}

بريد السماء الافتراضي.. حوار مع الشاعرة الأميركية مايا أنجيلو

أسعد الجبوري أسعد الجبوري 31 مارس 2020
حوارات بريد السماء الافتراضي.. حوار مع الشاعرة الأميركية مايا أنجيلو
أنجيلو تقرأ الشعر لطلاب جامعة تافتس في مسرح سومرفيل(28/4/1997/Getty)
كانت تحمل في يدها كتاباً عن علم الغابات، وإلى جانبها يمشي حيوانٌ ضخمٌ يشبه الفيل بعض الشيء، فيما غطت أذنيها بسماعتين كبيرتين تتدفقان بالموسيقى التي وصلتنا أصداؤها من بعد أمتار غير قليلة.
وما إن توقفت الشاعرةُ الأميركية، مايا أنجيلو، بعد اعتراضنا لطريقها في ذلك المنحدر المزدان بالأشجار والنباتات والمصاطب الخشبية المنتشرة على طول ذلك الشارع، حتى سألناها عن رغبتنا بإجراء حوار. ضَمّت حَاجِبَيْهِا، وَمَا بَيْنَ عَيْنَيْها، بقَطبة عَابَسة غطت وجهها قائلة: ليس في نفسي رغبة للحوار مع أحد. فأنا على موعد مع الغابة، لأتعلم لغة بعض الأشجار هناك. ثم أضافت مستطردةً: لقد تكلمت في حياتي الأرضية عن جميع الموضوعات، ولم يبق عندي ما هو مهم. آنذاك طرحنا عليها سؤالاً بشكل عرضي:

 

 

(*) يبدو أن بناءك في الحياة كان معقداً؟!
كان ذلك صحيحاً. فقد وُجدتُ في رحمٍ معقدٍ، لم أرَ فيه استقراراً منذ أن قُذِفتُ فيه نقطةً سوداء، بل وشعرتُ أنني مشردّةٌ في بطن أمي هناك.

(*) وسرعان ما رُميت وأنتِ في الثالثة في حضن الجدة، آن هندرسون، في ستامبس، في  ولاية أركنساس، بعد طلاق الأبوين؟
أجل. لقد بدأت المشقة التراجيدية في سنّ مبكرة.

(*) كان اسمك مارجريت آن جونسون، فكيف تحول إلى مايا أنجيلو؟
لا أعرف لمَ فعل ذلك أخي (بيلي)، عندما أطلق عليّ ذلك الاسم المستعار؟ ربما للحظ الذي كان ينتظرني بعد تلك الطفولة المُخَلخَلة.

(*) هل حدث ذلك بعد اغتصابكِ من قبل (فريمان)، خليل أمك، وأنت في الثامنة من العمر؟
حدث ذلك، ودخل فريمان السجن، ثم قُتل بعد إطلاق سراحه. إما أنا، فأصبت بالخرس طيلة

أكثر من أربع سنوات من جريمة الاغتصاب التي تعرضت لها من أحد أعمامي في تلك العائلة الفاسدة.

(*) لقد تحدثت (مارسيا آن جيليسبي عن تلك الفترة من الخرس، قائلةً: (إن أنجيلو تمكنت خلال فترة الخرس هذه من تطوير وتقوية ذاكرتها الخارقة، وشغفها بالكتب والأدب، وقدرتها على الاستماع وإدراك العالم من حولها).
لا أعرف كيف استطعت ادخار صوتي في خزائن بنك باطني، فعملتُ على تحويل الصمت إلى قطع من الكلمات المصفوفة بعضها فوق بعض، حتى وقت انفجار الأصوات في مجرى الشعر والمدن وكتب الرموز الأدبية ومؤلفات الكتّاب العِظام والرقص والدراما وموسيقى الحناجر السوداء.

طابع يحمل صورة مايا أنجيلو مع شعر لها في مسرح وارنر في واشنطن العاصمة (7/4/2015/Getty)

(*) في كتاب سيرتك الذاتية الموسوم بعنوان "اجتمعا معًا في اسمي"، تناولت أحداث تاريخكِ الشخصي، مروراً من وظيفة قاطعة تذاكر الترام، إلى انضمامك لمهنّ كثيرة، كمديرة أعمال في منظمات للبغايا، وطاهية، ومصممة رقصات مع زوجك عامل الكهرباء (أنجيلوس)؟
كانت حياتي ممتلئة بالفقر والريبة والطموحات والاضطهاد والجنس والأحلام التي تحاول تنظيف أميركا من العنصرية المضادّة للسود، بدعم ومساندة رموز من نقابة كتّاب هارلم، من أمثال جون هنريك كلارك، وروزا غاي، وبول مارشال، وجوليان مايفيلد، وآخرين من زعماء السود، كمارتن لوثر كينغ، وفرقة جان جينيه (ذا بلاك)، في ذلك النشاط الموالي للكاسترو، والمناهض للفصل العنصري.

(*) أنت عشت ردحاً من الزمن في مصر. أليس كذلك؟
نعم. عشت في القاهرة بعد تعييني بمنصب صحفي في جريدة (أرب أوبزرفر) عام 1961. ولكنني عدت إلى الولايات المتحدة الأميركية لأغرق في بحر من الأسى الكبير، بعد اغتيال مارتن لوثر كينغ، وأقرر الانتماء للعزلة.

(*) كأن موت مارتن لوثر كينغ كسرّ قلب أنجيلو؟!
كان موت الرجل يعني بالنسبة للسود موتاً جماعياً. كنا مثل خلايا نحل، ومات اليعسوب الأعظم الذي كان يُلقحنا بتلك الآمال الدفينة، وبتلك الأحلام المتمردة التي لا يمكن لأي أسود من مخلوقاتنا أن يسيطر عليها، من دون تحقيق هدف التخلص من العنصرية، التي جعلت لحومنا من مظاهر الاشمئزاز اليومي في الوجود الأميركي الفَظّ والشنيع.

(*) متى شعرتْ مايا أنجيلو أن أميركا هي رحمُ آلام الشعوب، ومن مصادر الكآبة للعقل العالمي؟
لم أحسّ يوماً بأن أميركا صداعاً نصفياً، بل هي كل تلك الأمراض التي عادةً ما تجتمع في الرأس، لتدمير مكاتبه ومبانيه، وجعل أفكاره من الرهائن في أقفاصها الحديدة. ذلك ليس ذنب أميركا، بقدر ما هو ذنب الذين يؤمنون بميزان العدالة الذي تضعه وشماً على جبينها!

(*) هل من أجل تلك الصورة القبيحة، أميركا، قمت بكتابة بعض سيناريوهات بعض الأفلام الوثائقية التي أُنتجت لصالح السود روايات وأغانٍ وموسيقى ومسرحيات؟
لقد عملتُ بطاقة الشغف للخلاص من إرث الماضي الذي وضع الزنجي في القفص، بينما كان

يُطلق الذئاب في المدن، وفي البراري.

(*) ألا تعتبر أنجيلو بأن أميركا ما كانت لتفتح للسود نافذة للحرية لو لم تستدعِ شاعرة من مقامك لتلقي قصيدةً في حفل تنصيب رئيس الولايات بيل كلينتون عام 1993؟
ذلك تحوّل لم يكن ليتم لولا استمرارنا بعدم التفريط بالميتالوجيا السوداء التي حافظت على التناغم بين مختلف معادنها على الأرض.

(*) لم يفهم بعض المتابعين لمغزى تلك الجملة التي ألقيت بها بعد فوز الرئيس باراك أوباما في الانتخابات الرئاسية عندما صرحت قائلة: "نحن من ترعرعوا في ظل العنصرية والنزعة الجنسية"؟
مثلما تنجب الدعارة البيضاء رؤساءً، فقد أنجبنا نحن من دعارتنا السوداء رئيساً، ربما لا يتكررُ حضوره في مستقبل ولايات يتحكم بها الجنسُ والمالُ والمافيا.

(*) ماذا فعل الشِعرُ بمايا أنجيلو حقيقةً؟
يمكنكَ الاستفسار من الغير، للوصول إلى غايتك. فأنا صاحبةُ طقوس ليس إلا.

                            تمثال نصفي لمايا أنجيلو للفنان ميشيل رايلي في واشنطن العاصمة (23/7/2018/ فرانس برس)

(*) ثمة من يقول بأنكِ، وبدءًا من كتابك الشعري "أنا أعرف لماذا يغرد الطائر الحبيس"، بأنك استخدمت طقوساً خاصةً بكِ في الكتابية. يضيف المصدر عنك قائلاً: "لسنوات طويلة. تستيقظين في الصباح الباكر، وتذهبين إلى إحدى غرف الفنادق، وتطلبين من العاملين إزالة أي صورة على جدران الغرفة، ثم تكتبين على وسادة يسمح لها باستخدامها، وأنتِ مستلقية على سرير، وفى يدكِ زجاجة من الخمر، ومعكِ أوراق اللعب، وقاموس المفردات، والكتاب المقدس". بمعنى أنك تجعلين الغرفةَ ورشة للكتابة، ثم تغادرينها إلى فضاءات أخرى. ما الأسرار التي وراء تلك الطقوس؟
لم تكن تلك الطقوس بعيدةً عن لحظة الاغتصاب التي تعرضت لها. فتلك الدقائق ما تزال تتمدد وتتجدد، لتجعل من الجسد مقبرةً لا تفكر إلا بالموتى.

(*) أي عالمٍ من الكلمات يتشكلُ في نصّ مايا أنجيلو؟
من لحمي، وفائض الموسيقى التي تستغرق كلَّ حياتي.

(*) هل تؤمنين بأن ثمة كلمات من لحم ودم، وأخرى من ورق، على سبيل المثال؟
بالطبع. هذا مؤكد بالنسبة لي، لأنني أعايش نمو الكلمات في جسدي بشكل أفقي يومياً. وأحياناً، أجد نفسي مضطرةً لإجراء بعض التمارين الراقصة، مع بعض الجمل الشعرية، لتكون مَرِنة اللغة، وأكثر تأثيراً في الآخرين.

(*) إلى أي حد تبحثُ مايا أنجيلو عن الصدى في الآخرين؟
كثيراً. فأنا قاومتُ عزلتي وأمراضي ومتاعبي بالالتحام بالمجموعات البشرية.

(*) هل تقصدين المجموعات المتألمة؟
هؤلاء هم على رأس القائمة، ولكنني لم أفكر في التفرقة على أساس عنصري. فالشعر الذي يقوم على الفصل ما بين الأسود والأبيض يعيش أطول زمناً في صندوق القمة.

(*) حاولتِ نقلَ حطامك إلى النصّ. هل كان ذلك عملاً شاقاً؟
ليس من السهل أن تجمع بعضاً من ألمك في جملة شعرية. فالقصيدة ليست بنطلوناً، والآلام ليست كومة قش من الكلمات يمكنُ القيام بحشوها في ذلك السروال، لتكتمل صورة الوجع. كان أول ما يقلقني أن يكون وجعي فردياً.

(*) هل كان وجعاً مستخلصاً، أو مصنوعاً من الجلود السوداء؟
بل كان الأمر أبعد من ذلك كليّاً.

(*) كيف؟
لم أكتب شعراً كمالِكة للغة سوداء مقهورة ومحطمة، بل كنتُ أستعيرُ للآخر مظلةً، لأمطر فوقه

خلاصةَ روحي من دون أن أؤذيه.

(*) هل ركبتِ أوتُوبيس الرومانسية الأميركية؟
نعم. ركبتُ ذلك الأوتوبيس الجهنمي باهظ الثمن، وقطعتُ الجسورَ الموصولة ما بين تاريخ قلبي وشتات هارلم.

(*) هل كان كتابك الشعري "أعرف لماذا يغرد الطائر الحبيس" ثمرة تلك الرومانسية السوداء؟
لا. فذلك الكتاب الشعري يتجاوز بقية أعمالي في المسرح والسينما والخطابة والتلفزيون، لأنه عمل تشريحي جاء في كتاب لفضح جرائم الفصل العنصري في الولايات المتحدة. بعبارة أدق، كان كتاباً صوتياً لحرائق دماء السود. وربما هو أعظم شأنٍ من ديوان (أعطني كوب ماء بارد قبل أن أموت).

مايا أنجيلو خلال حوار معها في منزلها (8/4/1978/Getty)

(*) صنفت الباحثة سندرا أنيل شعركِ بأنه يقع (ضمن التقاليد الشفهية الأفروأميركية، في حين أن نثركِ يتبع الأسلوب الكلاسيكي للنماذج الغربية غير الشعرية)، مؤكدةً (أنه بالرغم من تجنب أنجيلو "للغة السود المتجانسة"، فإنكِ حققت من خلال الحوار  المباشر ما تطلق عليه تعبير "الغيتو"، على نحو أكثر من المتوقع). ما رأيك بكتابة سندرا أنيل؟
كل ما كتبت عنه الباحثة أنيل هو في جزء منه يتعلق بعلم البنيانات الذي سبق أن تحدث عنه كلود ليفي شتراوس، والخاص بما يؤلف التاريخ الطبيعي للإنسان، وأساليب البنيانية اللغوية التي تدرج في ذلك السياق.

(*) هل تظنين بأن الشعرَ سائلٌ، أو غازٌ، يتسربُ من جسدكِ إلى الأمكنة التي يختارها بنفسه؟
بالتأكيد. فذلك ما يحدث.

(*) كيف تتخيّلين ذلك؟ وبأية صور تكون تلك التسريبات؟
عندما نكتب قصيدةً للتعبير عن حدث ما، فقد تسبقنا القصيدة إلى مكان الحدث، لترتمي في أتونهِ بكل ثقلها. حياتنا في خلاصتها العامة، شبيه بأسطوانة، تتمتع بتسرب الغاز منها، ليكمل دورة الاشتعال الضوئي في الوجود، ومن ثم يخمد إلى الأبد، متنقلاً إلى عالم آخر.

(*) هل تؤمن مايا أنجيلو بعقوبات ما بعد الموت؟
ليس لأنني لبستُ تنورةً قصيرة وكنتُ بائعةً للهوى بالتأكيد.

 

(*) ولكنكِ قدمتِ دعماً لأصحاب الدعارة والقوادةَ على أرض أميركا، مثلما مارست الرقص وكتابة الشعر والصحافة والكتابة للسينما. أليس كذلك؟
نعم. لقد جرى كل ذلك. كنتُ جسداً تتلقفهُ النيرانُ من مكان إلى أخر من دون استراحة. وكانت الدموع تساقط حامضة كالأسيد لحرق معالمي الباطنية.

(*) ولكن نظرتك إلى البيض تغيرت. تزوجت رجلاً أبيض، وعشت في الأحياء التي يقيمون فيها. أليس كذلك؟
كل ذلك حدث، وبقيتُ محمومةً بالإرث الأفريقي. عجزت عن تصديق البيض بمجاراتهم لأحلامنا في الحرية والخبز وحبوب منع الحمل.

(*) هل ربطتكِ تجاربك الجنسية بمملكة الحيوان؟
لا. لم أفكر على ذلك النحو السيئ. فقد كنتُ بالضدّ من ممارسة الجنس مع العابرين. فضلّتُ أن يكون جسدي متحفاً شعرياً تتنوع فيه مصادر الثراء.

(*) ما وجه الشبه ما بين بائعة الهوى، وبائعة الحليب، في أميركا؟
كلّ منهنّ تعملُ بطاقة الأبيض المتجدد.

(*) ربما لا توافقك على ذلك المغنية "حافية القدمين" سيزاريا إيفورا.
ليس مهماً الاعتماد على رأيها. كنت معها في الأمس على الشاطئ، وأخبرتني بأنها تعمل على

التحضير لألبوم غنائي جديد بمواصفات سماوية.

(*) هل حاولت نبش بعض الذكريات؟
أبداً. فهي تعتبرُ الذكرياتَ مدافن، لا يفضلُ فتحها مرة أخرى.

 

(*) ألا تشاركينها الغناءَ في يوم قادم؟
نحن على أبواب الفردوس الربّاني. وكلُّ منا له نيةٌ بتحويل صوته إلى ديانة، لا يستقر مؤمنٌ على التشبث بها للأبد.

(*) ألا تريدين مُكافأةً، أو تعويضاً من أحد، على صناعتك، من السود مثلاً؟
أبداً. لم نكن عاراً في يوم من الأيام. ومن ألحق بنا سوءاً ستركبهُ الخطايا، ويبتلعهُ نهرُ الرماد الموجود على بعد أميال من هنا.

(*) هل تريدينّ جنةً على نمطٍ السوبر ماركت؟
تماماً. فكلّ شخصٍ يبتاعُ البضاعة التي يختارها بنفسه.

(*) حتى لو كانت للأغراض الدعائية، لأن (كل أبناء الرب بحاجة إلى أحذية سفر)؟
كان كتاب (كل أبناء الرب بحاجة إلى أحذية سفر) تتويجاً لملايين من أقدام السود الأفارقة في بحثهم الدائم عن المخارج التي تمنح التائهين المعذبين الآمال بالوصول إلى علاج لشتاتهم على الأرض المعفرة بالبغض والفقر والدم.

(*) وهل يحتاج المرء إلى حذاء للمشي على تراب باطنه؟
أجل. على الأقل يحسُّ بالتحسن من وراء فكرة الفصل ما بين لحم القدم وبين حجارة الطريق.

(*) قال عنكِ الكاتب غاري يونغ (يبدو أن حياة مايا أنجيلو تتمثل بالفعل في أعمالها على نحو يميزها عن أي كاتب آخر).
ذاك كان حقيقياً. فأنا لم أكتب عملاً إلا بعد أن أزرع نفسي في تربته.

(*) ولماذا هذا التسلط على الذات. هل لأنك تشعرين بأن ذاتك هي ذات العالم؟!
الذي يريد أن يكتب عن الأفارقة والسود، عموماً، لا يشرب البيرة.

(*) وماذا ترين أنه يجب أن يشرب يا سيدة مايا؟
البوربون مع الأصابع التي تقوم بتَدْوينِ الوقائع والآلام.

(*) وينتهي الصداع النصفي عند زنوج الله في رأيكِ!!
أن تنتهي آلام السود، ولا ترى بالميكروسكوب، فذلك يحتاج إلى خلق أرض جديدة، وإلى محاكمة نزول آدم علينا من تلك السموات.

(*) ألا يمكنك فعل ذلك بنفسك؟
فعل ماذا؟

(*) محاكمة الأب الأول، والاستفسار منه على الجينات السود المُسببة للفصل العنصري ما بين الأسود والأبيض مثلاً.
حاولت بكل جهد، ولم أصل إلى ذروة تلك المحاكمة إلا بنسب قليلة.

(*) هل حدث ذلك بسبب صنعة التأليف التي كنت تضطلعين بها، وهي غريبة الطقوس إلى حد ما. غرفة في فندق، وزجاجة خمر في اليد، وقواميس، وكتب لاهوت؟
عندما كتبت "أنا أعرف لماذا يغرد الطائر الحبيس" استخدمت تلك الطقوس لسببين: أولهما

التمكن من الولوج إلى كهف الذكريات. وثانيهما للتخفيف من العذابات القديمة التي يزدحم جسدي بها.

(*) يعتبرُ بعض النقاد أن شعرك شعبي، وأقرب إلى الحكي منه إلى البناء اللغوي الثقيل الذي يتميز به الشعر عند شعراء أميركا. وأكد الباحث، جوان براكستون، أنجمهور أنجيلو تألف إلى حد كبير من النساء ومن السود، ولم يتأثر فعليًا بما ذكره البيض، أو النقاد، من التقاليد الأدبية السائدة، فهذا الجمهور لا يقرأ للنقاد الأدبيين، ولكنه يقرأ لمايا أنجيلو" وقد تصدى بور لنقاد أنجيلو من خلال إدانتهم بعدم أخذ أهداف أنجيلو الأبعد من كتاباتها في عين الاعتبار "أن تكون ممثلًا لجماعة بدلًا من فرد، جماعة عامة وليست طائفية". ما مدى صحة ذلك في رأيك؟
الأهم أن يكون كالسلك الكهربائي موصولاً بالناس، ويضيء.

(*) أليس من المبالغ فيه أن نمنح الشعر كلّ تلك القدرات على إثارة الأنفس، وتجديد، أو إحياء، الأرواح الخافتة، فيما عجزت الكتب السماوية عن إنجاز، ولو نسبة ضئيلة من الخلاص للبشر؟!
الشعر عند البشر له إيقاع خاص أكثر من النص الديني.

(*) وبماذا تفسرين ذلك؟
الإنجيلُ، مثلاً، بات كتاباً مملاً بنصوصه المكررة، على الرغم من تجديده بين الفينة والأخرى. حتى أن الكتب الدينية بطل مفعول وجودها كمستحضرات طبية نفسية حتى.

(*) هل يتعلق هذا الأمر بطغيان الإلحاد على حساب الإيمان الكنسي في رأي مايا أنجيلو؟
لا أعتقد ذلك. فالكنيسة، أو المسجد، أو الكنيس، لم تصل بعد إلى مرحلة أن تكون ديوان شعر روحي بالمعنى الرومانسي المتشابك بالصنعة الصوفية لدى الناس.

(*) هل يعني كلامك هذا أن طاقة إنتاج الشعر في الآخرين أقوى من طاقة إنتاج الديانات في الشعوب؟
بالضبط. فالأديان تقدم الرعب، ومختلف العقوبات للإنسان، في حال تخليه عن الإيمان بالمعتقد الخاص بالتوحيد. فيما الشعر ضخٌ للحبّ في المحبوب، ورفع الغبار عن الأرواح من أجل السباحة في فضاءات النشوة، وكل ما يفجر في الصحارى الينابيع.

(*) ثمة سؤال ما زال يحيرني، وهو متعلق بما قالته عنك الناقدة إلسي برنيس واشنطن (على أن أنجيلو شاعرة أميركا الرسمية السوداء)!! السؤال الملح هو: لماذا لم تقل عنكِ (شاعرة أميركا) بدلاً من تلك التجزئة؟
لا أعرف. ولكن ربما لأنها حفظت عن ظهر قلب تلك الجملة البيضاء، فقالتها بنشوة الكوكايين الأبيض!

(*) أين يقفُ الشعرُ منك في هذه اللحظة من حياة ما بعد الموت؟
أما أنا فلم أمت، ما زلتُ مستمرةً في التكوين. لم يتحول لحمي إلى رماد، ولا أحلامي التي ما زلتُ غارقةً فيها، وكأنها طوفان نوح.

(*) هل وجدت عملاً في السماء؟
أصبحت مشرفةً على مَنْجَم لتَعدّين الأصوات. هذا يعني بأنني سأعمل على تدريب ملائكتي على موسيقى الكاليبسو، ومن ثم نقيم احتفالاً موسيقياً على مسرح الطوارئ.

(*) ومن سيكون في رفقتكِ إلى هناك؟
ليس غير المطرب العراقي يوسف عمر، إنه فنان المقامات الأقدر على جعل الصوت من طواحين البكاء.

(*) هل يمكن أن يصبح الصوتُ ديكوراً للوجع في رأي مايا أنجيلو؟
نعم. ولكن ذلك لا يحدث إلا في حال تَدهور العاشق من القمة إلى هاوية العالم السفلي. فآنذاك يتفكك الصوت إلى خلايا من نار، لتكتب نصوصها على خطوط الهواء بحبر الأنين.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.