}

أندريه ميكال: دراستي الجغرافيا الإنسانية للعالم العربي أهم إنجازاتي

بوعلام رمضاني 8 يونيو 2020
حوارات أندريه ميكال: دراستي الجغرافيا الإنسانية للعالم العربي أهم إنجازاتي
ميكال وغلاف كتابه الجديد "عربي من قرن إلى قرن"
ارتبط اسم المستعرب أندريه ميكال (91 عاما) في فرنسا دون غيره من الأسماء الأدبية والفكرية الأخرى بدراسة شعر ولغة وجغرافية العرب الإنسانية لعقود بشكل عكس شغفا غير مسبوق جسده لاحقا بترجمة "ألف ليلة وليلة "ومجنون ليلى" و"كليلة ودمنة"، وبتأليف عشرات الكتب التي ترجمت إلى عدة لغات أجنبية. الرجل الذي ألف 86 كتابا استقبلنا بحفاوة بالغة عند باب المصعد في الطابق الخامس لبيته الذي يسكنه منذ 55 عاما، وأدلى لنا بهذا الحديث الذي تضمن سبقا صحافيا ثقافيا يزيد من خصوصية مبدع ما زال ينصف العرب والمسلمين. يجدر التذكير أن صحة ميكال لا تسمح بالحديث كثيرا إلا أن تقديره لمنبرنا الثقافي العربي دفعه إلى تجاوز المدة الزمنية التي اتفقنا عليها بحضور ابنته كلود التي تسهر على راحته منذ وفاة زوجته.




(*) في البداية هل من فكرة وجيزة في شكل سبقٍ صحافيّ لـ"ضفة ثالثة" عن الكتاب الذي علمت أنه يحمل كلمة "عربي"؟
-  عنوان كتابي الذي سيصدر قريبا عن دار صغيرة اسمها "دومنس" هو "عربي من قرن إلى قرن"، وتقمصت في الكتاب شخصية عربي شاهد على الأفكار المسبقة التي تدور حول العرب بشكل لا يطاق، الأمر الذي يتطلب تصحيح صورتهم المشوهة لدى الكثير من أبناء وطني.


(*) هل عرفت صلاح ستيتية الذي رحل مؤخرا بحكم اختصاصك في الشعر العربي كمستعرب فرنسي قرأ للراحل اللبناني الأصل الذي كتب باللغة الفرنسية مجسدا ذاكرته العربية الإسلامية؟
- كنا نلتقي في كثير من المناسبات الأدبية، وهو يمثل فعلا حالة إبداعية خاصة شعريا ونقديا .

(*) هل تشاطره رأيه في ماهية الشعر حينما يقول إن الإبداع في الشعر يتجاوز الزمان والمكان ويخترقهما بعيدا عن المفهوم الضيق للحداثة الشعرية، وفي تقديره ما زال شعر الشنفرى شعرا حقيقيا شأنه شأن شعر المتنبي وجيرار دو نرفال وماياكوفسكي ورينيه شار وكيتس وإليوت وسواهم من الذين أبدعوا شعريا في فترات زمنية قديمة وحديثة متباعدة.
-  أنا شخصيا أفضل أبا العتاهية، ولكن للشعر الحديث قواعد مختلفة كما تعرف عن الشعر القديم. الشعر الحقيقي والأصيل يبقى صالحا لكل زمان ومكان، والمتنبي يبقى بتناوله الموت شعريا حداثيا، وأدونيس شاعر أصيل مثله (قرأ لنا شعره مترجما إلى الفرنسية كما فعل مع "مجنون ليلى").

(*) لماذا تفضل أبا العتاهية علما أن المتنبي هو الذي يحدث الإجماع أكثر كأكبر وأشهر شاعر عربي قديم؟
 - بعد أن ضحك قال: "أنت تورطني وتحرجني بهذا السؤال لأنني ترجمت شعره الذي بدا لي أسهل وأوضح. المتنبي يبقى ذلك الشاعر الكبير بامتياز، وشعره إبداع خلاق يتجاوز مفهوم الشعر، وينحو لما وراء الوجود".

كتبي حول الجغرافيا الإنسانية
للعالم العربي أهم ما أنجزت كباحث

(*) وانا أقرأ مما كتب عنك في الصحافة الفرنسية لم أجد أثرا لسبب اهتمامك بما أسميته "الجغرافيا الإنسانية" للعالم العربي. لماذا هذا الاهتمام، وإلى أي حد يعد اهتمامك مفتاحا مكنك من دخول عالم اللغة والشعر في العالم العربي والإسلامي من بوابة الجغرافيا؟
- أولا يجب أن يعرف القارئ أنني أرد على الأسئلة المتعلقة بفترات بعيدة بصعوبة لأنني تجاوزت سن التسعين وتوقفت منذ مدة عن البحث وأعيش على ذكرياتي الكثيرة والمتداخلة، وتوجهت نحو اللغة وأصبحت مستعربا بفضل أستاذي ريجيس بلاشير ولولاه لأصبحت جرمانيا بحكم حبي للغة الألمانية.

 (*) معذرة سيد ميكال إذا قاطعتك للقول إنني اعتمدت لطرح هذا السؤال على حديثك عام 2005 لمجلة "مغزين ليتيرار" (المجلة الأدبية)، والذي قلت فيه إنك دخلت عالم العربية والإسلام والشرق بوجه عام بالمصادفة. كيف تم ذلك وكيف تعلقت بالعربية بعد ذلك؟ وهل لذلك كله علاقة بدراستك الجغرافيا الإنسانية للعالم العربي كما أسلفت الذكر؟
-  نعم هذا صحيح. كنت أنوي دراسة اللغة الفارسية كلغة خامسة بعد الفرنسية واللاتينية واليونانية والألمانية بهدف تمكني من دراسة اللسانيات والأدب المقارن. للأسف، لم يتم ذلك عام 1950 بسبب تخصيص كرسي الدراسات الإيرانية في مدرسة اللغات الشرقية إلى جيلبير لازار، الزميل الأكبر مني سنا. حيال هكذا أمر واقع غيرت مساري والتحقت بالمدرسة العليا للأساتذة في سن العشرين وشرعت في دراسة اللغة بتوجيه من ريجيس بلاشير كما قلت، واشتغلت بشكل ذاتي معتمدا على مختصر النحو بمساعدة طالب مغربي. بعد السنة الثالثة في المدرسة العليا للأساتذة، رحت أسعى للحصول على التبريز في النحو الأمر الذي مهد لحصولي على منحة من المعهد الفرنسي بدمشق لإتقان اللغة العربية.

 (*) لكن الدارس لسيرتك الشخصية والعلمية يعرف أنك اكتشفت روح اللغة العربية في سن الثامنة عشرة من خلال قراءتك للقرآن الكريم الذي ترجم إلى الفرنسية.
- هذا صحيح أيضا. في واقع الأمر، كان السبب وراء ذلك اندفاع شباني لكي أتميز عن الآخرين وانفرد عنهم. قبل هذا التاريخ وفي عام 1946 تحديدا، حصلت وأنا طالب في الثانوية على المرتبة الثانية في مسابقة حول الجغرافيا، وكانت المكافأة السفر إلى المغرب وتونس والجزائر فحدثت الصدمة باكتشافي طبيعة خلابة وساحرة. لاحقا، وبعد دخولي الجامعة، تحولت ترجمتي لكتاب الجغرافي السوري المقدسي إلى شغف جديد أدى في نهاية المطاف إلى مناقشتي أطروحة دكتوراه حول الجغرافيا الإنسانية للعالم العربي، وهي الدكتوراه التي أصبحت الجزء الأول لثلاثة أجزاء أخرى أضحت اكتشافا جديدا في حياتي كباحث ومؤرخ وجد نفسه أمام ثورة علمية ممزوجة بالأدب والشعر والإسلام تحديدا.

(*) المفارقة في كلامك تكمن في وصفك كتبك حول الجغرافيا العربية بأنها ثورة لم يقف عندها الباحثون رغم أهميتها القصوى وغير المسبوقة، والتي تبدو لي أهم من الجوانب الأدبية في مسارك. ما رأيك؟
-  نعم ... هذا صحيح ولأنه لم يطرح عليّ هذا السؤال من قبل أقول إن سلسلة كتبي حول الجغرافيا الإنسانية للعالم العربي أهم ما أنجزت في حياتي كباحث.

غلاف كتاب ميكال الذي سيصدر قريبًا: "عربي من قرن إلى قرن"


















(*) كيف؟
-  قبل الرد على السؤال أذكر فقط أنني تناولت في الأجزاء الأربعة تباعا الجغرافيا العربية حتى القرن الحادي عشر كأدب ثم ككون وأرض وكطبيعة وأخيرا كنشاط إنساني في بلاد الإسلام. وتمثلت النتيجة التي خرجت بها في هوية الجغرافيين الذين كانوا يطوفون عبر مختلف المناطق تحت وطأة المتعة وحب الاكتشاف ولم يكن قصدهم التدوين كهدف في حد ذاته، ولا أدل على ذلك من عدم وجود آنذاك جمهور متعلم بأتم معنى الكلمة.

(*) هل أفهم أن دراستك للجغرافيا العربية قد اضحت مقاربة علمية ومنهجية وواعية موازية لشغفك بأدب ولغة العالم العربي؟
-  بالضبط.


(*)
ما الذي لفت انتباهك بالدرجة الأولى في عوالم العرب والمسلمين المدروسة في الأجزاء الأربعة المذكورة؟
- قدرة الجغرافيين العرب والمسلمين على وصف الشعوب الأجنبية التي لم تكن تقاسمهم نفس العقيدة في الهند والصين وأفريقيا وأوروبا الجنوبية أو روسيا اليوم، وربما راحوا يطرحون أسئلة حول معتقدات هذه الشعوب، ويسجلون تاريخ جغرافيات لا تشبههم دينيا وثقافيا، وهنا أستحضر فرنان بروديل الذي قال إن التاريخ "ليس فقط ما يكتب، وهو أيضا ما يقفز إلى أذهاننا وإلى مخيالنا ويدخل أحلامنا وهو أيضا ما نتأسف عليه".


(*)
تاريخيا ومنهجيا، إلى أي حد نستطيع القول إن دراسة الجغرافيا الإنسانية للعالم العربي هي التي أدت بك إلى اكتشاف أدبه وشعره تحديدا، أم أن دراستك للغة العربية هي التي أدت بك إلى الانبهار بالقرآن الكريم أيضا؟
- بدأت الحكاية في الجزء الأول من سلسلة الكتب الأربعة عن الجغرافيا الإنسانية للعالم العربي، وخصصت الجزء الأول كما تعلم للآداب العربية بوجه عام.

نعم أستطيع القول إن دراستي للجغرافيا العربية أدت بي إلى اكتشاف التداخل الذي تم بينها وبين الآداب العربية تاريخيا قبل وبعد نزول القرآن الكريم، ولعل "كليلة ودمنة" التي ترجمتها في الأول قبل "مجنون ليلى" و"ألف ليلة وليلة" من أبرز الأعمال التي تؤكد أن ما تسمونه عندكم بالأدب ما هو إلا حقيقة ثقافية واجتماعية وسلوكية على فنون العيش والتعبير والتواصل المعرفي والأدبي دون التمتع بالمستوى الثقافي العالي النخبوي، وهذا ما يقابل عندنا مفهوم الرجل المتعلم الفاضل وغير المتخصص في القرن السابع عشر، و"كليلة ودمنة" أبرز وأبهر نموذج على الانفتاح الجغرافي والروائي والأدبي العربي والإسلامي على الشعوب الأخرى  بوجه عام  من خلال محوري الهند وبلاد فارس.


(*)
هل تؤكد اليوم أن مقاربتك للقرآن الكريم كانت أدبية كمستعرب بعيدا عن مقاربة المفكر المتخصص في الإسلام علما أنك مؤمن واعتنقت المسيحية في الصغر وغير يساري مثل المبدعين المعاصرين المحسوبين تاريخيا على اليسار؟
-  لم أقارب الإسلام دينيا يوما ما وأنا مستعرب متخصص في الآداب العربية الكلاسيكية. قرأت ودرست القرآن الكريم وترجمت الأشعار المستوحاة منه، وألفت كتابا عن سورة الواقعة.

أحترم الإسلام الذي يعد حضارة إنسانية عظيمة كما قلت مرارا، وكان الإعجاب يجمعني دائما بطلبتي الذين كنت أعرف من هم وكانوا يعرفون من أنا شخصيا وأخلاقيا وأيديولوجيا. ولأنني صريح وشفاف أرجو أن لا أخيب ظنك حينما أقول إنني درست سورة الواقعة من منظور أدبي خالص رغم أنني مؤمن كما قلت وأنتمي الى اليمين بالضرورة في نظر اليساريين. وسواء كان المرء مؤمنا أو غير مؤمن لا يمكن في كل الحالات الفصل بين الثقافة والقرآن من منظور سياقهما الجغرافي والتاريخي، والسور المكية قمة شعرية مذهلة، والرسول كان يتحدث كما كان يتحدث الشعراء العرب.


(*)
  هل عدم يساريتك هي التي أدت الى التعتيم عليك في فترة سيطر فيها اليسار على الإعلام في فرنسا فأنت غير معروف إعلاميا بالقدر الكافي، وأشهر من علم عند أهل الاختصاص الأدبي الأكاديمي؟
- قبل أن يبتسم ويهز رأسه أجاب: "أنا سأترك بعد رحيلي 86 كتابا".


أندريه ميكال في سطور :من مواليد مدينة ميز  الواقعة في مقاطعة " لانغدوك روسيو"، جنوب فرنسا، يوم 26 سبتمبر/أيلول عام 1929؛ خريج المدرسة الوطنية للأساتذة 1950/1953؛ إجازة في النحو العربي 1953؛ أستاذ مساعد للغة والأدب العربي في جامعة إكس أو بروفنس، جنوب فرنسا، 1964/1962؛ دكتوراه في الآداب 1967؛ أستاذ مساعد لسوسيولوجيا اللغة والأدب العربي في المدرسة التطبيقية للدراسات العليا 1968/1964؛ أستاذ محاضر في جامعة فانسان باريس 1970/1968؛ بروفيسور في كوليج دو فرانس للغة والأدب العربي الكلاسيكي 1997/1976؛ أمين عام المكتبة الوطنية 1987/1984؛ أمين عام كوليج دو فرانس 1997/1991.
أهم مؤلفاته: ليلى عقلي 1984؛ أسامة أمير سوري في مواجهة الصليبيين 2007؛  شرق حياة 1990؛ كتاب كليلة ودمنة 1957. طبعة جديدة 1980؛ أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، ترجمة كتاب الجغرافي المقدسي 1963؛ الجغرافيا الإنسانية للعالم الإسلامي حتى القرن الحادي عشر. 4 أجزاء. 1973- 1988، 2001- 2002؛  الإسلام وحضارته 1968؛ الأدب العربي 1969؛ رواية من ألف ليلة وليلة. غريب وعجيب. ترجمة .1977؛ الخليج والنهر. ترجمة أشعار مختارة لبدر شاكر السياب 1977؛ الإنسان والعالم. ترجمة 6 كتاب عرب 1983؛ أسامة ابن منقذ. تعاليم كتاب الاعتبار 1983؛ مجنون ليلى. الحب المجنون 1984؛ سيدات بغداد 1990؛ ألف ليلة وليلة. ترجمة مع الراحل جمال الدين بن الشيخ وكلود بريمان 1991؛ العرب... الإسلام... وأوروبا. مع عبد الوهاب بوديبة ودومنيك شوفالييه وعز الدين بروز 1991؛ من صحراء العرب إلى حدائق إسبانيا 1992؛ العرب: من الرسالة إلى التاريخ 1995؛ العرب والحب 1999؛ أبو العتاهية: أشعار للحياة والموت 2000؛ الشرق في القلب 2001؛ فلسطيني في الطريق 2008. 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.