}

جان دوست: أنا قويّ بهوياتي المكتسبة الكثيرة

أوس يعقوب 17 أبريل 2020
حوارات جان دوست: أنا قويّ بهوياتي المكتسبة الكثيرة
الروائي السوري الكردي جان دوست (روداو)

يأخذنا الروائي السوري الكردي، جان دوست، المقيم في ألمانيا، في هذا الحوار، إلى عوالمه الإبداعية في الكتابة، باللغتين: الكردية، والعربية، والترجمة والبحث والتحقيق، والتي كان آخر ثمارها في حقل البحث والتحقيق قاموس "الهدية الحميديّة في اللغة الكرديّة"، الذي وضَعَه بالعربية، في نهايات القرن التاسع عشر، العلامة المقدسي يوسف ضياء الدين باشا الخالدي. كما يتطرّق الحوار إلى جديده الروائي، الذي يعكف على كتابته حالياً، وإلى روايته الحادية عشرة الموسومة بـ "مخطوط بطرسبورغ"، التي ستصدر في نيسان/ أبريل الحالي، عن "دار مسكلياني" في تونس.
هنا نصّ الحوار:


 

(*) ما موضوع الرواية التي تعكف على كتابتها الآن؟ وهل كان في ذهنك مخطّط عام لها قبل الشروع في كتابة هذا النصّ؟
هي رواية تغرد خارج سرب رواياتي السابقة. أردت خوض مجال الرواية التجريبية. هي على كلّ حال رواية قصيرة، موضوعها الاستحواذ، أو غسيل الدماغ.


(*) بأيّ معنى تريد أن تكون روايتك هذه مغايرة لما كتبت سابقاً، وأن تخوض فيها "مغامرة التجريب"؟
بكلّ المعاني؛ لغة وموضوعاً وشخصيات وبيئة روائية. ربّما يشكل ما سأكتبه صدمة لقرائي الذين اعتادوا على لغتي وأجوائي. بطبيعة الحال، لا أريد أن أخيب آمالهم، لكنني في المقابل لا أريد أن أبقى رهينة أطري التقليدية. الرواية ثورة على الأطر. ودائماً ما أردد بأنّ أيّ تعريف للرواية هو إجحاف بحق هذا الفن العظيم. أن تقوم بتعريف الرواية وتحديد قواعد صارمة لها كأن تحاول سكب مياه البحر في كأس صغيرة.

 

(*) تصدر قريباً عن "دار مسكلياني" في تونس روايتك الحادية عشرة الموسومة بـ"مخطوط بطرسبورغ". ما موضوعها؟ وما الذي أملى عليك هذه الحكاية تحديداً؟
كتبت هذه الرواية بعد أن جمعت مواداً هامة عن بطلها ملا محمود بايزيدي. ترجمت في البداية كتابه القيم "رسالة في عادات الأكراد وتقاليدهم" إلى العربية. ثمّ أنجزت دراسات عنه، وعن كتابه وحياته، ونشرتها باللغة الكردية، إلى أن صارت ملامح حياته واضحة في مخيلتي. وليس هو البطل الوحيد في الرواية، إذ تشاركه البطولة شخصية أخرى، هي القنصل الروسي في مدينة أرضروم، أوغست جابا. تجري أحداث الرواية في القرن التاسع عشر، في أماكن متعددة من الإمبراطوريتين العثمانية والروسية.
وهي تحكي قصة لقاء العالم الكردي بايزيدي بالمستشرق والدبلوماسي والأكاديمي الروسي من أصل بولوني، أوغست جابا، وكيف أنّ لقاءهما وتعارفهما أثمر في الحقل المعرفي، ونتجت عنه كتب كثيرة، ومخطوطات هامة، منها "مخطوط بطرسبورغ"، الذي تبحث عنه الرواية.

حكاية السوريين في روايات الحرب..
(*) "باص أخضر" هي آخر أعمالك الروائية الصادرة عن "منشورات المتوسط" في ميلانو. حدثنا عن حكايتها، ومناخات كتابتها، دوافعها، خلفياتها، والتاريخ الذي يكمن وراءها؟
هي من روايات الحرب، إضافة إلى "دمٌ على المئذنة"، و"كوباني"، وأخيراً "ممر آمن". حكاية "باص أخضر" هي حكاية مواطن سوري بسيط يجبر على ترك منزله. إنسان لا يفهم

صفقات الكبار وعمليات بيع المدن وشرائها. رجل عجوز يصر على الموت في بيته في حلب الشرقية، لكنه يجبر على النزوح، فيستقل مثل غيره باصاً أخضر ليتجه إلى المجهول. خلال وجوده في الباص نتعرف على حكايته، وماذا حل بأسرته. هي، في اختصار، حكاية السوريين الذين خسروا كثيراً من دون أن يكونوا طرفاً في الصراع. تلقيت ردود أفعال تقيم العمل بشكل سلبي جداً، لأنّني لم أكن حدّياً في الرواية. بعض القراء توقعوا أن تكون الرواية تنديداً صارخاً بالنظام. أنا لم أفعل هذا الشيء. بل على العكس انتقدت سلوك الفصائل المسلحة التي سيطرت على حلب باسم الثورة. لكنني لم أبرئ ساحة النظام. عرضت مأساة المواطن البسيط من دون تعقيدات ثنائية "نظام ومعارضة".

جان دوست (روداو)


(*) ما مصدر هذه الطاقة الحيويّة التي نلمسها في كتابتك؟ وما هو الشيء الذي يواصل منحك على المستوى الشخصي الشغف لمواصلة الإنتاج؟

إحساسي بأنّ العمر حفنة ماء تنسرب من بين يدي هو الذي يمدني بالطاقة. لا أريد تأجيل أيّ مشروع. عندي هاجس الإنجاز. ألح على الناشرين طبع رواياتي ونشرها. ربّما يستهجنون إلحاحي، لكني لست ذلك الرجل ذا البال الطويل الذي يعيش الحياة بإيقاع السلحفاة. أنا فراشة.

 

(*) هل تعدُّ نفسك كاتباً في المنفى؟ وماذا يعني لك المنفى؟
أنا ولدت منفياً. منفياً عن هويتي أولاً. نفيت في السادسة من عمري عن لغة أمي وأبي، ودخلت المدرسة لأتعلم العربية. ثمّ لما كبرت شعرت بنفسي منفياً عن مجتمعي وأنا بين

ظهرانيه. والآن أنا أعيش المنفى منذ عشرين عاماً. لكنني لا أعد نفسي كاتب منفى. أنا كاتب وحسب. المنفى بالنسبة لي تجربة مثيرة أعطتني فسحة من الحرية والتفرغ. لا أعتبر حياتي في ألمانيا منفى بالمعنى المتعارف عليه. أنا منعزل عن الناس، ولا ألتقي بهم إلا في المهرجانات، وحين تُرسل إليَّ دعوة من جهة ما.

 

(*) إلى أيّ مدى تتفق مع قول جان جينيه: "وراء كلّ كتابة جيدة ثمّة مأساة كبرى"، أنت القائل: "الكتابة عن الحرب ليست خياراً للكاتب السوري، بل هي دائرة طباشير لا يمكن الخروج منها إلا بانشطارات حادة في الروح والجسد"؟
هذا القول إن صحت نسبته إلى جان جينيه فهو مصادرة للحقيقة، وهو تعميم لا أتفق معه. ليست المآسي وحدها صاحبة الفضل في خلق الأعمال العظيمة.
جيل الروائيين السوريين الحالي محكوم بالكتابة عن الحرب. روايات الحرب السورية في هذه الفترة ستعطي صوراً صادقة عما حدث في بلادنا للأجيال القادمة. ثمّ ربّما يكتب القادمون عن الحرب برؤية أوضح. لكن لا غنى لهم بالطبع عما كتبناه نحن الذين اكتوينا بنار الحرب، وعشنا مآلاتها الفجائعية. ليس لدينا خيار آخر غير الكتابة عن الحرب الآن. لكن بطبيعة الحال لن نكتب عنها إلى الأبد. سننصرف إلى مشاريعنا الخاصّة، ونكتب ما توقفنا عن كتابته منذ بدء هذه الحرب اللعينة.

المعجزة الكردية ولعنة الهوية..
(*) كتبت مؤخراً على جدار صفحتك في "فيسبوك": "ما يحزنني جداً هو مشاريع رواياتي التي سيحول الموت بيني وبين تنفيذها". سؤالي: هل تخاف أن يداهمك شبح الموت وأنت في هذا العمر؟
نعم. الصيف الماضي اكتشف الأطباء شرياناً تاجياً شبه مسدود في قلبي. قبل هذا الاكتشاف كنت أترقب الموت دائماً. ولا أدري لماذا تسيطر عليّ فكرة الموت! إنّه شيء مرعب أن أترك عملاً في منتصفه، ثمّ لا أعود له نهائياً. ربّما كانت الكتابة حيلة لنا على العيش سنوات أكثر. نوهم الموت أنّنا مشغولون، ونرجوه أن يتأخر قليلاً. لكن هل سيسمعنا؟ هل سيتأخر موتي إلى أن أنجز كلّ ما أفكر فيه وأخطط له؟ ألا ليته فعل ذلك.

 

(*) لماذا تعرّف نفسك على الدوام كروائي كردي سوري، بينما الرواية لا تعرف حدوداً للهوية؟
لم أعرف نفسي هكذا. الآخرون هم من يريدون تعريفي ضمن هذا الإطار. وهو على كلّ حال صفة عرقية وطنية للكاتب لا تغير من الأمر شيئاً. هوية توضيحية ربّما. كأن نقول دينو بوتزاتي إيطالي. للأسف، هوياتنا قيود نرسف فيها إلى آخر العمر. حتى بعد الممات ستلاحقنا لعنة الهوية.

 

(*) بحمولة هويّاتية، شكّلت مفهومك للأدب، وصاغَتكَ فنياً، ما الذي اكتنزته - نفسياً وأدبياً - من هذا التهجين الثقافيّ، إن جاز التعبير؟
هذه الهجنة، أو التهجين، هي إضافة جميلة. اقتران نوعين من النباتات مختلفين في لون الأزهار مثلاً، أو في بعض الصفات الأخرى يؤدي إلى ظهور نوع جديد يحمل الصفات الوراثية لكليهما، أو صفات هي مزيج صفات الأبوين. ليست هناك ثقافة صرف ذات لون

واحد.
قوة الثقافة في تعدد مناهلها، وتباين روافدها. قوة أيّ مثقف في تنوع وتعدد آبائه المعرفيين. أنا قوي بهوياتي المكتسبة الكثيرة. اللغة العربية جزء أساسي من هويتي. الإسلام الحضاري كذلك. انتمائي إلى الشرق. وجودي في بلاد الغرب، واحتكاكي اليومي المباشر بالثقافة الأوروبية.. كلّ هذه الأمور خلقتني وكونتني من جديد. أضيفت إلى عروقي دماء جديدة أمدتني بطاقة أكبر. أغبط نفسي لأنّني أعرف أشعار المعري العربي وفكره وأقرأ كلّ ذلك بلغته. في الوقت نفسه، أقرأ لأحمد الخاني أشعاراً في غاية الروعة بلغته. أقرأ نيتشه بلغته. واطلعت على أشعار حافظ شيرازي، كما دونها هو بالفارسية. وليتني كنت أعرف كلّ اللغات، وانفتحت على جميع الثقافات.

(*) يعيش معظم الكتّاب الأكراد في عموم منطقتنا مأساة تتسم بالغرابة: الكتابة بلغة محكية غير مدرسية، لغة محظورة بشكل رسمي في أكثر من بلد. كيف تعايشت مع هذه التجربة؟
هذا ما أسميه المعجزة الكردية. لغة مقموعة، حوربت على مدى عقود طويلة، منعت من التداول حتى في الحكي والغناء. نفضت عن نفسها غبار الاضطهاد، واستطاع جيل مشاكس أن يبدع بها روايات وأشعاراً وكتباً في مجالات أخرى. في الحالة الكردية، أصبحت اللغة الكردية لغة مقدسة لا بد من حمايتها وإنعاشها لإنقاذها من الموت الوشيك. أعتقد أن جيلي والجيل السابق عليّ نجح في هذا الأمر.

 

(*) يكتب معظم الكتّاب الأكراد السوريين باللغة العربية، ويتم تقديمهم وتسويقهم ككتّاب سوريين. فإذا تحدثنا عنك، أهو شعورك القومي ما دفعك للكتابة بالكردية، أم ثمّة دافع آخر، أعني أتعتقد أن كتابة الكردي بلغته واجب قومي؟
ليس فقط الشعور القومي. لغتي الكردية جزء من روحي وكينونتي. لم أجدها غريبة مذ وعيت على الدنيا. في البيت، كانت أمي تقرأ الأشعار الكردية. إخوتي كذلك. صحيح أنّها كانت لغة ممنوعة نتداولها بشكل سري، لكنها لم تغب عن طفولتي وشبابي أبداً. ولأنّ اللغة الكردية حوربت بشراسة بات من الواجب حمايتها والدفاع عنها. هو واجب إنساني قبل أن يكون قومياً. بالقدر نفسه، أستطيع الدفاع عن لغة أقلية في أقاصي الدنيا تتعرض للتهميش. لجميع اللغات، وكافة الشعوب، حق التنفس والتعبير. حين أكتب بالكردية فأنا أبرز جزءاً من هويتي متعددة الجوانب والسطوح. الكتابة بالكردية متعة ونضال وانتقام من الظلم الذي لحق بها أيضاً.

وفاء للمخيلة والذاكرة والحلم..
(*) عندما نتحدث عن الأدب الكردي، فنحن نتحدث عن إبداع يكتب بثلاث لهجات رئيسية (الكرمانجية، والسورانية، والزازية)، وعن تجربة غير مكتملة تعيش تحت مطرقة حظر لا نعرف متى سينتهي. ما الذي تأمله من وراء الكتابة بلغة محظورة لا تملك سوى عدد محدود من القراء؟
بالنسبة لي شخصياً، الكردية لم تعد لغة محظورة. يكفي أنّني أبدع بها ما أشاء، وما من عائق

في سبيلي وسبيلها. أشرت إلى مشكلة تعدد اللهجات الكتابية. أنا أعتبرها لغات كردية، أو كردستانية. وفي اعتقادي، ما لم تقم للكرد دولة فإنّ هذه اللهجات ستتباعد، وتصبح كلّ منها لغة مستقلة، مثلها مثل الهولندية، والألمانية.. ولا عيب في ذلك طبعاً.
حين أكتب بالكردية أحقق جزءاً هاماً من ذاتي متعددة الجوانب. الكتابة بالكردية وفاء للمخيلة والذاكرة والحلم. وفاء لهدهدات أمي وهي تهز سريري الخشبي في ليالي طفولتي الأولى.
الكتابة بالكردية وفاء لشجارات أبي مع أهل البيت، ولأصوات أهل الحارة والباعة المتجولين. وفاء لجيل كامل ناضل في سبيل الكتابة باللغة الأم، ودخل السجون، وعذب لا لشيء إلّا لأنّه دعا إلى فك الحظر عن اللغة الكردية.
أمّا موضوع القراء، فهذا أمر لا يعنيني كثيراً. المهم عندي هو إسهامي مع غيري في حماية هذه اللغة من الاندثار، وتطويرها قدر الإمكان.

 

(*) نقلت من اللغة الكردية إلى لغة الضاد روايات وعدد من الكتب في مجالات الأدب والعلوم الإنسانية. فإلى أيّ مدى أثّرت ترجماتكَ في كتاباتك؛ أو لنقل: هل استفدت من الترجمة في نصوصك الشعرية والروائية؟
ليس كثيراً.. ترجمتي الأهم كانت "مم وزين"، وكذلك "مختارات من القصة الكردية القصيرة"، ثمّ "رسالة في عادات الأكراد وتقاليدهم". بلا شك فإنّ ملحمة "مم وزين" بحيرة تأمل فتح اشتغالي على ترجمتها أبواباً واسعة للدخول إلى عوالم العرفان والمعرفة أفادتني في رواياتي" وساهمت في خلق أفكاري وبلورتها.

 

(*) كيف ترى تلقي العرب للأدب الكردي الحديث، ولترجماتك، خصوصاً؟
في الحقيقة، هنالك ترحيب واسع. وهذا ما يجب أن نعول عليه. الأدب والثقافة عموماً يمكنها أن تزيل الحواجز النفسية بين الشعوب. نحن أبناء منطقة واحدة، ومشتركاتنا كثيرة جداً، وأكثر من أن تفرقنا.
سررت كثيراً حين سمعت من بعض قرائي أنّهم تعرفوا عبر كتاباتي وترجماتي على الكرد والمجتمع الكردي. وأعتقد أنّ الكرد، كسلطات ومؤسسات، مقصرون في هذه الناحية. عليهم أن يضعوا مخططاً إستراتيجياً لنقل الأدب الكردي إلى الجيران.

الكرد مدينون للفلسطينيين
(*) في سياق حديثنا عن الترجمة، أعود معك للحديث عن تصديك لمشروع إعادة إصدار القاموس الموسوم بـ"الهدية الحميديّة في اللغة الكرديّة"، الذي وضَعَه بالعربية العلامة المقدسي، يوسف ضياء الدين باشا الخالدي (1842-1906م)، الذي طُبع لأوّل مرّة عام 1892 في إسطنبول، بعد أن عملت على تحقيقه وكتابة مقدمة له، ليصدر عن "دار نامة" في المدينة نفسها في عام 2018. هل يُمكنك تعريفنا بهذا العمل، وما أهمية إعادة إصداره بنسخة محدّثة بعد مرور قرن وربع من الزمان؟
باعتباري كاتباً عندي نزعة البحث والتقصي، فقد تولد لديّ فضول كبير لمعرفة ضياء الدين باشا الخالدي، الذي ألّف أول قاموس من نوعه في تاريخ الأكراد. كنت أظنه أحد المتنورين الكرد في البداية. لكن تبين لي في ما بعد أنّ الرجل ليس كردياً، بل هو فلسطيني من بيت المقدس، مما زادني فضولاً على فضول.
بدأت رحلة البحث عن الرجل معتمداً على بعض الكتاب والمثقفين الفلسطينيين. أخيراً وصلت إلى رأس الخيط، وعرفت نتفاً من سيرة حياة الرجل، دونتها في مقدمة الطبعة الجديدة للقاموس.
القاموس الذي ما زال إلى الآن مرجعاً مهماً لي في اللغة الكردية طبع بشكل منقوص للأسف في منتصف سبعينيات القرن الماضي. المقدمة النحوية الهامة التي كتبها المؤلف غابت عن الطبعة. وكذلك غابت الخاتمة التي ضمت أموراً هامة، منها تقريظات للعمل، ومدح لصاحبه، وشرح لقصائد كردية، وغير ذلك. كان لا بد، إذاً، من إخراج القاموس في حلّة جديدة، فبدأت

العمل على تنقيحه وتصحيحه وإخراجه بالشكل الذي يليق به، ثمّ طباعته في إسطنبول على نفقتي. وهي المدينة نفسها التي شهدت طباعة القاموس قبل قرن وربع من الزمان.
تواصلت مع الدكتور وليد الخالدي، عميد الأسرة الخالدية في الولايات المتحدة، وطلبت منه تأدباً الترخيص لي بطباعة القاموس قبل ذلك، فسمح لي بذلك. في زيارتي إلى القدس، نظمت لي المكتبة الخالدية بجهود مشكورة من الدكتور عصام الخالدي، والدكتور رجا الخالدي، أمسية حميمة ألقيت فيها محاضرة عن أهمية القاموس بالنسبة للكرد، وأظهرت أنّ الكرد مدينون للفلسطينيين بهذه التحفة. شاركتني المحاضرة الأديبة، ريم غنايم، بعد أن قدمتني للجمهور الذي تفاعل بشكل إيجابي جداً مع موضوع المحاضرة.
ما أريد قوله هنا هو نوع من المعاتبة. لماذا لا يلتفت الإخوة العرب إلى أدب جيرانهم وإخوتهم الكرد؟ لماذا لا يستمرون في الخط الذي انتهجه هذا المقدسي العظيم، فيؤسسون مراكز للدراسات الكردية، للاهتمام بثقافة شعب يعيش مجاوراً للعرب منذ قرون طويلة؟ لماذا انقطعت السلسلة في أولى حلقاتها؟ المعرفة كفيلة بأن تبدد شوائب السياسة، فلماذا لا نركز عليها، ونفسح لها المجال لتصفو القلوب، وتقرب بين الناس في هذا المنعطف الخطير من تاريخ منطقتنا؟ 

جان دوست يتحدث عن تحقيقه للمعجم الكردي-العربي الذي وضعه ضياء الخالدي في المكتبة الخالدية 10-7-2019 (يوتيوب)


(*) لا تتوقف مؤخراً عن بث شكواك من أغلب الناشرين العرب الذين تعاملت معهم، وتقول متهكماً: "نحن الكتاب تحوّلنا إلى مندوبي مبيعات دور النشر، همّنا الإعلان عن منتجات تحمل أسماءنا". فما هو سبب هذه الشكوى، وكيف هي علاقتك بدور النشر العربية؟
خضت وما زلت أخوض تجارب مرة مع نشر رواياتي. هنالك أمور لا أفهمها، لكنني وصلت إلى رأس الخيط الذي يجعل العلاقات سيئة بين الكاتب والناشر. معظم الناشرين في البلاد العربية يملكون دور نشر خاصة بهم، مسجلة باسمهم، ولا يعتمدون على العمل المؤسساتي. تحتاج للرد على استفسارك إلى أسابيع. ينشغل الناشر بحضور معارض الكتب، بينما يهمل الكتاب الذي بين يديه. تنتظر منه أن يجيب فيقول لك أنا مشغول!
الناشر المتفرد في القرار بأيّ دار نشر يشبه مستبداً صغيراً جمع بين يديه كلّ السلطات. بينما لو اعتمد الأسلوب المؤسساتي فسيرتاح ويريح. طبعاً هذا الأمر مكلف مادياً.. لكن لا بد من ذلك حتى يشعر الكاتب بقيمته ككاتب، وينجح الناشر في عمله.
نقطة أخرى مهمة جداً هي احتكار النشر. الناشر الذي مركز عمله دمشق يريد أن يحتكر نشر الكتاب لنفسه، ويصبح هو الوكيل الحصري لنشر وتوزيع الكتاب في العالم العربي الممتد من أبو ظبي حتى الدار البيضاء. هذا طبعاً عمل فوق طاقة الناشرين الحاليين. هذا الموضوع بحاجة إلى مؤسسة ذات قدرات ضخمة، وخدمات لوجستية قديرة تستطيع عبرها دار النشر إيصال الكتاب إلى كلّ المدن الكبرى على الأقل. لكن الذي يحصل أنّ الناشر يأخذ معه إلى كلّ معرض كمية قليلة من الكتاب الذي نشره، وهذا لا يفي بالغرض. في اعتقادي، أنّ من حق الكاتب أن ينشر في كلّ دولة على حدة بشكل مستقل عن ناشر الدولة الأخرى.
ربّما منبع هذه المشكلة هو سيطرة التفكير القومي الضيق على الناشرين. فما دام ينشر بالعربية فهو يعتبر الجزائر والمغرب وتونس وليبيا ومصر والسودان والسعودية والأردن والعراق.. إلخ.. سوقه الخاصّة.. ليس هناك ناشر يستطيع إيصال الروايات والكتب إلى هذا العدد الهائل من القراء. دائماً ما تصيبنا الخيبة حين يخبرنا أكاديمي أنّه لم يستطع الحصول على الرواية الفلانية. أو أنّها لا توجد في مكتبات مدينته.. من هذا المنطلق كثرت الشكاوى، ليس مني فقط، بل من كثير من الكتّاب الآخرين أيضاً.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.