}

إسكندر حبش: لا نكتب إلا أنفسنا والثقافة يصنعها أفراد

دارين حوماني دارين حوماني 10 مايو 2020
حوارات إسكندر حبش: لا نكتب إلا أنفسنا والثقافة يصنعها أفراد
"الترجمة بالنسبة إليّ هي جزء مكمّل لمشروع الكتابة"
لا يمكن الحديث عن إسكندر حبش من دون استدعاء بعض أهم الأدباء العالميين، فقد قرّر أن يكون مترجمًا في العشرين من عمره عند قراءته الأولى لبيير ريفردي وفرناندو بيسوا وأوكتافيو باث وآخرين، من غير أن ينزاح عن الشعر الذي كان يكتبه بفرادة في الأسلوب لا يشبه فيه أحدًا إلا نفسه.

ولا يمكن الحديث عن حبش من دون أن نستدعي جريدة "السفير" التي شكّلت له أرضيّة عمر كامل من الحب والصداقات والأحرف التي كانت تتساقط على رأسه من بين رفوف الكتب وهو يمارس كتابة الصحافة الأدبية من مكتبه الصغير في مبنى الجريدة لثلاثة وثلاثين عامًا كان فيها مسؤولًا عن القسم الثقافي لفترة من الزمن، فشكّل إغلاقها هجرة أخرى له من هذا العالم، كما يقول. "الذين غادروا" رآهم باكرًا إسكندر حبش يرحلون في ساحة حرب تتناسل بأشكال مختلفة في بيروت فشكّل الغياب ثيمة أعماله الشعرية، التي كتبها كمشاهد خلفية لمسرح الأرض المنهزم والحزين. بدأ شبابه شاعرًا مشاغبًا ثائرًا على واقع ثقافي تفوح منه المجاملات والصعود عبر العلاقات الشخصية فأصدر نشرة شعرية مع أحد أصدقائه المقرّبين أطلقا عليها اسم "ميكروب" وهدفها التمرّد على الواقع الثقافي، وبعد عمر من الكتابة والصحافة والنقد والترجمة ظلّ يحمل شعره الاحتجاج نفسه بأبعاد مختلفة حيث يتساءل في أحد حواراته: "ماذا نريد من الثقافة في ظل هذه الظروف، والعالم العربي لم يعد يعاني فقط من أزمة ثقافة بل من أزمة وجود؟". ستة دواوين شعرية وعشرات الكتب المترجمة وما لا يُحصى من القراءات النقدية والمقالات الأدبية لم تترك متّسعًا لنا فيها لأرض أخرى نطأها ونحبها بعيدًا عنه، هي أشياء إسكندر حبش التي ستتدفّق فيك بقوة فتتورّط معها ولن تغادرك كما لن يغادرك وهو يقول: "أعدك إن أنت أتممتَ جسدي سأعود.."، "فلا شيء هنا سوى الأرض التي تهبنا الخوف قبل أن تغادر"..
هنا حوار مع الشاعر الصامت الذي يكلّم الأرض من مكان لا يريد لأحد فيه أن يراه، هو "الجمع بصيغة المفرد" كما يقول أدونيس، وهو الشخوص المتعدّدة في شخص واحد على طريقة فرناندو بيسوا بأوجهه العابثة في هذا العالم، فهو الشاعر والمترجم والصحافي والناقد والمعّلم والرسّام الذي يرسم لنفسه فقط. 

 
 

نحن نتاج كلّ ما عشناه
(*) إسكندر حبش المولود من أوطان متعددة: فلسطين، أرمينيا، سورية، لبنان؛ هذا الانتماء المتعدّد الذي أحالك إلى لا منتمٍ إلى أي وطنّ محدّد وإلى أي حيّز جغرافي، هل هو إيجابي أم سلبي، وهل يجعلك تشعر بعدم الطمأنينة أو بنوع من الفقدان الروحي، أم أنه يغذّي البذور الشعرية في داخلك كونها بلادًا عاشت التشتّت والمنافي؟ 
- ولدتُ في مدينة بيروت، لكن من أصول عائلية مختلفة، تنتمي إلى فلسطين من حيث عائلة أبي. أنا من آل حبش الذين هُجّروا من اللد، أنتمي إلى عائلة "الحكيم" (ابن عمّ والدي). أما الناحية الأرمنية – لا الأرمينية – فعائدة إلى جدتي لوالدتي. وحين أقول أرمنية فأنا أقصد ذلك المكان التاريخي الذي اعتقله الأتراك (العثمانيون) وقاموا بقتل شعبه وتهجيره. لأن أرمينيا الحديثة (الشرقية، أي الجمهورية الحالية)، ليست سوى كيان سياسي بمعنى من المعاني، وحين زرته قبل سنين، لم أشعر بأي ارتباط لي معه، على العكس ممّا حصل حين زرت "دورتيول" (تبعد 26 كم عن الإسكندرونة)، مدينة جدتي لوالدتي؛ إذ قررت قبل عقد من الزمن، وفي لحظة من تلك اللحظات الإشراقية التي تصيب المرء، أن أعود وأسير (ليس على الأقدام بالطبع) على طريق هجرتها، من مدينتها وصولًا إلى مدينة حلب السورية، ومن ثم إلى مدينة "عنجر" اللبنانية، قبل أن تسكن عائلتها بيروت.

اتخذت الطريق الذي كانت كلّمتني عنه في أحاديثي معها. وأتمنى ذات يوم أن أقوم بالأمر عينه فيما يخص طريق هجرة والدي. يمكنني القول إنني ولدت من هجرتين. أما سورية، ونظرًا لهذه الظروف التاريخية التي مرت بها عائلتيّ، فقد عشت فيها لفترات طويلة متقطعة، بدءًا من طفولتي الأولى ولغاية اليوم. أنتمي إلى كلّ تلك البلدان، وبخاصة إلى لبنان الذي شكلّني وأتاح لي الكثير على كافة المستويات والصُعد. أنتمي إليه، لأن على المرء أن يختار مكانًا في نهاية الأمر. إذ لا نستطيع أن نبقى في هذا الحيّز المبهم. نحاول أن نقنع أنفسنا في النهاية، بأننا ننتمي إلى الكتابة، التي شكّلت لنا وطنًا نفصّله على مقاساتنا؛ وطنًا لا تلعب فيه الأفكار القومية الصافية دور الجلاد. لا مكان في الثقافة لهذه "القومية الصافية" البلهاء. إننا نتاج كلّ ما عشناه.  

    

(*) لم تنتمِ أيضًا إلى أي حزب أو منظمة سياسية رغم أنك كنت في مرحلة الشباب خلال الحرب الأهلية اللبنانية والتي كان للجميع مشاركة إلى حد ما فيها ولو بمستويات مختلفة وكانت بيروت تشتعل ليس بأصوات القنابل فقط بل بأصوات الأدباء والمثقفين، لماذا اخترتَ أن تكون بعيدًا؟ وهل على الشعر أن يكون سياسيًا في مكان ما بمعنى أن يكون في قلب الصراعات الاجتماعية؟ 
- يمكن للشعر أن يكون ما يريده، أن يختار الطريق الذي يرغب فيه، شرط أن يقدّم لنا نصًا جميلًا ومتماسكًا، أن يقدّم فنًا حقيقيًا. لذا لست مع تصنيفات تسمح لنوع كتابي أن يكون حاضرًا، وأخرى تُحرّم ما يجب كتابته. في أي حال، أن نكتب يعني أن نمارس سلطة، وفق تعبير رولان بارت. بهذا المعنى كل كتابة هي سياسة بطريقة أو بأخرى. أصلًا لا أشعر بانتمائي لطائفتي، فكيف أنتمي إلى حزب أو ميليشيا؟ صحيح لم أنتمِ بشكل مباشر إلى أي مجموعة، أي رفضت حمل السلاح مثلما فعل بعض أبناء جيلي (ولا أحاكم أحدًا هنا)، لظروف كثيرة: تاريخية واجتماعية وثقافية، الخ. ولكن لا يعني ذلك، أنني كائن فضائي، أتى من مكان بعيد من هذا الكوكب. الانخراط يكون أحيانًا بكلمة، بموقف، بتعبير، وحتى البقاء على الحياد، هو موقف أيضًا. 

(*) تقول في قصيدة "ذاكرة": "لا يبقى للذين تكاثروا/ بدون موسيقى/ ذاكرة تتسع لصداقة"، ماذا يحمل إسكندر حبش من بيروت التي جمعت أصدقاء الأدب من العالم العربي منذ منتصف القرن الماضي، والتي يراها الآن من وراء البحر عن بعد أربعين كيلومترًا عنها، ماذا تبقّى في ذاكرتك منها ومن أصدقائها؟ ماذا أعطاك الابتعاد مكانيًا عنها وعنهم؟
- بيروت مدينة لا تشبه إلا نفسها (بسلبياتها وإيجابياتها)، وقد عرفت كيف تصوغ أسطورتها الخاصة بها. أحيانًا أفكر بأننا أضفنا أساطير كثيرة على ما قامت بنسجه حول نفسها، لتبدو وكأنها آخر الأماكن على هذه الأرض، كأنها منفانا الأخير، كأنها التجريد الأخير للشرط الإنساني. مغادرة بيروت والعيش بعيدًا عنها، كان بداية لظروف اقتصادية، لكن هذه المغادرة تحوّلت إلى حالة من الطمأنينة الداخلية، أتاحت لي العمل والكتابة والترجمة – والأهم القراءة – بشكل أكبر. بصراحة لست نادمًا، بل على العكس من ذلك، أعيش سكينتي التي أتاحت لي أن أنظر وأرى بشكل أفضل.

ثمة صداقات باقية وستبقى لأنها حقيقية. لكن أيضًا، أجمل ما في الصداقات أنها قابلة للسقوط. سقط كثيرون. وهذا أفضل، تخلّصت من رهط كان يطنّ في أذنيّ. ولأحدّد أكثر، ثمة معارف نشأت لأنني كنت أعمل في صحيفة وقد استلمت رئاسة قسمها الثقافي لفترة. حين انتهت "مسؤوليتي" استقال هؤلاء من معرفتي. أرى أن الأمر يشكّل إيجابية كبيرة. وبرغم كل هذا، لا يمكن للمرء أن يستقيل من بيروت بهذه السهولة. قلت إنها نسجت أساطيرها. والإنسان بعامة، يحب الأساطير ويتعلق بها.



(*) يقول وديع سعادة: "يقعد اسكندر حبش خارج الأضواء ويضيء على الآخرين" ويقول أيضًا "إسكندر حبش لا يكتب موته وحده بل يكتب موت العالم كله"... هل يحتاج الشاعر في أيامنا هذه إلى الوقوف على المسرح لينتبه له الآخرون لكثرة الأصوات حوله، وهل انتبه الآخرون إلى موتهم الذي يكتبه اسكندر حبش "من تحت التراب"؟
- أعتزّ بجملة الكبير وديع سعادة هذه، وهي أتت في سياق حديثه – كتقديم – لنصّي "لا شيء أكثر من هذا الثلج" الذي صدر عام 2014 (وهو آخر ما نشرته من نصوص شعرية). هو نص عن الموت، ومساءلة حول الكائن في عبوره الأثيري على هذه الأرض. أما من ناحية ثانية، ولكثرة الضجة التي يحدثها البعض، لم نعد ننتبه إلى الأساسي: الكتابة، تأخذنا الاستعراضات كثيرًا. لست هنا لأحاكم أحدًا، لا يعنيني ذلك. كل ما أهتم به هو النص الحقيقي الذي يملك قدرة على أسرنا. وكما أن الكتابة خيار، هناك أيضا خيار آخر: أن يبقى الكاتب بعيدًا عن هذا الحفل الصاخب وأن ينتبه إلى ما يفعله أكثر.   
 

(*) هل للمكان علاقة بالكتابة، وهل كان لتجربة تغيير الأمكنة التي مررت بها تأثير على شعرك وعلى إنتاجاتك كلها؟
- المكان ليس بقعة جغرافية فقط، بل بكل ما يحمله من تفاصيل أخرى إنسانية واجتماعية وثقافية... على الأقل أشعر بأنني لست عالم جغرافيا ولا أرسم خرائط، تعنيني أكثر خرائطية الإنسان الداخلية. مهما حاولنا، أن نهرب من أنفسنا، نحن أولاد بيئتنا. نأتي من سياق معين: تاريخي وثقافي واجتماعي... وكل هذه السياقات هي التي تحدّد المكان في النهاية وبالتالي تحدّد الكائن الذي نحن عليه.

الترجمة جزء مكمّل لمشروع الكتابة
(*) فرناندو بيسوا، أوكتافيو باث، أنطونيو تابوكي، عتيق رحيمي، وأسماء عديدة أحببتها فنقلتها إلى اللغة العربية بإخلاص تام، اشتغالك على ترجمة الأدب العالمي كيف بدأ، هل كان لها دورٌ في تكوين فضائك الشعري الخاص بك، ودورٌ أيضًا في الانقطاع عن كتابة الشعر حيث نلحظ صدور عدد من ترجماتك سنويًا بينما نجدك مقلًا في نشر الشعر، كما قلتَ يومًا "أنا مترجم فاشل" وربطت ذلك بأنك لا تترجم إلا ما تحب، هل الترجمة هي إلى هذا الحد حياة أخرى تعيشها وتمارسها في عزلتك كما هو الشعر؟
- يمكن لنا أن نتثاقف في الإجابة على هذا السؤال وأن نستدعي الكثير من الطروحات التي تحدّثت عن الترجمة وفلسفتها، لكن أفضل أن أبقى في حدود تجربتي الخاصة. بدأت الترجمة معي حين بدأت القراءة بلغة أجنبية، أقصد حين كنت أقع على كلمة لا أفهم معناها كنت أبحث عنها في قاموس يشرح الكلمة الأجنبية بالعربية. أضف إلى ذلك، أننا حين نقرأ أديبًا بلغته، ربما ومن دون وعي، نقرأه بلغتنا نحن، أي نحاول أن نضعه في سياقنا اللغوي والفكري. كل ذلك، قبل أن تتحوّل الترجمة إلى اشتغال أدبي آخر.

فالترجمة بالنسبة إليّ هي جزء مكمّل لمشروع الكتابة، لأن ترجمة أي كاتب، معناه أن نقرأه جيدًا. تتيح لنا الترجمة أن نقرأه فعلًا، أن نقرأه مثلما لا نفعل ذلك في حالات أخرى، لأنه علينا التوقف عند كل كلمة، وحتى أن ندخل في احتمالاتها المتعددة، وهذا ما لا يفعله القارئ العادي، في أغلب الأحيان، وربما أصلًا ليس عليه القيام بهذا الأمر. في أي حال، أول الذين ترجمتهم إلى العربية كان الشاعر الفرنسي بيير ريفردي، وكنت في العشرين من عمري حين عملت على بعض قصائده، ولم أنشرها إلا في مرحلة لاحقة، ولم أصدر مختارات من شعره إلا قبل خمس سنوات (عام 2015). أول كتاب ترجمته كانت رواية أنطونيو تابوكي "الأيام الثلاثة الأخيرة لفرناندو بيسوا – هذيان" وبعدها، اخترت كوكبة من الذين كنت أقرأهم وأحبهم لأنقلهم إلى اللغة العربية. كنت لا أختار إلا من أشعر أن عالمهم الكتابي يعني لي، من هنا قولي "أنا مترجم فاشل". ربما فقط في السنوات الثلاث الأخيرة، قبلت ترجمة ما اقترحه عليّ بعض الناشرين لأسباب اقتصادية. علمتني الترجمة الكثير، ولعل أهم شيء فيها، التفكير في كل كلمة. وربما مثلما تقولين سرقتني من الكتابة، كتابتي الخاصة، لكن لا يعني ذلك أنني توقفت عن الكتابة، إذ ستصدر لي مجموعة شعرية قريبًا.

وما دمتِ قد ذكرت بيسوا في بداية سؤالك، دعيني أقوم بلعبة صغيرة، كنوع من إجابة على سؤالك: من المعروف أن بيسوا كتب "بأسماء مستعارة" كثيرة. لكن كل اسم من هذه الأسماء كان يكمن داخله كاتب مختلف عن الآخر. أقصد أن شعر "برناردو سواريش" يختلف عن شعر "رييش"، وكتابات "ألبرتو كايرو" هي غيرها كتابات "بارون تيف". ربما ما فعلته أنا اختراع وجوه متعدّدة على طريقة بيسوا، لكن مع الإبقاء على اسم واحد لا يتغير: هناك وجه الكتابة الصحافية، هناك وجه الكتابة الشعرية، ووجه الترجمة، ووجه البحث والنقد... هي وجوه مختلفة لأنها تتطلب تقنيات مختلفة عن بعضها البعض، حاولت ذلك لكن بقيت كلها تحت اسم واحد: اسمي أنا. 

(*) قلت إنه ستصدر مجموعة شعرية قريبًا لك، ماذا سيكون عنوان المجموعة ومن أي دار ستصدر، ماذا يمكن أن تخبرنا عن نصوصك الجديدة؟
- "إقامة في غبار". هذا هو العنوان الذي اخترته. وسيصدر عن "دار خطوط للنشر والتوزيع" في الأردن. هي نصوص كتبتها في السنوات الأخيرة. وإذا جاز لي الشرح قليلًا، سأقول إن العنوان يأتي من اسم منطقة سكنت فيها لمدة سنتين، بعد أن غادرت بيروت وقبل أن أنتقل إلى مكان إقامتي الحالية. اسم هذه المنطقة "جب الغبرا". وقد يجيب كلامي هنا عن سؤالك حول علاقة المكان بالكتابة.




(*) في حوار سابق لك تقول: "أحب حاليًا المتنبي أكثر من إيف بونفوا، أميل الآن إلى القصائد الكلاسيكية وأصبح لديّ الكثير من علامات الاستفهام حول القصيدة الحديثة"، هل يمكن أن ينتقل الشاعر إسكندر حبش إلى القصيدة العمودية يومًا ما أو أن يهجر الشعر إلى الأبد؟
- في كلامي هذا هناك نقد للشعر وللكثير مما يكتب اليوم، وبخاصة على مواقع التواصل. أصبح بإمكان أي شخص أن يدّعي الكتابة وأن يحوز الإعجاب. في أي حال، لم أقصد أن يتوقفوا عن الكتابة، بل أن يحاولوا تقديم نص أفضل. أما مسألة المفاضلة التي وردت، فهي أيضا موقف، لنقل "موقفًا سياسيًا وحضاريًا وثقافيًا".. لِم علينا أن نهلّل دائمًا للآخر وأن نعتبره الأفضل وأن ننسحب أمامه؟ هناك شعراء وكتّاب بالعربية لا يمكن إلا أن ترفعي القبعة احترامًا لهم ولتجربتهم وهم يفوقون نظراءهم الغربيين بكثير. وهل إذا تحوّلت إلى كتابة قصيدة عمودية، معناه أنني سأهجر الشعر؟ أتمنى لو أستطيع كتابتها بحرفية عالية. تجاربي في هذا المجال، لم تتجاوز النظم بعد.   







(*) متى سيصير لوزاراتنا الثقافية ميزانيات مخصّصة لنقل الأدب العربي المتميز إلى لغات العالم، ألم يُظلم شعراء وكتّاب عديدون بسبب عدم ذكائهم الاجتماعي ربما أو عدم قدرتهم على التسويق الشعري لأنفسهم وبناء علاقات مع جهات أو دور نشر غربية؟ أم أنه حتى لو قُرّرت ميزانيات للترجمة فإن ثمة انتقائية ستحضر وسيتم اختيار الأعمال بناءً للعلاقات الشخصية مع الكاتب؟ ثمة يأس في مكان ما... ماذا تقول في ذلك؟

- أعتقد لكي تصبح عندنا أوطان أولًا، لا أعوّل كثيرًا على هكذا أمر. التجارب حاضرة. أحدهم يكون على علاقة مع جهة ثقافية ما، فلا يقترح إلا بعض أصدقائه. المهرجانات الشعرية أيضًا، أصبحت تملك لوائح جاهزة. لا أحد يريد البحث عن النص الفعلي. قلت مرة لأحد مسؤولي الدور الأجنبية لماذا لا تترجمون غالب هلسا مثلًا، أجابني: نفضّل الكتّاب الأحياء، ويقصد بذلك أنه يستطيع أن يدعى ويقيم بعض المحاضرات والندوات ليروّج لكتابه من أجل المبيع.

الكتابة والأنا..
(*) تمارس النقد للأعمال الروائية بأسلوب لا يحاكم العرض الخارجي بل يذهب في الداخل حيث تبيّن الأجزاء الدفينة للكاتب، هل هو شعور بلذة اكتشاف مسقط رأس الكاتب وذاكرته وهواجسه التي لا بد أن نشهد تأثيراتها في أعماله؟
- لا أميل كثيرًا وربما لا أميل بتاتًا إلى أنّه علينا قراءة النص بعيدًا عن صاحبه. نكتب لأننا نأتي من سياق تاريخي وثقافي و... و... معين، مثلما قلت قبل قليل. شرطنا الإنساني، بكل ما يحمله من تفاصيل، يلعب دورًا في الكتابة، ولا يمكن تجاهل هذا الدور. أتذكر هنا، جملة وردت لمحمود درويش، قالها في الفيلم الذي أنجزه عنه المخرج الفرنسي جان لوك غودار. يقول درويش "إننا لا نعرف شيئًا عن حرب طروادة إلا عبر ما كتبه المنتصرون. ولا أي طروادي كتب عن نفسه. لذلك أريد أن أكتب بلغة هذا المهزوم، الذي لم يستطع التعبير عن نفسه. أنا آخر شاعر طروادي". كل معنى الكتابة يكمن هنا، في جملة درويش هذه. هل يستطيع أن يبتعد الكاتب عن حياته وعن سياقه؟ أشك في ذلك.   

(*) في كتابك "حيوات ميتافيزيقية، حيوات تاريخية" الذي جمعت فيه قراءاتك لعدد من الروايات والكتب، تسرد حياة أو ظروف كل كاتب باختصار كتمهيد قبل المقالات، هل تجد أن قراءة بورتريه الكاتب قبل قراءه إنتاجاته قد يدفع القارئ إلى تلقي الكتب بحساسية أكثر وبعمق أكبر؟ ألا يدفعنا النص مباشرة إلى داخل الكاتب؟

- سأضيف إلى ما قلته في إجابتي السابقة بقصة وردت عند الكاتب الفرنسي آلان روب غرييه حين أصدر في أواخر سنوات حياته كتاب "المرآة التي تعود". يومها تفاجأ الجميع بأن منظر "الرواية الجديدة" والذي انشغل في كتابة المكان في جميع رواياته، والذي كان يعلن أن الروايات التي كتبها لا علاقة لها بحياته، تفاجأوا من إصداره شبه سيرة ذاتية، أي هناك مكانة أساسية للأنا في كتابه هذا. وحين سأله أحد الصحافيين عن هذا الاختلاف، قال له "لتنسوا كل ما نظّرت له، لم أفعل شيئًا في حياتي سوى كتابة نفسي". ربما هذا ما حاولت البحث عنه في كتابي "حيوات ميتافيزيقية، حيوات تاريخية": لا يمكن الفصل بين السياق الحياتي بكل تفاصيله وبين السياق الأدبي الكتابي، لا نكتب إلا أنفسنا في نهاية الأمر.

(*) يتساءل أوكتافيو باث في كتابه "أطفال الطين": "أهناك نقطة يندمج فيها مبدأ التغيير مع مبدأ الاستمرارية"، ولقد بحث الحداثيون عن مبدأ التغيير، فهل يدور الزمن على نفسه ونشهد انقلابات جذرية على قصيدة النثر؟
- أعتقد أن مشكلتنا الكبرى في عالمنا العربي أننا حاولنا تغيير شكل الكتابة، من دون أن نقوم بالفعل الأساسي: تغيير مجتمعاتنا، نمط تفكيرنا... لا تزال كتل من الأفكار الجامدة، تنطح رؤوسنا. الحداثة ليست شكلًا خارجيًا فقط، بل علينا أن نعيد تركيب هذه البنية من أساسها. في أي حال، هل تعرفين أن جزءًا كبيرًا من شباب الشعر في لبنان اليوم يكتبون القصيدة العمودية ولا علاقة لهم بقصيدة النثر؟

(*) في حديثك عن الروائي البرتغالي أنطونيو لوبو أنطونيش تقول: "الجميع كانوا ينتظرونه لنيل جائزة نوبل للآداب، بيد أن للأكاديمية رأيًا آخر، في أي حال ليست الجوائز من يصنع الكتاب فأنطونيش هو أحد أفضل كتّاب العالم"، كيف تنظر إلى الجوائز الأدبية عالميًا وعربيًا؟ هل يمكن أن يستيقظ العالم العربي ذات يوم على روائي أو شاعر عظيم بعد موته؟
- علينا أن نكتب للكتابة لكي نعبّر عن موقفنا من العالم، لا لنفكر بهذه الجائزة أو تلك. لكن للأسف هذا ما يحدث اليوم.

نكتب وفق معايير جاهزة ومطلوبة. حتى أن كثيرين منّا يكتبون وهم يفكرون كيف ستترجم أعمالهم إلى لغات أجنبية، أي يحاولون مراعاة كل الأطر لكي يُنقل هذا النص إلى لغة أخرى. التاريخ أنصف كافكا مثلًا وبيسوا وغيرهما الكثير. وهذا التاريخ أيضًا رمى في سلة مهملاته عديدين أيضًا، حتى من الذين حازوا نوبل. علينا أن نختار إما أن نكتب وإما أن ننتظر المكافآت المادية. 

(*) في خضم ما يعانيه لبنان وما تعانيه بعض الدول العربية، برأيك ماذا تعني الثقافة الآن، هل هي مجرد ترف فكري، ماذا نريد منها فعلًا؟
- الحياة برمتها – لا الثقافة فقط – أصبحت ترفًا في بعض دولنا. الثقافة لا تصنعها مؤسسات، بل أفراد كانوا دومًا خارج المؤسسة الرسمية. نمرّ في حالة من عدم التوازن، وفي جميع الصعد. لكن لا يعني هذا أن نستقيل من الفعل الثقافي. إنها ملاذنا الأخير.

(*) لا أستطيع أن أختم دون أن أسألك عن جريدة السفير، هذا المكان الذي كان لإغلاقه وجع وغياب حاد في دواخلنا، ولا يمكن أن نفصل إسكندر حبش عن جريدة السفير، كتبت فيها ثلاثة وثلاثين عامًا وكنت مسؤولًا عن الصفحة الثقافية فيها لفترة من الزمن، كيف أنت بعدها، ماذا تفعل من دونها الآن؟
- قلت في جوابي الأول، إني ولدت من هجرتين. ربما سأضيف بأن هجرة ثالثة حدثت. وقد يختصر ذلك كل شيء.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.