}

هاتف جنابي: نظرتنا لآداب العالم مستلة من إرث استعماري

عماد الدين موسى عماد الدين موسى 23 مايو 2020
حوارات هاتف جنابي: نظرتنا لآداب العالم مستلة من إرث استعماري
"العقل العربي مخترق بما يناقض الهوية والذات"
منح اتحاد الأدباء البولنديين في غرب بولندا وسامه هذا العام للشاعر والمترجم العراقي هاتف جنابي، وذلك "تثمينا لجهوده المهمة والمتميزة في حقل الترجمة الفنية" بحسب لجنة الجائزة.

جنابي، المولود في العراق سنة 1952، هو شاعر وكاتب ومترجم وباحث أكاديمي، وناشط ثقافي- إعلامي، يعمل محاضرا في كاتدرائية الدراسات العربية والإسلامية- جامعة وارسو منذ ثمانينيات القرن الماضي. وهو عضو في كل من اتحاد الأدباء العراقيين واتحاد الأدباء البولنديين (سابقا).
نشرت كتاباته وأشعاره وأبحاثه وترجماته في خيرة المجلات والصحف العربية والبولندية والأميركية. كما ورد ذكره في أكثر من عشرين موسوعة عالمية فكرية وشعرية، خصوصا باللغتين الإنكليزية والبولندية. ومن خلال ما كتب عنه ينظر إليه على أنه "شاعر وكاتب حديث متميز"، وهو المترجم الأكثر حضورا حاليا للأدب البولندي إلى اللغة العربية، وأحد ممثلي الثقافة العربية المهمين في أوروبا. ترجم ما لا يقل عن ستين مؤلفا بولنديا في مجالات الشعر والقصة والنقد والفكر، إضافة إلى بعض ترجماته من اللغة العربية إلى البولندية. صدرت له مختارات شعرية باللغات: العربية، البولندية، الفرنسية، والإنكليزية، وقد ترجمت له مؤخرًا مختارات شعرية ضخمة إلى اللغة الإنكليزية وستصدر خلال هذا العام في الولايات المتحدة الأميركية.
هنا حوار معه:



(*) حصلت مؤخرًا على جائزة اتحاد الأدباء البولنديين في غرب بولندا، حدّثنا عن هذه الجائزة؟
- حكاية الجوائز في كل زمان ومكان تخضع لأخذ ورد. إذا اتفقنا على أن الترجمة اجتهاد شخصي حالما يخرج من يدي صاحبه يتخذ صفة العمومية، فإن الجوائز يمكنها أيضا أن تكون مبادرة فردية يجري تعميمها على باقي أعضاء اللجنة فإما القبول أو الرفض. شخصيا أراها محفزة ومنشطة للأجواء بشرط اتسامها بالمعايير الأخلاقية والإبداعية. وبما أن معظم الجوائز التي نلتها أثناء مسيرتي الأدبية- الثقافية- الأكاديمية معنوية فهي مفرحة ومشجعة لي كي أواصل عملي ضمن أجواء من الاهتمام والترقب لما أقوم به. شخص مثلي يقضي معظم وقته في البيت (بيتوتي) والمكتبة: قارئا، متأملا، باحثا، كاتبا ومترجما، أحيانا يلبي بعض الدعوات كي ينسلّ من عزلته بغرض رفد مشروعه الإبداعي بتهوية العقل والمخيلة والمعرفة وتنشيط العضلات. أقول هكذا شخص يشعر بالغبطة عندما يتذكره النقاد والقراء والناشرون والإعلاميون وطبعا ممن لهم دور في تكريم المبدعين. في هذا الإطار والفهم تأتي جائزة (ألفريد كوفالكوفسكي، 1914-1983) البولندية التي يمنحها اتحاد الأدباء في غرب بولندا وهي ذات طابع احتفائي، تقديري ارتأت لجنة التحكيم المؤلفة من أدباء ونقاد ومترجمين ضرورة منحها لي لسنة 2020. كان ألفريد كوفالكوفسكي شاعرا، أديبا، ناشطا ثقافيا ومترجما، و(كافكا) من بين أهم الكتاب الذين ترجم لهم. وهذه الجائزة مخصصة لتكريم الجهود المتميزة في مجال الترجمة الأدبية الفنية لمن يقدم خدمات مرموقة في هذا المجال فيما بين ثقافتين ولغتين على الأقل.


(*) ماذا تعني لك هذه الجائزة، وماذا عن جوائز سابقة حصلت عليها؟
- هذه الجائزة واحدة من بين جوائز وميداليات ودبلومات عديدة (ومن بينها جائزة الترجمة التي تمنحها جمعية الكتاب والمؤلفين الموسيقيين للمسرح في بولندا) التي نلتها سنة 2003. عمليا لم أتكلم عن أغلبها لاعتقادي بأن نشر هكذا أخبار يقع على عاتق الإعلاميين ناسيا أن بولندا تقع في فضاء بعيد عن حركة الجوائز والنشر العربية. أذكر من بين تلك الجوائز: أربع منح من وزارة الثقافة البولندية وجائزة محافظة وارسو، وجائزة الشعر الأولى المترجم إلى الإنكليزية (1995) التي تمنحها جامعة أركنساس الأميركية، وميدالية هومر الأوروبية للشعر والفن ومقرها في بروكسل، بالإضافة إلى جوائز عديدة شعرية وأدبية، ودبلومات تقديرية من جامعة وارسو أيضا. وأنا مرشح منذ سنوات لجائزة معهد الكتاب البولندي وهي أكبر جائزة في مجال الترجمة.

نظرتي واحدة إليها جميعا وتنحصر في مجال التشجيع والدعم المعنوي والغبطة الداخلية التي تولدها خاصة حينما يكون المرء خارج جغرافيا البلد الأم. على أن فرحي بها جميعا يأخذ طابع تذكر ما عانيته في حياتي من تشرد وملاحقة وجوع وعزلة، وما تعرضتُ وأتعرض له من كوابح وتجاهل من قبل المؤسسات العربية التي لا تدرك حجم ما نقوم به نحن خارج البلدان العربية وما نقدمه لها من خدمات تطوعية ثقافية، معرفية، ترويجية. تخيلوا كيف ستكون عليه صورة العرب والمنطقة بدون حضور هذه النخبة المبدعة المجهولة الناشطة في بلدان المهجر! هذا التقدير يعني أن حصار الشاعر والكاتب والمثقف لا يمكنه أن يستمر إلى الأبد. شخصيا، لا أفرّق مطلقا بين إثنية وأخرى داخل البلدان العربية، فالكل سواسية بالنسبة لي "كأسنان المشط" كما عبّرتُ عن ذلك في العام 1970 في قصيدة لي ألقيتها في قاعة ساطع الحصري- جامعة بغداد. كانت بمثابة بيان – إنساني فكري التزمتُ به.
على مدى نصف قرن من نشاطي الأدبي- الثقافي- الفكري، الأكاديمي وفي حقل الترجمة، منحتُ ما لا يقل عن (16) جائزة وميدالية ومنح تقديرية لما قمت به. في الحقيقة لم تعدْ لها اليومَ بالنسبة لي أهمية تذكر نظرا لأنني لا أتطلع للوراء أبدا. الجوائز تجيء ثم تنقل إلى أرشيف صاحبها لا غير. هناك جوائز كبرى عالمية تبقى تلاحق أصحابها فإما الخضوع لسطوتها وإما تجاهلها من أجل مواصلة الزحف الإبداعي وتسجيل أرقام جديدة في ماراثون الحياة. أقول لنفسي: تذوّق طعمَ اللحظة العابرة وأسّسْ للحظات يمكن أن تبقى ماثلة.


العرب والترجمة عن البولندية
(*) ترجمت كثيرًا عن البولندية، لكن لاحظت أن لك شغفا كبيرا بالشاعرة فيسوافا شيمبورسكا، لماذا تحديدًا؟
- فيسوافا شيمبورسكا لم تكن أول من ترجمت له من الشعراء والكتاب البولنديين حصرا. فهي ضمن مجموعة من الشعراء البولنديين الذين ترجمت لكل منهم عددا من القصائد نشرتْ تباعا في مجلات وصحف عربية مختلفة منذ أواخر سبعينيات القرن العشرين وبعضها توسع وصدر في هيئة كتاب. منذ مطلع الثمانينيات من القرن المنصرم وعبر ثلاثة عقود كانت عندي مشكلة تواصل مع الناشرين في المنطقة العربية، يبدو أنهم منشغلون بآداب أخرى أغلبها غربية. للعربي نظرة حول آداب شعوب العالم مستلة من الإرث الاستعماري. العقل العربي مستَعْمَرٌ، مخترق بما يناقض الهوية والذات.

ومن هنا فاللغة والبلد عاملان مؤثران في اختيار الكتاب والكاتب والمترجم والعلاقات والمؤسسات والأشخاص عموما. القضية الغائبة عن المؤسسات العربية وسواها هي أن معظم كتاب أوروبا وأميركا المهمين كانوا يبحثون دائما عن بواعث ومصادر إلهام خارج بيئاتهم. ضمن تلكم الأجواء غير السوية برز صوت الشاعرة شيمبورسكا (نوبل 1996) وقبلها تشيسواف ميووش (نوبل 1980)، وتادئوش روزيفيتش وزبيغنيف هربرت، وآخرون ومن بينهم مؤخرا الروائية أولغا توكارتشوك (نوبل 2018). نعود إلى شيمبورسكا. صعقت الأوساط العربية وسواها بفوز شيمبورسكا بجائزة نوبل للأدب لأنهم لم يسمعوا بها من قبل ولأنها من بلد لا يزال أدبه مجهولا لقراء العربية. شيمبورسكا شاعرة متميزة ومهمة وهي ضمن مجموعة شعراء وكتاب حائزين على جائزة نوبل، سبقها فيها الشاعر ميووش، ومن قبله ثلاثة كتاب بولنديين آخرين. جائزة نوبل وسقوط النظام الاشتراكي في بولندا بفعل زخم احتجاجات حركة التضامن، واهتمام الغرب نفسه ببولندا وثقافتها، وما قمنا به وأمثالنا من تعريف هنا وهناك، ساعد في لفت انتباه الأوساط الأدبية- الثقافية في البلدان العربية إلى بولندا وشيمبورسكا التي صادف أن نشرت أشعارها دار المدى بطبعتين بعد فوزها بجائزة نوبل، كانت الثانية منقحة ومزيدة وأكثر دقة لأسباب خارجة عن نطاق المترجم. ملخص الكلام، لم أترجم لأحد لم يعجبني نتاجه. كسرتُ هذه القاعدة الذهبية خمس مرات في حياتي. كنت شخصيا على حافة الجوع والمجهول من جهة، بيد أنني أردتُ مساعدة عائلتي أثناء فترة الحصار الجائر في العراق في التسعينيات من جهة أخرى، فقبلت بترجمة مواد وكتب لا تعجبني بالضرورة واشترطت عدم ذكر اسمي.


(*) هل هناك مشاريع ترجمة أخرى جديدة؟
- الترجمة عمل نبيل نافع جدا فيه من الإبداع والإيثار الكثير. لا وجود لي فكريا وحياتيا بدون مشاريع أعمل عليها. مشروعي ثلاثي الأبعاد في أقل تقدير: الشعر والقصة، النقد- الدراسات، والترجمة. فيما يخص الترجمة، نعم ستصدر لي مختارات شعرية للشاعر آدم زاغايَفسْكي الذي كان مرشحا قويا لجائزة نوبل قبل التقاطها من قبل مواطنته الروائية (أولغا توكارتشوك)؛ وأنطولوجيا الشعر البولندي في ستة قرون لـ(65) شاعرة وشاعرا؛ ورواية (سولاريس) للكاتب المهم جدا (ستانيسواف لَمْ)؛ وكتاب نقدي- فكري لزبيغنيف هربرت؛ ورواية للروائي البولندي المهم (فيسْواف ميشليفسكي)؛ وأعمال الكاتب (برونو شولتز). هذا على المدى الزمني المنظور. بعد صدورها ستعرفون عنها وعما سيليها، ومتى وأين.

(*) ترجمت ما لا يقل عن ستين مؤلفًا بولنديًا في مجالات الشعر والقصة والنقد والفكر، أين تجد نفسك أكثر؟
- أجد نفسي في الشعر، في لغته، إشراقه، استشرافه، أسراره وألغازه، جنونه وطقوسه، سبره لما هو غير منظور، وهجائه للواقع وكسره للقواعد المتعارفة (شعرا، لغة، شكلا، فكرا وتقاليد)، في هذه الشعلة الأبدية التي كلما قدحها الشاعرُ فتحتْ فاهَها مطالبة بالمزيد. الشعر سيد الفنون. هذا هو ما أنوي الموت بين أحضانه ولأجله. لولا الشعر لهلكتُ ولما كان هاتف هاتفا الذي تعرفونه الآن.

(*) كيف تلقى القارئ العربي صدور هذه الترجمات؟
- القارئ العربي ذكي، حساس ويبحث خلافا للمؤسسات الرسمية عن المفيد الممتع والجديد والأصيل. يمتلك حسا وذائقة غير عادية، لكن دائرة المهتمين بالقراءة ضيقة لأسباب كثيرة. أعوّل كثيرا على الجيل الجديد والأحدث. عادة لا يقدم الناشرون العرب جردا بمبيعاتهم للملأ. لا توجد لدي استبيانات ولا معلومات عن مستوى تلقّي ما نشرته لكن يتراءى لي من خلال ما أسمعه وينقل لي من هنا وهناك أن احتراما ما تحظى به على الأقل ترجماتي. وآخر ما وصلني من أخبار هو وجود المختارات الشعرية والنثرية لزبيغنيف هربرت ضمن عشرة عناوين هي الأكثر مبيعا في معرض الشارقة الدولي للكتاب أواخر 2019 رغم أن الكتاب يحمل تاريخ 2020.

(*) أما من تأثير للشعر البولندي على الشعر العربي، وخصوصًا شِعر شيمبورسكا؟
- من الصعب قول ذلك، والأكثر صعوبة هو نفي هذا التأثير. بعد نشر ما ترجمته لها، يكفي متابعة الأشعار المكتوبة بالعربية عن الحرب والمرأة والحرية والتمعن في أسلوبها كي يحكم القارئ الحصيف بنفسه عن وجود هكذا تأثير أو عدمه. تأثير الشعراء لا يحدث بصورة تعسفية، مباشرة، بل قد تسرق فكرة، ويجري التلصص على بنية القصيدة وأجوائها. يحدث التأثير السريع الجلي فقط في النتاج الشعري الهزيل. بيد أن ذلك لا يمنعني من القول إن التأثر والتأثير في الشعر العالمي وبين الكتاب أمر طبيعي فيما لو ظل في حدود الإلهام والباعث وليس الاستنساخ والسرقة.


(*) هل هناك اهتمام بترجمة الشِعر البولندي إلى اللغات العالميّة الحيّة، على غرار شِعر الدول الأخرى/ المجاورة؟
- يحظى الشعر البولندي باهتمام متصاعد من قبل المترجمين الأجانب وحتى من البولنديين المتمكنين من أكثر من لغة. تعود أسبابه إلى بواعث مختلفة ومتنوعة. لعل من بينها دور بولندا الهائل في تغيير وجه وسط وشرق أوروبا سياسيا في أواخر الثمانينيات من القرن العشرين، ونظرا لديناميكية الشعر البولندي وتعدد رؤاه وأساليبه، ولفوز نخبة من الشعراء البولنديين بجوائز عالمية مهمة وفي مقدمتها جائزة نوبل. هناك أيضا عاملان آخران وأكثر نشير إلى اثنين منهما ألا وهما، تنامي أهمية الثقافة البولندية في أوروبا منذ قرن على أقل تقدير، ودعم مؤسسات بولندية معروفة لترجمة الأدب البولندي إلى اللغات العالمية والتعريف به. في ظل المعطيات الآنفة الذكر يمكننا الإجابة على سؤالكم بنعم.

الرحيل مسبار لكشف الذات
(*) شاركت في العديد من المؤتمرات والمهرجات والندوات الأدبية والثقافية والأكاديمية، في أوروبا وأميركا والبلدان العربية، والنيبال؛ السفر والاحتكاك المباشر مع الجمهور وكذلك الكُتّاب الآخرين ماذا أضاف لتجربتك؟
- أتذكر بيتين مهمين في هذا المقام للإمام الشافعي يوجزان قسطا من إجابتي على سؤالك المهم رغم تردده:

تَغَرَّبْ عن الأوطان في طلب العُلَى/ وسافرْ ففي الأسفار خمسُ فوائدِ

تَفَرُّجُ همٍّ، واكتسابُ مَعيشةٍ / وعلمٌ وآدابٌ وصُحبةُ ماجدِ

كل مشاركة هي حوار مع الذات والآخر، مع المكان والعادات والتقاليد. الرحيل مسبار لكشف الذات وقدرتها على التعامل مع المفاجئات وهو بهذا المعنى وضع النفس على المحك. كل رِحْلة تزيدني معرفةً وتجربةً وحيوية، إنها تقدح مخيلتي. سفر من هذا القبيل يمدّني بعلاقات جديدة، وسعة نظر، ومقارنات، أوظفها جميعا لتعزيز مكانتي وهويتي وثقافتي. الشعر أعانني في أن تكون لغتي التي أكتب فيها حاضرةً مسموعة بإيقاعها ونبرها في فضاءات لا تعرفها أحيانا. والمشاركة في المؤتمرات جعلت الآخرين ممن لهم نظرات مسبقة يراجعون أنفسهم. المقارنة بينك والآخرين تسهّل عليك تقييم نفسك، وامتحان معرفتك بالآخر. يقول الكاتب الإنكليزي (ألدوس هكسلي): (السفر هو اكتشاف أن الجميع مخطئون في رأيهم عن الشعوب الأخرى). مشاركتي لم تكن دائما خالية من المنغصات والتحديات ولم تنجُ من مواقف البعض السلبية المسبقة عن ثقافتي الأصلية التي تنعكس على مستوى التعامل معي أحيانا وفقا لذلك خارج معايير الاستحقاق والموضوعية. لم يمنعني ذلك من مواصلة سفري وفي النهاية من تغيير آراء الآخرين إلى ردود فعل إيجابية. للسفر أيضا فوائد جمة في التخفيف من وطأة ظاهرة ضيق الأفق التي عبّر عنها ذات يوم الكاتب الأميركي (مارك توين) بمقولة ذات دلالة: "السفرُ يقهر التحيّز والتعصبَ وضيق الأفق".



راهن الشعر العراقي
(*) كيف تنظر إلى راهن الشعر العراقي، هل ثمّة تجارب جديدة مميّزة تستحق العناية؟
- العراق زاخر بكل شيء والشعر في المقدمة حتى في ظل تصاعد مكانة الرواية في العشرين سنة الأخيرة. من العراق خرجت جحافل شعراء العربية المهمين، وفيه ولدتْ حركة تجديد الشعر العربي القديم والحديث. هناك عديد من التجارب الجميلة التي غطت عليها مشاكل وأحداث العراق.

لو فصّلنا أكثر في هذا المجال، لقلنا ملخصين خارطة الشعر العراقي على الوجه التالي: شعر ولد وترعرع قبل العام 2003 وهو على ضفتين: الأولى من بقوا في العراق وأسماء معظمهم معروفة، وثمة من أضطر لاختيار الضفة الثانية المتمثلة بالمنفى وأسماء معظمهم معروفة أيضا. وهناك من لامس اسمُه النورَ ممن ولدوا في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي وحتى في العشرية الأولى من هذا القرن وهم يتشكلون في ظل ظروف قاهرة معيشية واجتماعية وسياسية وثقافية. هذا الجيل المتقد المتوثب الباحث عن الذات وعن أشكال تعبير أدبية- فنية تخصه ينشط رغم المآسي. لم تسمح لهم ظروف العراق بالظهور أكثر جرّاء تنمر أحزاب الإسلام السياسي والفساد في مفاصل الدولة العراقية ومشاكل خطيرة أخرى نجمت عن بروز ظاهرة داعش الإرهابية، لكن قسما منهم صار معروفا على ما أعتقد بفضل مواقع التواصل الاجتماعي ومواقع النشر الإلكترونية. ختاما أقول: نعم، هناك أسماء بالعشرات بل المئات تبدع شعرا ورواية وفنونا تشكيلية وحتى على الصعيد الأكاديمي. ما يحدث في أوساط الشباب في العراق اليوم لم نشهد له مثيلا في الماضي، وعلى هذا الجيل الساعي للقطيعة مع من سبقه من التقليديين والمحافظين أعوّل شخصيا.

(*) للمكان حضور جليّ في تجربتك الإبداعيّة، حدّثنا عن ذلك؟

- أشتبك مع الريح كيلا أختنق. للمكان حضور كالهواء في تجربتي الشعرية والأدبية- الثقافية. لا يوجد مكان في العراق أنتمي إليه مائة بالمائة. ولذا فانتمائي للعراق كامل بلا استقطاع. حياتي العراقية قسّمها المصيرُ على مراحل: الطفولة (11 سنة) في القرية، السادس الابتدائية والمتوسطة والإعدادية (6 سنوات) في مدينة النجف، (4 سنوات) في جامعة بغداد، (سنة واحدة) في الزبير (البصرة) حيث كنت جنديا بعد الجامعة، (3 سنوات) في كركوك. كل هذه الأماكن أثّرت عليَّ بقدر ما بخصوصيتها المتفردة. على أن فترة الطفولة الأولى بقيت أكثرها براءة ووقعا في شعري أعود إليها لألتمس الأمان والصدق والخضرة والماء والعلاقة الوشيجة مع الطبيعة والفضاء اللامحدود وبفضلها نشأ ولعي بأساطير النماء والخصب، بالنجوم والكواكب والسماء والغيب. من المدن جنيتُ المرارة والحرمان والمعاناة ولكن أيضا التعرف على الوسطين الأدبي والأكاديمي وللمدينة الفضل في تفجير طاقاتي الكامنة وتكوين معرفتي. دخلتْ إيقاعاتُ المدن كل حسب خصوصيتها إلى جانب إيقاعات الريف. فمن النجف تسرّب إلى داخلي وقعُ الطبول والطقوس والشعائر، ونفعتني كثرة مكتباتها. لكنني اكتشفت في نسيجها تناقضات المجتمع الذي يقول لك شيئا ويخفي أشياء كثيرة الأمر الذي زرع في نفسي شعورا أوليا بالحذر والاغتراب. كنتُ في تلك الفترة من عمري أحس بأن المرء يعيش على الحافة في كل شيء: على حافة الصحراء، على حافة الإيمان ونقيضه، العادات والتقاليد ومحاولات كسرها بقوة، على حافة الحياة والموت. بسبب مقبرتها الهائلة وتقاطر الموتى اليومي بأعداد غير منقطعة كنت أحس بعبثية الحياة وشرهِ الموت...





لبغداد قسط مهم في تشكّل حياتي الأدبية ومعالم تمردي والتعريف ببداياتي الشعرية نظرا لأنها العاصمة في كل شيء. رغم قصر إقامتي فيها إلا أنها حفرتْ مجرى لها في كياني، لما لها من سحر تاريخي وحركة ثرية أدبية- ثقافية- أكاديمية ونظرا لتعدديتها على كافة الأصعدة وكبر حجمها. كانت جامعة بغداد مفتاحا للولوج إلى عالم الأدب والحياة المهنية فيما بعد. فيها كان الحب الأول البريء الفاشل. ومن أحيائها الشعبية في راغبة خاتون، وفي الكرخ التي سكنت فيها في ظروف بائسة انطلقتُ، وفي أحيائها الميسورة الجميلة كالأعظمية والحارثية والوزيرية حلمتُ. المدينة الحاضرة أيضا في عالمي الشعري ولها مكانة مرموقة هي كركوك بتعدد ألوانها وتضاريسها وتنوع نسيجها الاجتماعي والإثني واللغوي بالطبع. كركوك عزّزتْ النزعة الإنسانية في داخلي ورفدت مبدأ التسامح لديّ، وأعطتني بحكم عملي في التدريس استقلالية مادية لأول مرة في حياتي.. في هذه المدينة ولأول مرة في حياتي ألفيتُ نفسي على تماس مع النشاط السياسي المعارض. بعد تلك الأماكن تأتي وارسو المغايرة في كل شيء عمّا ألفته من قبل. وارسو تمثل القطيعة المفروضة مع الماضي، المكان المختلف، اللغة والثقافة المختلفتين النابضتين حياةً. وارسو عرفتني على طبيعة المدينة العصرية المحتفظة بإرثها. وارسو هي المكان الأول الوحيد في حياتي التي سمحت لخيوط الأحلام أن تنسج الواقع والعكس. سمحتْ لي لأول مرة في حياتي أن أجسد ما أحب وألبس ما أرغب. للمكان الوارسوي ثقل في حياتي الإبداعية والأكاديمية تحول بمرور الوقت إلى جسر للتواصل الثقافي مع ثقافات وشخصيات من مختلف اللغات والقارات. لي ذاكرة بصرية تسجل ما تراه ولي مخيلة تجسد ما لم أره فتقدمه في شريط تحتفظ به الذاكرة. ما هو جدير بالتنويه هو أن لكل مكان ذاكرة وعبقا وإيقاعات تسربتْ إلى شعري وكياني وثقافتي وطبيعة رؤيتي للعالم. ثمة أماكن أخرى أثرت في كتاباتي ووجداني لعل من بين أهمها الجزائر؛ تيزي – وزّو؛ بلومنغتن في ولاية إنديانا الأميركية؛ وبرمنغهام في إنكلترا. للأمكنة في حياتي أهمية خاصة، بعضها حقيقي كما أسلفتُ والآخر من نسج الخيال.

(*) لمن تقرأ، حاليًا، وهل من إصدارات جديدة لديك؟
- أقرأ كالعادة الشعر والرواية ومذكرات الكتاب والفنانين، وفي الفلسفة والتصوف والميثولوجيا، ومقالات متميزة في حقلي الطب والفضاء. أستمع كثيرا إلى الموسيقى. أما العمل فثمة ومضة كتبتها قبل أكثر من ثلاثين سنة حاضرة في حياتي: يموت الإنسانُ لأنه عاطلٌ عن العمل/ ويولدُ كيلا يموت من الضجر.
أعمل على جبهات متعددة في آن واحد ولهذا ترى أحيانا ما يمكن أن يخرج إلى النور: كتابا، مقالة ترجمة، حوارا يظهر في أوقات متقاربة، أو متباعدة وحالما أدخل في مشروع آخر تراني أختفي قليلا حتى أنجزه وهكذا. بناء على ذلك لا يمكنني النوم بدون مشروع أعمل عليه أو آخر أفكر في تحقيقه. قبل أن ألوذ بالفراش أفكر مليا: كيف قضيتُ يومي؟ يبدو لي أنني من بين أكثر الأشخاص نقدا للذات، وتقبلا للنقد البنّاء. كلنا بحاجة ماسة للعين الثالثة بشقيها الداخلي والخارجي. هذا المفهوم الباطني الذهبي في الميتافيزيقا الهندية التي تراها بوابةً تقود إلى وقائع وحقائق أخرى لا تراها العين العادية، وهي فضاءٌ لأعلى مراتب الوعي.

 # فيديو قصائد هناك من الَّذين لـلشاعرة  فيسوافا شمبورسكا ترجمة: هاتف الجنابي.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.