}

بريد السماء الافتراضي.. حوار مع الشاعرة الروسية زينايدا غيبيوس

أسعد الجبوري أسعد الجبوري 30 يونيو 2020
حوارات بريد السماء الافتراضي.. حوار مع الشاعرة الروسية زينايدا غيبيوس
الشاعرة الروسية زينايدا غيبيوس (1869 - 1945)

قبل حلول موعدنا معها بساعات، أخبرنا كبير حراس مدافن الأرض بأن المرأة التي تبحثون عنها رفضت الانضمام للموتى في المقبرة، لأنها أرادت الصعود إلى السموات بشكل مباشر، من دون أن تمنح شيئًا من جسدها للتراب.
سمعنا ذلك عن الشاعرة الروسية، زينايدا غيبيوس، وكنا في منتهى الغبطة لجرأة الموقف، وشجاعة شاعرة أرادت تحصين لحمها من انتهاكات الديدان، وتوابعها من حشرات التراب وقوارضها، والبقية الباقية من قائمة الزواحف.
ما إن توقف محرك المركبةُ الفضائية الشبيهة بالحوت الأبيض، وبدأنا بالهبوط على سطح (مجمع ساحرات الأبعاد الثلاثة) في السماء الثانية، حتى وجدنا زينايدا في انتظارنا.
كانت واقفة، وعلى كتفها الأيسر ينتصبُ طائر (البورغ) الشبيه بطيور الغُرانق المائية الطويلة البيضاء المنتمية لفصيلة الكراكي.
صافحتنا المرأةُ بحرارة، وهي تفوح بعطر سحري غريب، فيما كانت ترتدي فستانًا حريريًا أبيض، استطاع أن يُبرز جمالها الفاتن الأخاذ. وما هي إلا لحظات حتى تقدمت منا مجموعة غلمان وهم يحملون كؤوسًا. سرعان ما وُضعت على طاولة مغطاة بالديباج المُسمى بالاستبرق، إلى جانب أطعمة وفواكه غريبة الأشكال.
كنا نتفحص وجوه بعضنا، وما هي إلا لحظة حتى سطع فوقنا ضوءٌ أزرق، ليُضاء ذلك المكان، ومن ثم لتنشق تحت أقدامنا الأرض، فنسقط متهاوين في قَصْعَة ضخمة إلى السماء الأولى، معتقدين بأننا وقعنا بين أصابع ضخمة لمخلوقات غريبة كأنها جوقة شياطين حضرت لتشهد على الحوار.
أصبنا بالذهول مما حدث، إلا أن الشاعرة زينايدا سرعان ما هدأت من روعنا قائلة: هذا من الزلازل التي عادة ما يُصاب بها الشعراء والشاعرات هنا. لذا، فما عليك إلا أن تأخذ هذه الكبسولة المليئة بالهَيُولَى، لتهدأ. بعدها سنقوم بإجراء الحوار على الفور.
فعلنا ذلك، وشعرنا بسحر تلك المادة التي صنع الله منها أجزاء العالم الماديّة.
التفتنا إلى الشاعرة وقلنا لها سائلين:

(*) قبل الشعر، ما الذي كان يشغل جسدكِ كامرأة؟
الفراغُ.

 

(*) وبعد الشعر، هل امتلأت خزائنُك؟
نعم. وأصبحت أبحث عمن ينقذني من الفيضانات التي بدأت تجتاحني باطنيًا.

 

(*) ألا تعتقدين بأن جمالكِ قد يعوضك عن ذلك الفراغ؟
لا أعتقد بأن شيئًا يمكن أن يعوض عن الشعر، لأنه سيدُ فنون الأجساد والأرواح معًا.

 

(*) وإذا ما سألناك عن الجمالِ، وما إذا كان خادمًا للشعر، أم العكس هو الصحيح، فماذا تقول  زينايدا؟
الشعر، كما أدركُ، هو المحركُ العام للجماليات، كما أنه صانعنا في وجودنا الإنساني على أقل تقدير.

 

(*) ما الفرق ما بين جماليات اللغة، وبين جمال الأجساد؟
جمال المعنى الذي يصفُ العالم شعريًا، بينما يفشلُ في وصف نفسه كجسدٍ، يفيض بطاقة الجمال.

 

(*) هل الجمالُ محرارٌ يتمدّد زئبقهُ بحرارة الشهوة، وينكسرُ بالصقيع؟
أجل. الجمالُ الباردُ مسوّدةُ بانيو مليء بقطع من الثلج.

 

(*) هل كانت زينايدا تمارسُ اليوغا بقوة جمالها، أم تثويرًا للجنس؟
لا أحب رياضة اليوغا، ولا دروسها البطيئة في التأمل. أنا مع الاجتياح الذي يوفر للجسد الحرارة الكافية لإشعال اللمبة الحمراء في مناطق الخصب السريّة منها والمُعلنة.

 

(*) هل كنت تصنعين الحب للشعر، ليكتمل المشهد الشهواني في النصّ؟
الشعرُ يحتاج للعُرْي، مثله مثل الجمال.

 

(*) وما دافعُ ذلك في رأي زينايدا؟
ليس من دوافع أو أسباب غير إظهار النار قدحًا من المناطق الصامتة التي لم تتعرض

للاحتكاك في ما مضى.

 

(*) وهل العُريّ هو الاحتكاكُ الوحيدُ الذي يولّد نيرانًا حسبما تعتقدين؟
أجل. فالعُري أشدّ أنواع الاحتكاك جسديًا ومعنويًا، فما إن تتعرى الكلمةُ من ضوابط القواميس والمعاجم، حتى تبلغَ لغةَ الحرائق.

 

(*) إذا كنت صاحبة حرائق، فما الذي تصنعينه بتلك النيران؟
ليس من شيء سوى أن أفتح لها طريق الأوتوستراد نحو الغابات التي طالما تم لي تخزينها في أعماقي.

زينايدا غيبيوس (godliteratury.ru)

(*) لمَ تحرصين على التَبْجيل بخصوصيات جسدك وخزائنه؟
لأنه جدير بذلك. وحسنًا فعلتُ. فأنا لم أبجل مقاطعة صحراوية، أو جبلًا تغطيه الثلوج في  الفصول الأربعة من وجودنا الأرضي هناك.

 

(*) ولكنكِ خُنْت جسدك ككيان، عندما استعملت اسمًا مستعارًا هو  (أنطوان كرايني)، لتمارسي تحت ظلالهِ الكتابة كناقد أدبي في روسيا؟
كان ذلك من أجل تهشيم رؤوس كبار الشعر والأدب والمسرح، فقد كنت أحتفل بأعمال الكتّاب في داخلي، إلا أنني سرعان ما أستنفر قواي لمحاكمات نصوصهم.

 

(*) هل كنت أستاذةً بالدسائس الأدبية؟ وما مدى صحة ذلك؟
لا أعترف بذلك، ولا أنفيه. فإنما الآداب جزء من التآمر على اللغة، وعلى القارئ، وعلى الفصوص الذهنية، التي تحتفظُ بشيفرات النصوص الموجودة على طاولة التشريح.

 

(*) وهل تشريحُ النصّ ضرورةٌ، أم واجبٌ؟
لا هذا، ولا ذاك. فالنقدُ الذي استعملتهُ هو تشريح نقدي ينغمسُ في الكلّيات التي يتألف منها

النصّ، وأين يصبّ.

 

(*) أيصحُ لسيدةِ صالونٍ أن تقوم بأعمال التشريح؟!
ولكنني لم أقم بتشريح جثث. كنت أحاول سدّ ثغرات التأليف بالإسمنت الفلسفي فقط.

 

(*) ماذا تعني لك الفلسفةُ؟
حوضُ سباحة بماء أسود.

 

(*) خوفًا من موادها الشاقة الكثيرة، أم لأنها مُتعِبة؟
ما من كائن يعيش في داخلي ولا يرغب في الطيران من تحت جلدي نحو الفضاءات التي هندست منازل الغيب والشعر والشغف والجنون.

 

(*) الشغفُ كنافذة بلا ستائر يا زينايدا، أم هو شيء آخر؟!
تمامًا. إنه الشغفُ الممنوع من الحُجب والأسوار والأسقف والستائر. الطائر اللامرئي الذي يهجرُ السريرَ، ويطاردُ من يحب طيرانًا فوق الرؤوس المليئة بالخصب وبالمتاعب وبالهجران وبالقصائد التي لا يتوقف دمها عن الجريان في أوردة الزمن، أو في مثلث برمودا البيولوجي عند المرأة.

(*) كنتِ فريدةً في علاقاتك الغرامية. هل كان ذلك بدافع زيادة الدعم للقصائد على سبيل المثال، أم ثمة أمرٌ آخر؟
كنت أفكرُ على الدوام بنقل حرارة جسدي إلى جسم القصيدة، وقد تم لي ذلك عندما استطعت إذابة الثلوج عن اللغة التي كنت أكتب بها.

(*) هل كانت رؤيتك للثلج كدلالة على الموت؟
كنت أدرك معنى بياض الثلج على الطبيعة جيدًا، ولكنني أستشيطُ غضبًا من رؤيته على أسطح القصائد.

(*) كأن الثلج وحدهُ من يثيرُ الرعب في رأسك؟!
لا، أبدًا. هنالك أشياء ومخلوقات أخرى تثيرُ الرعب في نفسي، والخوفَ في قلبي.

 

(*) ساعاتُ الزمن المُهرول. ساعاتُ الحرمان البارد. ساعات الفراغ الوجودي المُغلّف بفلسفة التقصير. هل يمكن للشعر المراهنة على الفلسفة من أجل تحديث دمه في عروق اللغة، كما تعتقدين؟
لا يمكن الاتكال على الفلاسفة لضمان وجود نصوص شعرية مُشرقة في الفضاء الواسع للغة. قد تدعمُ الفلسفة الأفكارَ، ولكنها تخنق التصوير.

 

(*) تطمرُ أعينَ الكاميرات الموجودة بوجه الشاعر، تقصدين.
تمامًا. وتشكِّلُ قطيعة ما بين الصورة والفكرة في معامل المخيّلة.

(*) ولكن شعرك يتمتعُ ببعض الأبعاد الفلسفية، فلماذا تحاولين مكافحة الفلسفة في الشعر؟
سأقول لك شيئًا: الفلسفةُ دارُ تربية للعقول، والشعرُ لا تناسبهُ التربية، أو التعليم.

 

(*) أنت تعتقدين، كما يبدو، أن الشعرَ غير نظامي، ولا تناسبهُ التربية، لأنه تشردٌ على وجه الأرض. أهذا ما تعتقدين به؟
تمامًا. فليس أفضل من التيه الشعري.

 

(*) كأنك تقولين لا نظامَ مع الشعر، ولا تنظيمَ للشاعر؟
هكذا أعتقد. أو هكذا تجدني ضمن سياق الانفلات والتشتت. فثمة فرق ما بين تنظيم المدن، وبين تنظيم الأرواح في موسوعات النصوص.

(*) ما مدى قوة الاغتراب في نفسك، أو في شِعرك؟
هذا سؤالٌ دائم الحركة في مجرى حياتي. أنا شجرةٌ مغتربةٌ داخل غاباتي الباطنية، ولم أستطع إيقافها حتى بعد موتي.

 

(*) قيلَ إن زينايدا صاحبةُ مهارةٍ في التأليف الشعري. ما تعليقك؟
قد تكون المهارة بعدم الحفاظ على القصيدة بوضعها في قفص، وإنما بتغطية لحمها بقماش من الموسلين، وكذلك بفتح الأبواب لها لتنطلقَ بزخارفها نحو شوارع العالم، لتعبرَ وتعيش خارج محميات اللغة.

(*) من هو الذي يفتح التجلّيات في رأس زينايدا؟
الحبُ الذي كانت تملؤه أنوثتي.

(*) وبمن كانت أنوثتك تملؤه؟
بتلك المخلوقات متناهية الصغير التي تهيجُ في جيب الجسد الحارّ.

(*) وكنت شاغلة الناس بأسرار ذلك الجيب اللعين؟
أجل. ففي ذلك الجيب تجتمع الحواسُ لتشتعل حتى الرماد. كل ذلك يحدثُ من أجل إعادة صياغة اللذّة من جديد.

(*) هل تظنين أن الشهواتَ قطعانُ إبلٍ، أم خرافٍ، أم ذئاب؟
شهواتي نمورٌ. ذلك ما عرفته عن جسدي حتى بعد خروجي من تحت التراب إلى هنا.

 

(*) وكيف كنتِ ترعين قطعان تلك الشهوات في مراعي جسدك يا زينايدا؟
بعدم التفاهم مع عقل الجسد وأقفال أبوابه ونوافذه.

(*) هل تُصمم الشهوات في المعبد الإيروتيكي، أم تُنزّلُ كالوحيّ تنزيلًا؟
لا يمكن الاطمئنانُ على قطع غيار الجسد في معزل عن التفاهم على المشروع الجنسي، وذلك  باعتباره عصب القلب وخزانة أسرار النصوص المشمولة باللذائذ.

(*) ما تأثيرات المنفى على تكوينك النفسي والشعري؟
عندما انتقد زوجي (ديمتري ميرجكوفسكي) القياصرة، ومن بعدهم ثورة البلاشفة 1917، غادرنا روسيا إلى بولندا، وفرنسا، وإيطاليا، من دون أن ينتهي التحريض ضدّنا. وآنذاك لم يخبُ التأليف في رأسي، فكتبت في الرواية والمسرح والقص والشعر والجنس والدين، وبعض الموضوعات الأخرى.

(*) هل المنفى هدفٌ للتحررِ من الجغرافيات القديمة؟
أجل. ولكن الفكرة ليست صحيحة الهدف عند من يحملون ترابهم الجغرافي الأول معهم أينما حلوا ورحلوا.

(*) متى يصبح اللحمُ ترابًا مقفرًا على عِظام الشاعرة زينايدا غيبيوس؟
عندما يتعطلُ محركُ الشيفرة الوراثية، فلا ترث مرضَ السّل من والديك وممن قضى عليهم الموت للسبب ذاته، وكانوا من سلالتك العائلية نفسها.

 

(*) هل نَدمتِ يومًا لكونك امرأة، ولست من جنس الذكور؟
نعم، وتمامًا. فكثيرًا ما بكيت من وراء عدم تحقيق مثل تلك الفكرة، أو الحلم الميت.

زينايدا غيبيوس (ar.blogwithoutajob)

(*) ولكنكِ كنت متبرجة وشهوانية لتحطيم قلوب من حولك من الذكور. أليس كذلك؟
حاولت الانتقام لجسدي، وفعلتُ من أجل تصحيح ذلك الخطأ البيولوجي، حينما جعلت جسدي حوضًا لإغراق الكثير من الرجال تحت مياهه الحارّة.

(*) حتى بعد الانتقال إلى منازل السموات؟
لا أعتقد أنني سأكفّ عن ذلك.

 

(*) كيف؟
عندما قدمتُ طلبًا للاندماج بمحميّات حور العين، جاء الرفضُ لطلبي مرفقًا بملاحظة هامشية تشير إلى ضرورة أن أنتظر دوري للتحوّل الجنسي من أنثى إلى ذكر.

 

(*) وهل سيطولُ الانتظار في رأيك يا زينايدا؟
لا أعرف كيف أردّ على سؤالك. ولكنني مضطرةٌ للذهاب إلى فوهة الجبل الأسود، فهناك من سيعمل على تَدْوير جسمي.

(*) وماذا سيحدث بعد ذلك؟
أن أكتب الشعرَ لبقيةِ النساء كرجلٍ مفتولِ العضلاتِ وهجوميّ.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.