}

بريد السماء الافتراضي.. مع الشاعر اللبناني الفرانكوفوني جورج شحادة

أسعد الجبوري أسعد الجبوري 7 أبريل 2020
حوارات بريد السماء الافتراضي.. مع الشاعر اللبناني الفرانكوفوني جورج شحادة
جورج شحادة (1989 - 1905)/ ويكيبيديا

ونحن في الطريق إليه، رأينا ساعة ضخمة مُعلّقةً في الهواء، فيما كانت عقاربها تقدحُ ناراً وبرقاً. أخذتنا الحيرة من منظرها. ولكن قائد المركبة أخبرنا بعض المعلومات عن تلك الساعة، عندما قال إنها جهاز لقياس ضغط دم الموتى الجدد العابرين من الأرض إلى السموات.
كل شيء غريب وخرافي، هنا، يصبح مُقنعاً. هكذا أدركنا الأمور، والمشاهد، قبيل لحظة اجتماعنا بالشاعر الفرنكفوني من أصل اللبناني جورج شحادة، بوجهه المائل إلى النحول، وبالسحنة الصفراء، مما أقلقنا ودفعنا إلى التفكير الجدي باختصار الحوار مع الشاعر النحيل، وحذف كل ما يمكن أن يعرّضه للضجر، أو الخوف، أو الفزع.
استقبلنا ضاحكاً ومتهكماً في الوقت نفسه، قائلاً: كل حوار بمثابة عمل جراحي لتنظيف الرأس من المخلوقات القديمة. ومع ذلك، سأدع حيواني (توسنار) هذا الذي يشبه التنين، ونجلس في القاعة القمرية نحتسي مشروب ثمار (الجنزيزي) الذي لا شبيه له على الأرض، ونتحدث.
ذلك ما حصل بالفعل. فما إن جلسنا متقابلين مع الشاعر جورج شحادة، حتى افتتحنا الحوار معه بالسؤال عن طفولته:

 

 

(*) كيف تنمو الطفولةُ في الشعر، وأين؟
الطفولةُ في الشعر جهازٌ أوتوماتيكي لا يتوقف عن الحركة والتذكر والهرولة. مثلما هي لا تنمو إلا في طين الجسد.

 

(*) هل تحكي عن طفولتك أنت، أم بشكل عام؟
لا أعتقد بوجود طفولة عامة. هنالك خصوصية لكل جسد مع طفولته.

 

(*) وإذا ما تم تفريغ الأجساد من الطفولة، ما الذي سيحدث في رأي جورج شحادة؟
نصبح متشابهين وسخيفين، بلا معنى، مثلنا مثل الأواني المستطرقة.

 

(*) ولكنْ، ألا تضر الطفولةُ الساذجة البريئة الأمية بالنصوص التي عادة ما تندفع إلى الوصول إلى العبقريات التي تبتغيها النصوص وصولاً إلى الكمال، أو  إلى قسمٍ منه؟
كل شاعر يستطيع صناعة طفولته بالطريقة التي يرغب فيها، ولكنها تبقى طفولة مزوَّرة، ولا تشبه الأصل بالتأكيد.

 

(*) أظن أن طفولتك ارتبطت بحلقات مترابطة ما بين الطفولة الجغرافية، كمولود لبناني في مصر، وما بين طفولتك البيولوجية، كلبناني مهاجر عبر الزمن. ما ردّك؟
الجسد كتلةٌ من الفيزياء اللحمية العظمية التي عادة ما تتكون داحل حفرةٍ تُسمى بالنفس. وهناك

يتعلم كل مولود تجارة قطع غياره في أسواق الزمن، وحوانيت الأمكنة التي تصنع بضائعها وتبيعها على سكان الأرض واللغة والعدم.

 

(*) هل تقصد أن طفولة الأرض هي الباقية الوحيدة، من دون هلاك، أو شيخوخة، أو فناء؟
أظن ذلك. فالأرض هي الروح التي لا تنتهي في طفولة التراب.

 

(*) هل أحس جورج شحادة بالتغريب مبكراً؟
نعم. فأنا، وإن كنت قد ولدت في الإسكندرية المصرية، إلا أن نسغ دم عائلتي الأرثوذكسية اللبنانية كان يحتشد في ذهني ويفيض.

جورج شحادة/ (أنطولوجي)

 (*) هل كان ذلك جزء من الإيمان المسيحي، حيث يتم الحرص على الانتماء للاهوت بشكل نمطي، كما حدث للأسلاف؟

كان الشعر والدين يمشيان عندي إلى جانب بعضهما بعضاً حتى ذروة الشعر الذي يمكن أن يكون قد خفف من وطأة الغيمان الكنسي على مجمل نصوصي في الشعر.

 

(*) هل تحسُّ بضرورة أن يكون الشاعرُ مؤمناً دينياً؟
ليس في ذلك ما يخل بالشعر. كنت أنظر إلى مسألة الإيمان الديني كنظرية في الفن وتطوير

الخيال، نظراً إلى وجود متعة هائلة يوفرها التأمل بالماورائيات.

 

(*) تعني أن في كلّ ديانة مادة للخيال، ويمكن المضي في مجراها للبحث عن الله.
بالضبط. فليست الأديان سوى شبكات للفاعل الفانتازي، وهي أكثر تنظيماً من المدارس السوريالية التي ظهرت على الأرض.

 

(*) ألا ترى في هذا الكلام تجديفاً؟
لا، لم أرَ في ذلك تجديفاً. فالله أعظم بناة الخيال، وأكبر الخالقين للعقول المميزة والقابلة للتميز بشكل تصاعدي.

 

(*) هل تعتبر القصيدة مكاناً؟
قد تكون. ولكن لا يشغلني هذا النمط من التفكير.

 

(*) إذا كنت تعتقد بمكانية القصيدة، فكم غرف القصيدة تكون على سبيل الافتراض في رأيك؟
غرفة ببار دائري، وسطح للتأملات ومخاطبة النجوم.

 

(*) بلا غرفة نوم!!
لا حاجة للشاعر إلى تلك الغرفة، لأنه لا ينام. وإذا ما فعل ذلك وأخذ قيلولةً، فستكون في جحيمه الداخلي.

 

(*) لمَ تصوير العلاقة ما بين الشاعر وبين الجحيم بالعلاقة الحميمة دائماً، وتغييب الفراديس عنه مثلاً؟!
لأن لا نضوج لشعر إلا تحت تأثير الحرارة العالية. لذا فقد يُعرقلُ برد الفراديس البناء الروحي للغة الشعرية في النصوص.

 

(*) كيف تنظر إلى مخلوقات النصوص الشعرية؟
كلما تعرفتُ على شاعر من حول العالم، سرعان ما أتعرف على حيوان شبيه به، منهم ما هو متوحش ومنهم ما هو أليف.

 

(*) وما الحيوان الشبيه بصديقك الشاعر سان جون بيرس على سبيل المثال؟
كان الثعلب.

 

(*) وأندريه بريتون.
الدب القطبي الذي لا يترك سمكاً في البحر، من دون أن يلتهمه ويجعل من معدته بحيرة لزراعة السمك.

 

(*) وماذا كانت صورة صاحبك ماكس جاكوب؟
زجاجة شمبانيا قبل التبريد.

 

(*) وجورج شحادة. ما شبيهه؟
أنا شبيه فهد يغالبه النعاسُ.

 

(*) عندما تحتشد الحيوانات في القصائد، هل ثمة أثر لها في تحريك اللغة؟
بالطبع. فلا أظن بأن وجود أسد على رأس السطر يمنح النص الراحة، أو الطمأنينة، بقدر ما يجعل حتى المطابع مهزوزة الفرائص رعباً من تلك الصورة.

 

(*) أأنت مع استقرار النصوص؟
نعم. ولكن ليس بالقدر الذي يجعل منها منازل للتأجير وللاستئجار خاضعة لقوانين السوق، أو

سلطة القاموس.

 

(*) ما هي أبرز تضاريس القصيدة راهناً؟
أن لا تصبح سلسلة جبلية متصلّة ببعضها، فتقضي على التنوع البيولوجي للكلمات عند القارئ الذكي.

 

(*) ما رؤيتك للذكاء الاصطناعي في كتابة الشعر؟
سيكون عاملاً مساعداً في التجريب، بين ما هو منتج مخلوقات المخيّلة البشرية، وما بين منتجات العالم الإلكتروني.

 

(*) هل يمكن للتكنولوجيا أن تقضي على التأليف الشعري، بوسائلها التقنية التي تعتمد على طاقات الإلكترونيات في كتابة النصوص؟
أظن بأن الشعر سيشهد مراحل فاصلة من التحولات.

 

(*) في اللغة، أم في الخيال؟
في مصادر بناء النصوص، وحركة سير الكلمات على الورق.

من مسرحيات جورج شحادة المترجمة إلى اللغة العربية 

 

(*) ماذا تقصد بجملة (سير الكلمات على الورق) بالضبط؟
أعني أن النصوص الإلكترونية الخاصة بالذكاء الاصطناعي، إنما هي نصوص مستوردة من الآلات، وربما لا تستطيع الاندماج بالقارئ بشكل عاطفي وفاعل.

 

(*) ربما سيكون من غير اللائق عدم السؤال عن الحانة التي يرتادها جورج شحاذة في باريس؟
زجاجة الكونياك.

 

(*) تدخلُ الزجاجةَ منتعشاً بالثمالة مع مخلوقاتك هناك؟
أجل. وطالما فعلت ذلك لشرب الأنخاب مع رواد تلك الحانة من الملائكة.

 

(*) أهي الحانة النفسية يا جورج؟
بالضبط. فجوهر الشعر هو مستشفى مجانين.

 

(*) وهل تُصاب الكلمات بالجنون كما تعتقد؟
أجل. فالجنون هو الراعي الشرعي لكل فاتن، ولكلّ فتنة، في الوجود النفسي والخارجي.

 

(*) وكيف لعقل اللغة أن يسمح بذلك على سبيل المثال؟
ما إن يفشل التوافقُ ما بين الشعر وعصب المجاز، حتى تبدأ سيطرة الجنون على المقعد

الأمامي للغة.

 

(*) وما المكان المريح لإقامة اللغة؟
ليس في القواميس بالتأكيد.

 

(*) في الباطن الشعري تقصد.
كلا، وأبداً. فما من مقام مريح للغة إلا في منازل الشعراء، حتى وإن كانوا من عمال تنظيفات المعاجم والقواميس.

 

(*) ألا يزال الشعر إلهاماً. ومتى يقطع الشاعرُ علاقته بالإلهام، إذا ما صحُّ ذلك؟
كنت أخشى في حياتي من نظريات الإلهام الشعري. مثلما ما زلت متحفظاً على ذلك وأنا مقيم في ما وراء الموت هنا.

 

(*) ثمة من يراك شخصيةً غامضة. ما ردّك يا جورج شحادة؟
ذلك صحيح. فالوضوح من العلامات السيئة التي صممت على مكافحتها في حياتي، ونجحت.

 

(*) هل من أجل ذلك الغموض، لم تكتب بالعربية؟
ربما. فاللغة العربية عادةً ما تقود الشاعر إلى الاعترافات التي لا تولد سوى الفضائح.

 

(*) وكيف وجدت اللغة الفرنسية. عكس تصورك للعربية مثلاً؟
لا أعرف سبباً لكتابتي بالفرنسية. ربما لأنني كنت أبحث عن لغة فارغة، تستطيع استيعاب ما كان في جسدي من حيوانات مفترسة وديدان ولصوص وعنادل معذبة وغربان تنعق في نوافذ حواسي ليل نهار.

 

(*) لقد مسرحت حياتك بطرق متوحشة، ففتحت بوابات سوداء للتراجيديات. هل كانت بنية أبطالك نسخة منك في مسرحية (تاريخ فاسكو) على سبيل المثال؟
ثمة شبه لي بها. ولكنها أسست لأمراض تنهب الأرواح، ولا تقيم وزناً للإنسانية.

 

(*) قال عنك الناقد الفرنسي غايتان بيكون "أفتح كتابه الشعري كأنني أفتح صندوقاً مرصعاً بعروق اللؤلؤ، جوانبه الداخلية من شجر الأرز، أو من خشب الصندل، يعبق منه عطر سرعان ما أميزه من بين جميع العطور، على الرغم من أنه ينتمي إلى شعر جوهريّ، لا زمنيّ، كأنني أسير مغمض العينين في هذه الغابة نحو أريج يوفق بين المركَّب والمرهف على نحو لا أرى مثله في أي مكان". ماذا تقول عن هذا؟
يكفي أن يلفظ كاتب عملاق مثل (غايتان بيكون) اسمي محاطاً بهذه الهالة الجمالية الثاقبة من

الكلمات.

 

(*) في ما لو رغبت بإعادة صياغة مسرحية (مهاجر بريسبان) كنص شعري، ما الذي يمكن أن تقوله في القصيدة المفترضة على سبيل المثال؟
سأكتب مقدمة النص الشعري لتبدأ القصيدة هكذا:

(الأرواحُ ترفرفُ بالعملات الورقية
السوداء مع الموسيقى الجائعة.
والقلبُ بنكٌ لمدائح الخيانات)

 

(*) كيف ينظرُ جورج شحادة إلى الخيانات العاطفية؟
أظن أنها بطانة أغلب المعاطف التي يرتديها الرجالُ، أو تلك التي تلبسها النساء من الفراء النادر، على حدّ سواء.

جورج شحادة (يمين) وزوجته بريجيت مع موريس بون، 1953

 (*) هل يمكن اعتبار الاضطهاد العثماني لأبويك الهاربين من لبنان إلى مصر من مصادر الإلهام في كتاباتك؟
بالطبع. فأنا، حتى اللحظة الراهنة، ما زلت مصاباً بفوبيا ثقافة الخوازيق، كصناعة حضارية وحيدة لدولة العثمانيين المنهارة.

 

(*) ولكنك لم تمت بها يا جورج. متَّ في باريس، ودفنت تحت التراب الفرنسي، عوضاً عن تراب لبنان!!
لم أرغب بدفن جثماني تحت تراب تسقيه مستنقعات الدم التي أغرقت لبنان. جسدي رفض المثول للوطن حنيناً ودفناً.

 

(*) هل من الممكن أن يأخذ المتوفى وطنه معه إلى هنا؟
أظن أن المدافن العربية لا تحتاج للأخذ، ولا للنقل، أو للترحيل، فهي نقطة العدم الأولى. وفيها من الصحارى والجبال والحقول ما يكفي لبناء فراديس أكثر مما موجود في السموات. ولكن

اختيار العرب وقع على الجحيم ليعيشوا مضطربين بلا حدود.

 

(*) أراك مستغرقاً بآلام هجرة اللبنانيين. أليس كذلك؟
نعم. تلك النار لم تخمد في أعماقي بعد. ليس أقسى من أن مشاهد المهاجرين والهاربين من البنادق. كان الموت علامة لبنان الفارقة. كم كان ذلك محزناً.

 

(*) هل وجدت العزلةَ سديماً؟
أنا لا أقابل إلا نفسي في مجرى السديم المفتوح الذي لا يستطيع فارسُ أو زعيم أن يقفل أبوابه المشرّعة من الولادة للموت.

 

(*) كم من الطبقات تتكون نفسك يا جورج؟
أنا الطبقة الأولى، والمسرح الثانية، والكآبة الثالثة، التي عادةً ما أستضيف فيها شعراء الجريمة المنظمة.

 

(*) كيف تستضيفهم. هل أنت مجرم مثل أولئك الذين تقصدهم؟
بالضبط. وإذا ما أردت التعرف أكثر فأكثر، فيمكنني أن أعيرك هذه النظارة السميكة لترى كل شيء، وتعرف كل شيء. هذا الزجاج المحكم الالتصاق بالنظارة هو بمثابة هارد ديسك لجمع المعلومات عن كل الشعراء الذين مروا في حياتي، كلاسيكيين وسورياليين ورمزيين وصوتيين وغجريين ورومنطيقيين.

 

(*) هل منهم أوباش وصعاليك؟
أغلبهم من المتمردين الذين تعاملوا مع الكلمات، تعامل السحرة في طقوس الشعوذة للإمساك بالجنّ.

 

(*) شعراء باريس، أم أن القائمة تتجاوز الحدود الفرنسية؟
لا. ليسوا فرنسيين من الجماعات السريالية فقط. هم أيضاً من جماعات مجلة شعر اللبنانية، وأبولو المصرية، وبعض الرموز المهاجرة والعابرة للجغرافيات.

 

(*) ماذا تقول عن الكاتب أندريه جيد، الذي فتح لك الأبواب، وقدمك إلى القارئ الفرنسي؟
كانت مفاجأة عظيمة لم أتوقعها من كاتب من وزن أندريه جيد.

 

(*) ما الذي تفعله الآن في السموات؟
لقد عُينتُ حارساً على "نهر الوداع"، ليس إلا. وهو عمل مرهق كما أشعرُ.

 

(*) لم نفهم قصة النهر، ولا ارتباطه بالوداع. هل لك أن توضح أكثر؟
لقد كان نهراً ذهنياً يوم كنت أودع فيه الشعراء الغرقى ممن تعرفت عليهم بعد الموت. والآن أنا معهم. أقوم بقياس درجات حرارة أجساهم، وأكتب للرب التقارير المفصلة عن أفعالهم اليومية.

 

(*) تقصدُ أنك بت مستشفى لتقديم العلاج للضالين؟
أدركُ ذلك. فجورج شحادة الذي أمامك الآن هو مضمد نصوص، وماسك سجلات عشاق، وإبليس مسرح لإخراج العنقاء من الرماد، والارتباط بها كزوج. هكذا أشهد على نفسي بتلك الحرائق التي ما تزال متقدّة بالنيران الصامتة.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.