}

إلياس خوري: إعادة المعرفة مهمة أساسية للثقافة العربية الآن

دارين حوماني دارين حوماني 7 يونيو 2020
لا ينتظر إلياس خوري من أحد الاعتراف بفلسطينيته الإنسانية التامة فالمشهد كله ينزاح نحو القاع، وإذا كانت الكتابة بالنسبة إليه فعل حب فالكتابة عن الفلسطينيين لدى صاحب رواية "باب الشمس" هي وعي آخر ومعرفة عميقة بالمعنى الحقيقي للإنسان وهي مقاومة للتوحّش والقمع. 
يسعى إلياس خوري (1948) إلى كتابة الفلسطينيين على الورق فردًا فردًا، أن يحوّل ذاكرتهم المفقودة وسط الضجيج العام إلى مسقط رأس كامل للإنسانية. كردّة فعل تلقائية على تربية منفتحة على الأدب العربي وعلى الأفكار التحرّرية وعلى الآخر، تسلّل الفلسطينيون إلى نص ابن منطقة الأشرفية، المسيحية دينيًا والكتائبية سياسيًا بشكل كامل، منذ روايته الأولى "عن علاقات الدائرة" حتى آخر رواياته "أولاد الغيتو- مجزرة اللّد"، كما تسرّبت المذابح التي أُلحقت بهم إلى نفسه. بعد هزيمة 1967 سيحمل خوري قلبه الحزين إلى الأردن ليصبح فدائيًا وسيتعرّف هناك على أسباب النضال ومفرداته بين المخيّمات وسيتدرّب على الموت. في عام 1970 سيسافر إلى فرنسا ليكمل دراسته لكنه سيعود إلى "مركز الأبحاث الفلسطيني" ثم إلى مجلة "شؤون فلسطينية" ليكوّن صداقته مع محمود درويش وسيلتقيان في مجلة "الكرمل"، وبعد ذلك مع إدوارد سعيد الذي أدخله إلى نيويورك أستاذًا محاضرًا للأدب العربي في جامعة نيويورك لمدة أربعة عشر عامًا. هذه الصداقات التي أسّست لحب مشترك استمرّ عبر ثلاث عشرة رواية وأربعة كتب نقدية إضافة إلى مجموعة قصصية وكتابات مسرحية كسر فيها خوري التابوهات في الأدب ووضع فيها إحساسه الطبيعي بالوجع الإنساني أيًّا تكن هوية هذا الوجع. رؤيته النقدية للأشياء سبّبت له مشاكل مع منظمة التحرير الفلسطينية لكن لم يغيّر ذلك شيئًا إلا في حدود تغيّر مناخ رواياته التجريدي إلى مناخ تركيبي ما بعد حداثي له شخصيته المستقلّة عن المكوّن الثقافي اللبناني. كتب خوري في جريدة "السفير" دفاعه عن المخيمات والعذابات المهمّشة كما ترأس "ملحق النهار الثقافي" لسنوات، ويترأس حاليًا تحرير مجلة الدراسات الفلسطينية. تُرجمت روايات إلياس خوري إلى أكثر من 15 لغة وحازت روايته "باب الشمس" على جائزة فلسطين الكبرى وتمّ اقتباس الرواية للسينما مع المخرج يسري نصرالله، كما فاز مترجم الرواية إلى الإنكليزية همفري ديفيز بجائزة بانيبال الأدبية في عام 2006. وحاز خوري على وسام جوقة الشرف الإسباني في عام 2011 وتوّجته اليونسكو بجائزة الثقافة العربية لعام 2011 وفي عام 2016 حاز على جائزة كتارا عن عمله "أولاد الغيتو" كما حاز على جائزة محمود درويش في دورتها السابعة. 
وسط منطقة الأشرفية حيث استفاق خوري في مطلع شبابه على وجود الإنجيل والقرآن في مكتبة البيت وحيث تربّى على الانفتاح الثقافي العربي الغربي، كان لنا معه هذا الحوار:



الكاتب يتغيّر.. والقارئ كذلك
(*) "يُطارد" إلياس خوري جثامين الفلسطينيين وأحلامهم ويعمل على إحيائها من جديد، ويبني حاليًا الجزء الثالث والأخير من رواية "أولاد الغيتو".. فكيف سيختلف الجزء الثالث عن الروايتين السابقتين، وهل اختلف إلياس خوري "عن علاقات الدائرة" عن إلياس "أولاد الغيتو"؟
- أنا أفتش بالأدب وأطرح على نفسي أسئلة لها علاقة بالمصير الإنساني وبمعنى الحياة وبأسئلة الوجود وأسئلة الكتابة. كيف نعبّر عن تجربتنا من خلال الكتابة، هكذا بدأت الكتابة مع بداية الإنسان، وعي الإنسان بقدرته على استنباط الحرف وتحويل التعبير إلى شيء مجرّد، فكيف تضعين الملموس في المجرّد من خلال الكتابة، وبهذا المعنى أنا أكتب عن أسئلة أطرحها على نفسي، أكتب عن علاقتي بالموضوع الفلسطيني ما له علاقة بمعنى الإنسان المعاصر. أنا لست متعاطفًا مع القضية الفلسطينية، أعتبر القضية الفلسطينية قضية إنسانية، وهي أكبر قضية إنسانية بزمننا وبالتالي فهي تمسّني شخصيًا. أكتب عن تجربة البشر بمعنى حياتهم، "باب الشمس" كانت هي الذاكرة وكانت مشروع قصة حب، والحب أهم من الذاكرة. "أولاد الغيتو" هي محاولة لأفهم معنى الحب ومعنى التجربة الإنسانية، بالظروف التي يعيشها أبطال هاتين الروايتين يواجهون قضية إنسانية كبرى هي قضية المحو المنظّم الذي تعرّض له شعب كامل هو الشعب الفلسطيني. كل رواية مختلفة عن الرواية التي سبقتها وليس معناها أني تغيّرت، إلياس خوري يقلّد آدم في "أولاد الغيتو"، فكما أنت تشتغل على العمل الأدبي فالعمل الأدبي يشتغل عليك أيضًا ويغيّرك وبالتالي التغيير ضروري. من يقرأ رواياتي سيشعر أن هناك ما هو مشترك وأيضًا ما هو مختلف حتى بالفهم وبالتفكير، الزمن ينضج فينا، ويظل ينضّج فينا حتى نستوي ونموت، كلما اقتربت من أن تنضج كلما اقتربت من الموت وليس من الفهم، فالتغيير هو بمقدار علاقتك بالموت. الإنسان في عمري يصبح قريبًا جدًا من الموت وتصير الكتابة بالنسبة إليه حوار الموت معه، بهذا المعنى كل كتاب مختلف عن الآخر، وأنا في كل مرة عندما أكتب لا أعبّر عن شيء أعرفه، أكتب عن شيء لأصير أعرفه. فكرة السندباد في "ألف ليلة وليلة" قائمة على فكرة بسيطة، سندباد كان يسافر ليعود ويخبّر، فالكتابة هي سفر. في "أولاد الغيتو" الجزء الثاني مختلف عن الأول، الأول مكتوب بصيغة الأنا، أما الثاني فمكتوب بضمير الغائب، والجزء الثالث سيكون مختلفًا عن الثاني لكن في النهاية الكل هم قصة آدم دنون الذي يتغيّر كما أنت تتغيّرين، إذا أخبرتِ قصتك من عشر سنين ستكون مختلفة عنك الآن، فأنت تغيرتِ كثيرًا وآدم نفسه يتغيّر والكاتب يتغيّر والقارئ يتغيّر، أهم نقطة في النهاية أن صانع الأدب الأساسي هو القارئ الذي يقوّي الأدب ويتفاعل معه وهو الذي يعطيه المعنى الذي يحتاجه لذلك فالزمن في كل مرة يأخذ معنى مختلفًا، كل قراءة تعطي النص الأدبي معنىً يختلف عن معنى القراءات الأخرى. عندما يُنشر الكتاب يصير ملك القارئ، أصير أنا وأنت قارئان له. كل قارئ يعطي تأويله الشخصي المختلف، إذا قلتِ لي الآن فلنقرأ كتابًا كُتب منذ ثلاثين سنة سيكون تأويلي اليوم للكتاب مختلفًا عن تأويلي منذ ثلاثين سنة.


إلياس خوري مع الزميلة دارين حوماني


















(*)
تكتب روايتك كمؤرّخ للأحداث، كبديل توثيقي بصري أيضًا، هل يمكن أن نحكي عن ارتباط بين دراستك للتاريخ وبين اختيارك لكتابة أدب يمكن أن نسميه "أدب حرب" عبر توثيق الذاكرة والحاضر والمأساة؟ ولماذا الكتابة عن فلسطين، ألم يكن غريبًا أن تقيم في منطقة كتائبية وتذهب في هذا الاتجاه؟
- كتبت عن أدب حرب لأني عشت في الحرب ولا تستهويني الحرب وأكرهها، وكما جاء في الكتاب العزيز "فرض علينا القتال وهو كرهٌ لنا"، كتبت عن فلسطين لأني عشتُ فلسطين، في شبابي أحسست بظلم فظيع يقع على الفلسطينيين، ذهبت إلى الأردن وعشت تجربة معهم، أحسست أن الإنسان يجب أن يذهب إلى المظلومين. والغريب هو ما يحدث الآن، هذه الطائفية المريضة السخيفة التافهة التي ليس لها معنى. ذلك ليس غريبًا، ما حدث هو الطبيعي لأنني إنسان وأيّ إنسان عنده وعي لإنسانيته سيشعر بذلك. الحرب موجودة للأسف وأنا خُلقت سنة 1948، عندما كتبت "أولاد الغيتو" عن مجزرة اللّد اكتشفت أنها سقطت في نفس اليوم الذي وُلدت فيه، في 11 تموز/يوليو سقطت وأنا ولدت في 12 منه، خُلقت بالحرب وعشت في الحرب ويبدو سنموت في الحرب، فالحرب في المشرق العربي بشكل عام فُرضت علينا فرضًا بسبب هذا الحمق التاريخي الذي هو مستمرّ منذ القرون الوسطى منذ الحملات الافرنجية التي يسمّونها صليبية، بسبب هذا العته التاريخي أنهم يريدون أن يأخذوا الأرض المقدّسة. أولًا فلسطين ليست مقدّسة وليس هناك شيء مقدّس ولا بلد مقدّس ولا أرض مقدّسة، فلسطين أرض الفلسطينيين. نحن نعيش في ظرف تاريخي صعب لأننا انحكمنا بهذا الجنون الاستعماري، والمربوط بجنون ديني، كما الحروب الافرنجية فيها جنون ديني، ومثل ما اخترعوا لنا أن فلسطين أرض مقدّسة، هي ليست أرض مقدّسة وإذا كانت مقدّسة الآن فهي مقدّسة بدم الشهداء فقط لا غير.

أنا عشت الحرب كمقاومة وكل إنسان لديه حسّ إنساني سيسعى للسلام، خُلقنا لنعيش وليس لنقتل بعضًا البعض، عندما تتعرّض لظلم هائل ستكون مضطرًا لأن تدافع عن نفسك، الحرب التي عشناها هي حرب كشفت مجتمعنا وكشفت أمراضنا دائمًا، ودائمًا نقول إننا انهزمنا، هذا الواقع كشف أننا في الزمن الحديث ليس لدينا تاريخ، تاريخنا غير مكتوب. عندما كتبت عن الحرب الأهلية ورجعت إلى جذورها، 1840-1860، ذُهلت أن أدباء عصر النهضة مثل أحمد فارس الشدياق، الذي هو أستاذي وأستاذ كل العرب، لم يأتِ على سيرة هذه الحرب. اكتشفت أنه بالنهاية أحد العناصر التي يحملها الأدب معه أنه يؤرّخ، وعندما نُشرت "باب الشمس" سألني فلسطينيون: "هيك صار؟" وأجبتهم: "أكيد اسألوا أهلكن". وعندما نُشرت "أولاد الغيتو" سألني عدد من الناس بتعجّب: "غيتو! وين فيه غيتو؟". الإسرائيليون تفاجأوا أيضًا عندما تُرجمت الرواية إلى العبرية، ومؤخّرًا تمّ التداول بينهم بوجود أرشيفات عن فلسطينيين في اللّد والرملة وعكا ويافا وحيفا تمّ وضعهم في غيتوات مسيّجة بأسلاك شائكة مثل معسكرات اعتقال النازيين. أحد العناصر الذي وضّحها انكشافنا أمام التاريخ أننا لم نكتب تاريخنا وبالتالي يصبح هدفك وأنت تكتب رواية أن تؤرّخ، لكني لو كنت أريد أن أكون مؤرّخًا لاشتغلت في ذلك. حين أكتب عنك يجب أن أعرف من أنت، في روايتي "الوجوه البيضاء" كتبت عن قرية قانا التي عليها سؤال إذا كانت هي قانا التي مرّ فيها المسيح لأن هناك قرية في فلسطين اسمها كفر كنا ويُقال أيضًا إنها القرية التي مرّ فيها المسيح. إذا أردت أن أكتب عن قريتك يجب أن أقرأ عنها، وإذا لم أجد سأضطر لأن أقوم بعمل جانبي حتى تتبلور الشخصية، وبهذا المعنى نعم نؤرّخ لأننا انكشفنا، وصارت إحدى مهمات الأدب أن يحلّ محل الكتابة التاريخية لأن الكتابة التاريخية الحقيقية غير موجودة.



المواضيع التي كتبتها قريبة لقلبي
(*) يقول عباس بيضون: "الفلسطيني لا يُذكر في الرواية اللبنانية باستثناء أعمال إلياس خوري"، لماذا الانقطاع السردي عن فلسطين رغم أن لبنان كان مسكونًا منذ البداية بفلسطين، بلجوئها ومأزقها الوجودي، مقاومتها وانكساراتها، اهتزّت بيروت بسبب الفلسطيني فيها على دفعات، فلماذا هذا الانقطاع بين من عليهم مسؤولية في ذلك؟
- يعتقد البعض أني أيديولوجي ويساري وأنني أريد أن أمرّر أفكار. أنا كتبت من دون عوائق عن الفلسطينيين وعن السوريين، ففي روايتي "مجمع الأسرار" كتبت عن السوريين لأني عشت بينهم خلال طفولتي في الأشرفية حيث هرب إليها أعداد هائلة من الثورة السورية الكبرى بسبب الطائفية في ذلك الوقت. كتبتُ بلا عوائق كيف نعيش، أعتقد أن إحدى مهمات الأدب أن يتجاوز الموانع الأيديولوجية ويكسر التابو، وأحد التابوهات في الثقافة في لبنان هو الآخر الفلسطيني أو السوري أو حتى السريلانكي. كتبتُ في إحدى رواياتي عن خادمة سريلانكية وذهبت إلى سريلانكا لأكتب فصلًا عن ذلك. عليك أن تعرف ما تكتب عنه بقلبك وبروحك وليس فقط أن تعرفه، فليس لديّ موانع أو عوائق عن أي شيء. كتبت "يالو" عن مذابح السريان، في أوائل القرن العشرين حصلت مذبحة كبرى بالسريان في سورية أيام العهد العثماني وقد مرّت مرورًا عابرًا لأنها تغطّت بالمذبحة الأرمنية. كتبت أيضًا عن الأرمن. الكتابة هي فعل حب، دائمًا يقولون لي أنت تحب فلسطين أقول لهم أنا أحب الفلسطينيين، أنا أحب الناس لا أحب القضايا. في لبنان أحب جورج زريق الذي أحرق نفسه أوائل عام 2019 وبرأيي هو الذي بدأ بالانتفاضة. لماذا لم يكتب؟ لأن الروائي في لبنان لا يزال واقعًا تحت سطوة الموانع، ولأن الأدب العربي والمعاصر فيه موانع كثيرة، وإذا تجاوزت الموانع نكتبها بطريقة ملتوية مثل قصة الجنس في الأدب العربي الكلاسيكي. الحقيقة أني كتبت بهذا الهاجس وليس عندي تابو والمواضيع التي كتبتها قريبة لقلبي.

(*) تُرجمت رواياتك إلى أكثر من 15 لغة، كيف يستقبل الغرب حاليًا الأدب العربي المعاصر والرواية الفلسطينية تحديدًا؟ هل لها صوت؟ وما هي أهمية كتابة رواية مضادّة تساعد على استخراج ما يُراد دفنه؟
- أول كتاب تُرجم لي هو "الجبل الصغير" إلى الفرنسية، كان بعد ترجمة لروايات نجيب محفوظ وليلى بعلبكي، وكانت الروايات المترجمة قليلة وبحدود دنيا، كان محفوظ يُستقبل باعتباره شهادة عن الواقع الاجتماعي فإذا قرأته ستتعرّف على القاهرة ولكن لن تتعرّف على الأدب. آخر مرحلة هي الاستشراق. مع تكثيف الترجمة لأسباب موضوعية لها علاقة بالإسلاموفوبيا و11 أيلول/سبتمبر، مرّت أشياء عديدة وبدأوا بقراءة أسلوبنا لكن رأيي أن كل كاتب له أسلوبه، بعضهم تمكّن من كسر هذا التابو وكسره كان صعبًا، وبرأيي لعب إدوارد سعيد الدور الأبرز بكسر هذا التابو.

سعيد صاحب الكتاب "الثقافة والامبريالية" حلّل الأدب الحديث الأوروبي على ضوء المشروع الكولونيالي، معه صار الحديث أن هؤلاء العرب لديهم ما يقولونه وهو ما غيّر النظرة إلينا وهذه النظرة عليها صراع، فأنت مهدّد أن تُقرأ كأنثربولوجي وليس كأدب، بتجربتي يزعجني وأرفضه، عولجت رواياتي بالغالب كأعمال أدبية وليس أنثربولوجية، وعندما نُشرت "باب الشمس" في أميركا كتبت عنها "نيويورك تايمز" مقالًا وكتبوا على غلاف الجريدة أنه عمل أدبي عربي وليس فلسطينيًا، لكن بعد أن تُرجمت الرواية إلى لغات أخرى اضطروا أن يعترفوا بما لا يريدون الاعتراف به. نحن كشعوب خاضعة للهيمنة الاستعمارية دائمًا معرّضون لأن نُعامل بصفتنا مخبرين محليين لأنهم عندما يقرأونك يتعرّفون على المجتمع، وهذه هي نظرية سعيد في الاستشراق: المعرفة في خدمة السلطة.



(*) من خلال عملك كرئيس لتحرير مجلة الدراسات الفلسطينية تشتغل على ورش للكتابة الإبداعية، هل تريد للجيل الجديد سرد الحكايات العالقة بين شقوق جدران وأسطح المخيمات، أن يتسلّل إلى متن الرواية الفلسطينية كشاهد حيّ على النكبة المستمرّة
- أرادت مؤسسة الدراسات الفلسطينية أن نؤسّس لورش للكتابة، لقد رحل كل الكتّاب الفلسطينيين من لبنان. فيما بعد كان النقاش أن تعالوا نكتب عن المخيم، طلبت منهم أن يكتبوا عن تجارب حب عاشوها، فالمناضل هو أكثر واحد يُغرم، الفكرة كانت كيف يكتبون عن التجربة المعاشة، ورشة العمل تدريبية بالنسبة لي كمحرّر أيضًا. منذ الاجتياح الاسرائيلي امتزجت الطائفية والعنصرية والفاشية لتحميل الفلسطينيين مكسر العصا، "نحن اللبنانيين لم نفعل الحرب، إنهم الآخرون"، مع أن أكثر وقت حصلت فيه مذابح في لبنان هو عندما خرج الفلسطينيون، في حرب الجبل بين 1983 و1984 حدث تدمير عرقي وتطهير قرى لكن الفلسطينيين كانوا دائمًا كبش المحرقة. لكن بيروت رغم كل شيء كانت عاصمة الثقافة الفلسطينية مع جيل محمود درويش وغسان كنفاني وسميرة عزام وناجي العلي وأنيس صايغ ومركز الأبحاث الفلسطيني ومؤسسة الدراسات الفلسطينية. الفكرة جزء منها كان كيف نشتغل مع جيل جديد، والورشة أعطت على الأقل احتمالًا لخمسة كتّاب، وكنت أتعلّم منهم وبرأيي المعلّم الشاطر هو الذي يتعلّم وليس فقط الذي يعلّم، والمعرفة ليست حكرًا على أحد، كان الجو خلاقًا، وقد أتوا ليعبّروا ويحكوا تجاربهم.

(*) خلال زيارتك للمغرب العام الفائت قلت: "الأدب هو المكان الذي تستطيع من خلاله أن تحاور الموتى"، من هم الموتى الحاضرون في أدب إلياس خوري، وهل تشعر بتواصلك معهم من خلال الكتابة؟
- إذا شربت كأسًا سأقول لك شعرًا للمتنبي أو لإمرئ القيس أو لمحمود درويش، ونصوصي تحاور الأحياء لكن طبعًا حوارك العميق هو مع الذين علّموك. أنا أحبّ كثيرًا إمرئ القيس وفي نفس الوقت أشعر أني أقوم بحوار معه ومع أدباء آخرين، مع دوستويفسكي ودانتي وغيرهما، النص هو الوسيلة التي يكلّمنا فيها الموتى. الأدب هو المكان الذي نسمع فيه الموتى.

(*) إثر مقابلة أجرتها معك صحيفة هآرتس الإسرائيلية تعرّضت لانتقادات من جهات عديدة، واتهمت بأنك تحاول تطوير علاقة تطبيع مع إسرائيل، حتى أنك اتُهمت بسعيك لنيل جائزة نوبل للآداب، ما موقفك من كل ما قيل وما زال يُقال؟
- لم أسعَ يومًا لجائزة نوبل. قلتُ كلامًا خلال الحوار لا أعرف كيف وافقوا على نشره، وهو كلام ثقيل عن الإسرائيليين، وكان عندي شرط أن يُنشر الحوار كما هو دون تغيير أو سيكون مشكلة في ذلك. هآرتس جريدة ليبرالية وهم الذين طلبوا مني وليس أنا من طلب. أنا مع المقاطعة لكن من الحماقة أن نقاطع الأفراد مثل ما قالت بعض الرؤوس الحامية التي تنتقدني. برأيي هناك يهود ليسوا أقل منا مثل إيلان بابيه صاحب كتاب "التطهير العرقي في فلسطين"، أو يهودا شنهاف، وأمثال هؤلاء لا يمكنني أن أقاطعهم، هؤلاء أصدقائي، نحن نحارب في نفس الخندق، نحارب لنفس القيم، نحارب الصهيونية والاستعمار والعنصرية والفاشية. أنا ضد مقاطعة الأفراد وضد مقاطعة وسائل الإعلام إذا قبلت أن تنشر ما نقول. كيف تخلّصوا في جنوب أفريقيا من نظام الأبارتهايد؟ هل قالوا: "لا نريد أن نتواصل مع الأبيض؟" أم قالوا "تعال أيها الأبيض الجيد معنا؟".. قلت في الحوار إن إسرائيل ليس لها مستقبل وإن مشروع الدولة الصهيونية مشروع أحمق وليس له معنى وهو مدمّر وكما دمّر الفلسطينيين سيدمّر اليهود، وأساسًا قد تم تدميرهم، هؤلاء الموجودون في فلسطين ليسوا يهودًا، هؤلاء هم فاشيون وليست لهم علاقة بالقيم الأخلاقية واليهودية التي نصّ عليها الدين اليهودي الذي هو دين إبراهيمي سماوي. عندما عرفت بالحملة السخيفة ضدي لم أتضايق ولا خفت، بكل تواضع قضية الفلسطينيين هي قضيتي الشخصية ولا أساير أحدًا لأقول له أنا معك كما فعل الكثيرون هنا عندما دخل الإسرائيليون لبنان كانوا معهم والآن يزايدون عليّ ويعتبرون أنفسهم مقاومة، عندي قناعة شخصية أني أقوم بما يمليه عليّ ضميري وبرأيي أنه كان مفيدًا.



أهمية الترجمــة

 

(*) بعد ترجمتها إلى العبرية اعتبر بعض مثقفي اليسار الإسرائيلي أن رواية "باب الشمس" أهم رواية عن النكبة كما واجهت تحريضًا أو تجاهلًا في الوقت نفسه من جهات أخرى، وتبعتها ترجمة روايات عديدة لك، أين تكمن أهمية هذه الترجمات التي تخصّ المأساة الفلسطينية إلى العبرية؟

- من معرفتي بيعت رواية "باب الشمس" عند ترجمتها إلى العبرية كثيرًا، ومن خلال تجربتي في التعليم في نيويورك أنا أعرف يهودًا عديدين اعتبروها دليلًا، وعندما يزورون فلسطين يزورون القرى المدمرة التي كتبت عنها، بهذا المعنى الأدب مهم ومفيد لكنه لا يحرّر وطنًا ولا ينتج ثورة، الأدب للمتعة لنحب الحياة والناس ـ الأدب هو فعل حب، ويمكن استعماله فهو يزرع بذور هذا الحب. أهم تجربة في حياتي ولم تحدث مع أحد أنه في عام 1994 توجّهت مجموعة من الشباب الفلسطينيين من الضفة ومن الجليل إلى منطقة استيطانية شرقي القدس اسمهاE1  ووضعوا الخيام وأسّسوا قرية سمّوها "باب الشمس" وأقاموا سهرات نار وقرأوا من رواياتي كعمل احتجاجي على الاستيطان الإسرائيلي، جاء الإسرائيليون وهدموا القرية واعتقلوا الشباب الذين قاوموهم. لأول مرة أرى أدبًا يصير واقعًا، ما أعرفه أن الواقع يصير أدبًا لكن هنا حدث العكس. قلتِ لي نوبل، هذه هي جائزة نوبل بالنسبة لي، جائزة لكتابي بأن يتحوّل إلى اسم قرية.  

النظام السوري لا يحمل

همّ فلسطين أبدًا

(*) عُرف عنك انتقادك للنظام السوري منذ سبعينيات القرن الماضي، وتقول مؤخرًا: "نحن محبطون، محزن جدًا فشل الثورة السورية".. ما هي انتقاداتك لنظام لا يزال كما يقول يحمل همّ فلسطين في مكان ما عبر دعمه المقاومة في لبنان، أليست معظم الأنظمة العربية قائمة على القمع منذ قيامها؟
- النظام السوري لا يحمل همّ فلسطين أبدًا، الذي ينفّذ مذبحة "تل الزعتر" لا يحمل همّ فلسطين مطلقًا.. تاجر بالفلسطيني، هو النظام الذي يؤسّس لمكان تعذيب اسمه "سجن فرع فلسطين"، وأربابه لا يدعمون المقاومة، هم يدعمون أنفسهم. المقاومة هي حقنا الطبيعي لكن لا يمكنها أن تكون بخدمة أجندة لا أعرف ما هي، لا يمكنك أن تقاوم وبنفس الوقت تدافع عن النظام اللبناني. عندما احتلت إسرائيل لبنان بدأت المقاومة من اليساريين ومن شباب لبنانيين كانوا موجودين مع المقاومة الفلسطينية، بعد ذلك برزت تيارات أخرى منها التيار الديني، النظام السوري فرض أحادية المقاومة الإسلامية بالقوة وبالقتل. حافظ الأسد كان يعرف أن المقاومة لا يمكنها أن تحكم لبنان لأنه بلد متعدّد الطوائف، لو أن المقاومة الوطنية هي التي حرّرت الجنوب لكانت حكمت لبنان لأن الذي يحرّر هو الذي يحكم كما حدث في فيتنام وكل حركات التحرّر في العالم. حافظ الأسد كان يريد أن تبقى الجبهة اللبنانية متحرّكة فعندما يصلون إلى تسوية تكون لديه ورقة بيده لأنه لا يريد أن يحارب، ولا أفهم ذلك لماذا لا يريد المقاومة في الجولان، هل هي أرض ورثتها إسرائيل من أجدادها؟ لماذا لم تُطلق فيها رصاصة واحدة، لماذا استخدام لبنان كورقة ضغط إقليمية؟ سورية الآن أصبحت أداة وأرضًا للصراع الوحشي بين نظامين متوحشين، إيران وأنظمة الخليج، والاثنان مستبدان. كيف تريديني أن أؤيّد أحدًا رأيه "الأسد أو لا أحد، الأسد أو نحرق البلد".  

(*) عن عملك الفدائي في أوائل سبعينيات القرن الماضي تقول: "لم يكن فينا من كان غبيًا لدرجة الاعتقاد أن بإمكاننا تحرير فلسطين بينما يحكم العالم العربي طغاة"، وتقول الآن جملتك التي تؤلم بقدر ما هي حقيقية: "كل الأنظمة العربية تدّعي حب فلسطين لكنها تذبح الشعب الفلسطيني"، الأمور لم تتغير بينما تغيّر إلياس خوري. ماذا حصل وهل هناك يأس بسبب هذه الأنظمة؟
- نشرتُ مؤخرًا في مجلة بدايات في مقال "الكتابة والألم" أننا في مرحلة ما بعد اليأس. ما بعد اليأس يعني معرفة عميقة أن التغيير عملية شاقة وطويلة، ليست بالبساطة التي نفكر بها، عندما كنت شابًا كنت مؤمنًا أن الانتفاضة الفلسطينية ستكون رافعة للوطن العربي. الذي تغيّر بسيط وللآن إذا استطعت أن أحارب سأحارب، لم أتغيّر في مقاومة الظلم بكل الوسائل، الذي تغيّر هو أنه يجب أن أكون واقعيًا أكثر وأرى كم أن الشعوب القابعة تحت الاستبداد تُقمع وتتحوّل فيها القضايا إلى مسخرة. الأنظمة العربية أصبحت بمعظمهما مع إسرائيل. ثمة حاجة للوعي أن المسار هو تحرير الإنسان. نريد تحرير فلسطين لأن فيها قمعًا فكيف أريد تحرير فلسطين وأنا مقموع؟ الشرط الأساسي لنقاوم الاحتلال الإسرائيلي هو أن نكون أحرارًا. أنظري إلى الوضع الفلسطيني المفكّك لأن السلطتين الفلسطينيتين أصبحتا مثل الأنظمة العربية للأسف. أنت هنا الآن أمام وعي جديد ونعيش هذا الشيء في بيروت، نحن أمام نظام لا سابق له في تاريخ البشرية، هؤلاء عصابة من اللصوص سرقونا فعلًا، فهل هؤلاء مع فلسطين! الخطاب القوموي الإسلاموي يدّعي أنه مع فلسطين، إذًا لماذا الفلسطينيين ممنوعون من التملّك ومن العمل؟ كيف تكون مع فلسطين وتضع الفلسطينيين بغيتوات! وظيفتنا أن نعيد المعاني للكلمات، والآن في الوضع العربي الراهن المهمة الأساسية للثقافة أن تعيد المعرفة، فنحن في لحظة انهيار المعرفة.

(*) اخترتَ أن تعود إلى بيروت المصابة بفوضى مرضية لا يمكن تصحيح فشلها المستمرّ أو تجميل وجوهها المشوّهة عبر الثقافة، درست في باريس ومارست التدريس أربعة عشر عامًا في نيويورك، لماذا العودة دائمًا إلى بيروت؟
- كنت أعلّم فصل أربعة أشهر وأعود، اخترت العودة بقرار، المنفى ليس اختيارًا، أذهب إلى منفى إذا أُجبرت على ذلك، وطالما أنا قادر أن أعيش هنا فلماذا أرحل، بيروت مريضة، إذا كانت أمك أو ابنتك مريضة فهل تتركينهما؟ اعتبري بيروت ابنتك أو أمك، وظيفتك أن تكون قربها، برأيي لا يوجد هرب فردي لأنك ستذهب وتنقل مرضك معك.

 

آمل ألا تتوقف الانتفاضة
(*) "في فمي ماء" عنوان مقال لك نُشر في 25 أيار/مايو الماضي في "القدس العربي" وأنت تجلس على شرفة منزلك في بيروت "المحاصرة بالكورونا والإفلاس"، تشرّح فيه العالم العربي الذي وصل برأيك إلى الصفر وإلى القاع والحضيض، لكنك تنتهي بأمل بثورة 17 تشرين في لبنان، فتقول: "عثرت على صورتي في عيون شبان الانتفاضة التي اقتلعت بالرصاص المطاطي.. هنا يتأسّس المعنى كي يحوّل الصفر إلى بداية"، هل تؤمن أنه يمكن لهذه الثورة أن تزيح تلك الديكتاتوريات الحاكمة في لبنان وأن تُحدث تغييرًا وأهمه إلغاء الطائفية التي ولّدت محاصصة مرعبة بين من يدّعون أنهم حماة الطائفة، هل من أمل في قيام دولة مدنية عادلة وحرّة بكل ما للكلمة من معنى؟
- أنا مؤمن أن عيون الشباب التي انطفأت هي مرآتنا وهذا ليس كلام عواطف، أنا كبير في السنّ وكنت أنزل إلى ساحة الثورة وأشعر أحيانًا أني عبء عليهم عندما يبدأ الغاز المسيّل للدموع. عيونهم هي مرايا وإذا انطفأت فلن يكون عندنا مرايا، أي أن صورتنا ستذهب. هذا ليس له علاقة بالتفاؤل والتشاؤم، هذا له علاقة بحقيقة حياتنا ووضعنا اليوم إذا هُزم هؤلاء الشباب. لقد استُعملت معهم أساليب من قاموس حزب البعث، عنف وكهرباء وإهانات. هؤلاء الشباب إذا انهزموا أنا سوف أنهزم، لست متفائلًا لكني متأمّل بأن لا تتوقف الانتفاضة لأنها مسار إجباري لنصبح وطنًا. هذا النظام الطائفي يلغي كرامتنا ويحوّلنا إلى خدم عند لصوص سرقوا دون أن يؤسّسوا لأي توازن اجتماعي. وظيفة هذه الدولة أن تسرق، إذا لم أجد نفسي مع هؤلاء الشباب مع من سأكون؟ مع الطائفيين والعنصريين؟ أنا لا أفهم كيف أكرهك لأنك مسلمة، الطائفية شكل عنصري سخيف وهي أسخف أشكال العنصرية. كيف أشعر أن عندي كرامة ويقول لي أحدهم إن مذهبك هو كذا، هذا ينزع عنك صفة الإنسانية ويحوّلك إلى جزء من قطيع ينزع عنك فرديّتك.




(*) في بيان تم اعداده في "المجلس الثقافي للبنان الجنوبي"، أعلنتم مع عدد من المثقفين عن تأسيس رابطة للأدباء والكتّاب اللبنانيين هدفها القيام بدور في عملية التغيير الديمقراطي، هل هي بديل عن اتحاد الكتّاب اللبنانيين الذي لم يقم بدوره تجاه الثورة وتجاه المجتمع؟ ألا يعاني اتحاد الكتّاب من وجع أيضًا؟
- الاتحاد كفكرة جاء من زمن قديم، زمن الاتحاد السوفييتي، وهو اختراع سوفييتي من اتحادات الكتاب التوتاليتارية، وأنا يساري وكنت معهم. كان لاتحاد الكتاب اللبنانيين دور في الستينيات وأوائل السبعينيات لكن فيما بعد لم يعد له دور لأن نوع هذه التراكيب غير مفيد واستولت عليه المخابرات السورية وورثته حركة أمل. لا أعرف إذا كانوا موجودين، من أول الانتفاضة لم أسمع صوتهم، بلد بأمه وأبيه يثور لا تسمع صوت أو كلمة واحدة من اتحاد الكتّاب. أسّسنا رابطة وموقفنا واضح. انطلقنا من الانتفاضة وبرأينا أن الانتفاضة هي باب للتغيير وعلينا أن نشارك في التغيير، هي ليست نقابة، والذي يرى أنه مع انتفاضة الشعب اللبناني وضد الطائفية والنظام السياسي فليأتِ، ما حصل في اتحاد الكتاب هو مصادرة الأشياء لطرف واحد وبقايا الاتحاد هو كاريكاتور الأنظمة الاشتراكية القديمة، لم يعد هناك شيء اشتراكي، في مرحلة سابقة كان هناك ضبط للصحافة وللثقافة وبرأيي أن أهم أصوات في الصحافة والثقافة في ظل هيبة الاتحاد السوفييتي الجبار هي أصوات الذين انتقدوا وعارضوا وكانوا نقديين من ماياكوفسكي الذي انتحر إلى آخرين.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.