون.
(*) كنتَ من المقاومين الأوائل منذ ستينيات القرن الماضي مع الفدائيين الفلسطينيين ثم جسّدت المقاومة نفسها في أعمالك من "بوابة فاطمة" إلى "أيام الخيام" وغيرها من الأعمال التي دعمت المقاومة عبرها، في وسط الحديث لبنانيًا عن الرغبة في الحياد وأن الشعب اللبناني تعب من المقاومة، كيف تنظر إلى الأمور اليوم؟
- حاليًا لا أشتغل مسرحا أدعم فيه ضمنيًا المقاومة، لكني لا ألقي محاضرة ولا أكتب مقالًا إلا وأذكر فيه اسم فلسطين، أو أقوم بالتذكير بالقضية الفلسطينية، فالعلاقة معها ليست سياسية، إنها أعمق وأهم بكتير. تعب لبنان أولًا بسبب هؤلاء الذين يقولون إن لبنان تعب من المقاومة، وثانيًا بسبب فشل القوى الإسلامية وحزب اللـه في علاقتهم مع الناس. في عام 2000 إثر التحرير تحدّثت أن هناك ما يخيفني، حزب اللـه سيجيّر المقاومة إلى حركة طائفية. سنة 2000 كان 80% من اللبنانيين والقسم الأكبر من الشعوب العربية مع المقاومة في لبنان، كان هناك تأييد كبير عربيًا وعالميًا. وتكرّر ذلك سنة 2006، ماذا فعل حزب اللـه بكل هذا التأييد والدعم، لم يعرفوا كيف يتعاملون معه. تجاهلت خطتهم هذا الكنز. ذات مرة تجرّأت وقلت في إحدى الندوات الإسلامية أن الحسين لم يشتغل بهذه الطريقة، لم يكوّن حزبًا ولم يقم بحملة سياسية ومفاوضات، ما فعله هو أنه جسّد القيم بالحق، كان بامكانه أن يؤسّس لجيش ويوحّد المسلمين ثم يخوض حربًا بعد ذلك، لكنه اختار الطريق الذي خسر فيه سياسيًا وربح معنويًا. جعل الروح تعيش والجسد يموت.