}

هُتاف خوري: مؤلفاتي الموسيقية خلط بين أساليب عالمية متنوّعة

وسام جبران 28 نوفمبر 2021
حوارات هُتاف خوري: مؤلفاتي الموسيقية خلط بين أساليب عالمية متنوّعة
هتاف خوري


ولد المؤلف الموسيقي اللبناني هتاف خوري في طرابلس عام 1967. درس، منذ عام 1982، البيانو والتأليف الموسيقي في مدينته مع ميشال حداد، وعبد الحقّ مصري، ثم سافر إلى الاتحاد السوفييتي (السابق) عام 1988، وتابع دراسته الموسيقية العليا في "كلية تشايكوفسكي الموسيقية الوطنية" في كييف. تخرج عام 1997، وعمل خلال فترة الدراسة كمستشار فنّي مع "الأوركسترا السمفونية الوطنية الأوكرانية"، كذلك مارس التعليم في أوكرانيا، ثم في الكونسرفتوار الوطني في لبنان منذ 1997.
خوري كاره للمباشرة والصُّراخ. هامس بزخمٍ أوركستراليّ مُزلزل. "الغرب" خمارُه الظاهر، و"الشرق" وجهُه المُحتجب. يتململ مع أفكاره الصُّوريّة والكلاميّة الصّامتة بخجلٍ، وحين ينطق، تأتي موسيقاه واثقةً، متينة البُنية والعمران.
بدأ حياته في بيتٍ طرابلسيٍّ لبنانيٍّ اكتست جدرانه بريش الكتب، ومن هناك حلّق إلى فضاءات المعنى والشعور. بأجنحة الموسيقى التي يحرّكها وتحرّكه، يرسم مساراته بآلاتٍ موسيقيّةٍ أليفةٍ، أو أخرى غريبةٍ ونادرة. بصيغة المُفرد، أو بصيغة الجمع الأوركسترالي، ينطق بلغة موسيقيّةٍ بليغةٍ فُصحى، غارسًا في مُنعرجاتها لكنةً عاميّةً لبنانيّة النّبرة، أو شرقية الهوى، من دون أن ينظر إلى موروثه بوصفه جوازَ السفر الوحيد إلى المستقبل، ومن دون أن ينبذه بوصفه ماضويًّا آفلًا ونافلًا. هكذا يطير بجناحين؛ جناح الموروث وجناح الرؤية، ليتوازن في عالمٍ محتدمٍ مليءٍ بالتناقضات والتحدّياتِ والأسئلة.
من الفكر، ومن رفعة اللغة والتعبير، ومن رصانة الأسلوب وإحكام الهندسة التأليفيّة، ومن سِعة اللحظة الزمنية وزخمها الحركيّ المُضجّ بصمتِ الواثق، يأتي هُتاف خوري إلى مشهدٍ موسيقيٍّ عربيٍّ حديثٍ رفيع؛ يأتي مُبدعًا لا تابعًا، ويُقدم باحثًا قلقًا، لا واعظًا مُستسهلًا.
نحاور فنانًا مثقّفًا متعاليًا على طوائف الوطن، وعلى "وطنيّة" الطوائف، مانحًا صوتَهُ وصمتَه للإنسان بوصفه إنسانًا.
ونحاور مؤلّفًا موسيقيًّا حاضرًا في مسارح العالم وصالاته الموقّرة بأعماله أولًا، قبل أن يحضر بجسده وشخصه. "عربيٌّ"، "شرقيٌّ"، يُخاطب العالم والإنسان بلغةٍ لا تحتاج إلى وساطاتٍ، ولا تتهافتُ أمام هجانةٍ عابرة أو تفاوضٍ غير ندِّيٍّ مع الآخر الحضاريّ. هو وحدُه صانعُ لغته الموسيقيّة التي يخاطب بها وجدان الإنسان، أينما كان، ومتى وُجد.

هتاف خوري مع موسيقيين في إحدى حفلات تقديم مؤلفاته

 

(*) لكل مكان صوته الخاص في ذاكرة الموسيقي. عندما أسألك عن طرابلس، مدينتك التي ولدت وتعيش فيها، ما الذي يحتل حيزًا منها في ذاكرتك الصوتيّة؟
طرابلس، مثلها مثل كثير من المدن العربية، تتمتّع بـ"فضائها الجغرافيّ الصّوتي"، والذي يتجسّد، أكثر ما يتجسّد، في "المشهد" الصّوتي الهتروفونيّ لأصوات الآذان. في طرابلس القديمة قلعةٌ فوق تلّةٍ مرتفعة، أحبُّ أن أستمع من موقعها الجليل المطلّ على المدينة بأكملها إلى لا تونالية (لا لحنيّة)، النسيج "الفضائي/ الكونيّ" الذي يتشكّل رُويدًا رويدا، بدءًا من المساجد البعيدة وصولًا إلى الأقرب، متداخلة، متواشجة، غير مكترثة لأي قانونٍ موسيقيٍّ أفقيٍّ، أو عاموديٍّ صارمٍ. هذا "المشهد" الصّوتي الملازم لطرابلس، هو ما جعلني، في مرحلةٍ متقدمة من إنتاجي، أتخطّى الكتابةَ الموسيقية العامودية (الهوموفونية/ المتجانسة) إلى كتابةٍ هتروفونية قلقة ومتلوّنة. أعطي هنا مثالًا واحدًا من مؤلّفاتي، هو كونشيرتو البيانو الأول، الذي "استنطقت" فيه مجموعة الوتريات بلغة المفرد، عبر ما نُسميه في لغة الموسيقى (division)، أي أن كل آلة لها "آذانها"، أو مقولتها الخاصّة بها. فهي، إذًا، جمْعٌ بصيغة المُفرد.


أخلط بين أساليب موسيقية عالمية متنوّعة
(*) ألفت عددًا كبيرًا من الأعمال الموسيقيّة المتنوعة: 5 سمفونيات، 15 كونشيرتو، والعديد من المؤلفات لموسيقى الحجرة، وغيرها مما سنأتي على ذكره لاحقًا. كيف تصف أسلوبك الموسيقي، وأين تضع مؤلفاتك في عالم الموسيقى اليوم؟
قياسًا للفترة الزمنيّة التي مارست فيها التأليف الموسيقي، فإنني لم أكتب عددًا كبيرًا من الأعمال، مقارنةً مع مؤلفين موسيقيين عالميين كُثر. فأنا، في العادة، لا أكتب أكثر من أربعة أعمال في السنة الواحدة. وهذه الكتابة، غالبًا ما تبدأ على هيئة فكرةٍ صُوَريّةٍ، أو أدبيّة، قبل أن تأخذ شكلها الموسيقي. وقد أستغرق في البحث عن الفكرة أكثر مما أستغرق في تدوينها. أعمالي متنوعة، هذا صحيح، وهي تتراوح بين الأعمال السمفونية، والكونشيرتات، وموسيقى الحجرة، والموسيقى الغنائية، بل وأحيانًا أكتب مؤلَّفاتٍ لآلاتٍ موسيقيّةٍ نادرة، كما فعلت مع آلة "Theremin"، وآلة "Corno Di Basset"، وغيرها. قد يبدو أسلوبي الموسيقي في ظاهره محض أكاديميّ، غير أنني أحاول، أحيانًا، التعديل في القوالب الموسيقيّة الغربيّة بما يتناسب مع أفكاري الموسيقيّة الخاصّة، فلا أخلص تمامًا للمعايير "الأكاديميّة" المألوفة في التأليف، وأخلط بين أساليب موسيقية عالمية متنوّعة، مع الحفاظ على "الهُويّة الشّرقيّة" (إن صح التعبير)، لكن بنوعٍ من التّجديد واستخدام تقنيّاتٍ، نادرًا ما تُستخدم في الموسيقى الكلاسيكيّة الغربية، لكنها حاضرة بقوة في الموسيقى الشرقية [الشرق أوسطية تحديدًا]. وأعتقد أن من يستمع إلى ما أكتبه، خاصةً في العقد الأخير، يمكنه أن يميّز أسلوبي من دون أن يرتاب فيه. من حيث الانتشار، فأعمالي تُعزف في معظم قارات العالم، وتحظى بحضور محترم، لكنها تُعزف بشكلٍ أقل في العالم العربي، ربما باستثناء بلدي لبنان.


(*) درست التأليف الموسيقي على يد الأستاذ (Yuri Ishenko) في الأكاديمية الوطنية للموسيقى في كييف (أوكرانيا). ما هي أهمية هذه المرحلة، (1988 ـ 1997) في تطورك الموسيقي؟
مرحلة الدراسة تحت إشراف البروفيسور يوري إيشنكو تُقسم إلى قسمين: القسم العملي التأليفي، والقسم النظري الذي تتوّج بأطروحة الدكتوراة بإشراف البروفيسور كاتليريفسكي. فهذه المرحلة الممتدة بين عام 1988 إلى عام 1997 صقلتني كمؤلّف وكباحث موسيقي أكاديمي.




هذا بالإضافة إلى أن أستاذي قد أذن لي، على غير العادة، أن أحضر دروس التأليف الموسيقي عند زملائه الآخرين في الأكاديميّة، الأمر الذي أضاف إلى علمي وتجربتي ثراءً وسعة نظر.
هذه هي المرحلة الأهم في حياتي الموسيقية. وهي بمثابة "الصّخرة" التي بنيت عليها مُستقبلي المهني. فعند وصولي إلى الأكاديمية الوطنية للموسيقى في كييف، كنت لا أزال مجرّدًا من أسلحة المعرفة الموسيقيّة التي توفرت لزملائي الطلاب الأوكرانيين، أنا القادم من لبنان الحرب، ومن عالم عربيٍّ لا يأخذ الموسيقى على محمل الجدّ. لكنني وجدت حضنًا دافئًا مكنني من النهوض بنفسي شيئًا فشيئًا، واللحاق بالمستوى الأكاديمي المطلوب. لم يحدث ذلك من دون عناء وضغوط وقلق، بل ولحظات انكسارٍ نفسيّ، لكن هذا كلّه قد زادني صلابةً وقوةً على المستوى المهني.


(*) ما هو المُكوّن الذي ترك فيك الأثر الأكبر في مسيرتك التعليميّة هذه؟
ربما المكون الدراماتيكي هو الأكثر أثرًا. فأن تجد نفسك مع أساتذة، هم امتداد لحضارةٍ موسيقيّةٍ، بدأت مع ما يُسمى بـ"عُصبة الخمسة"، وصولًا إلى المؤلفين السوفييت الكبار؛ حضارة تنهل من تاريخٍ موسيقي دراماتيكيّ يجعلك تتماهى مع هذه "الروح"، وتتأثر بها أيما تأثر. هذا المفهوم، الذي له دلالاتٌ كثيرة في الموسيقى الكلاسيكيّة غير متوفر، بعمق، في الموروث الموسيقي العربي.


(*) وماذا بقي من تلك المرحلة الأوكرانية في مؤلّفاتك اليوم؟
ليس كثيرًا. بقيت بعض الأعمال المُرقّمة والمُصنّفة ضمن سلسلة أعمالي، ولا أتحمس كثيرًا لأن تُعزف. هي تبقى، ربما، كوثيقة تُشير إلى سيرورتي، وكمرحلة ضروريّة من مراحل تطوري. لكن تطوري الموسيقي يجعلني اليوم على مسافةٍ بعيدةٍ منها.


(*) حدثنا عن نشأتك العائليّة الأولى، عوالم الصوت الأولى في هذه البيئة الحاضنة، كيف تصفها لنا؟
والدي مارون عيسى خوري، رحمه الله، (وهو من مواليد حيفا عام 1935)، كان كاتبًا وباحثًا ومترجمًا، ترك عددًا من الكتب في قضايا الفلسفة، وتاريخ النهضة العربية، والأركيولوجيا. نشأت في بيت يحتوي على مكتبة ضخمة، وكان بيتًا مُحبًّا للموسيقى الكلاسيكيّة، وربما يكون والدي قد ورث هذا الحب عن جدّي الذي عزف على آلة العود، ثم هجرها بحثًا عن لقمة العيش. ويبدو أنني ورثت هذه "البصمة الجينيّة" عنهما، كما اكتسبت حبّ الموسيقى عبر التربية السّمعيّة (لا التعليميّة)، والاستماع الدائم إلى الأسطوانات التي كنت أحبّ اقتناءها. يُضاف إلى هذا أننا في لبنان، ورغم مآسيه الكثيرة، كنا، كعائلةٍ، نرتاد الحفلات الموسيقيّة التي كانت تنظمها مؤسساتٌ أجنبيّة، أو ملاحق ثقافية في سفاراتٍ متعددة، والتي تمكّنتُ، من خلالها، إلى الاستماع لعددٍ من العازفين المرموقين، فاعتادت أذني على تلقي الموسيقى من خلال أداءٍ وصوت شديد التّهذيب والصّقل منذ بدايات السّمع والتلقّي الموسيقي. أما الوالدة، فقد أحبت الغناء، وتمتعت بصوتٍ جميلٍ متّعتنا به، لكنه ظلّ حبيس البيت والأسرة.


خيار التأليف الموسيقيّ
(*) ماذا تقول عن خيارك بأن تكون مؤلّفًا موسيقيًّا كلاسيكيًّا، في عالم عربيّ غير مُهيّأ تمامًا لمثل هذا النوع من الموسيقى؟ هل يمثل هذا الواقع عائقًا، أم أنه، ربما، تحدّ مُفيد؟
أن تكون مؤلِّفًا موسيقيًّا في عالمنا هذا، هو أمرٌ إشكاليّ. وأن تعيش، جغرافيًّا، في نطاق العالم الثالث، فهذا يزيد الإشكال، وأكثر من هذا كلّه أن تنتمي إلى العالم العربي. فعالمنا العربيّ غير مهيّأ لأن تكون مؤلِّفًا موسيقيًّا، أو أن تنخرط فيه في مجالِ العمل الأكاديميّ الموسيقى. لبنان، تحديدًا، كان قادرًا أن يوفر لنا الثقافة الموسيقيّة، أو فرص الاستماع لها، لكن القصّة كانت تنتهي عند هذا الحدّ. أما خَيار أن تكون مؤلّفًا، فلم يكن مُستحيلًا، لكنه لم يكن هيّنًا؛ بمعنى أنه كان عليّ أن أبحث عن حلٍّ بينيٍّ متوازنٍ ما يُرضي الأهل، الذين لم يتحمسوا لفكرة أن يُصبح ابنهم "مزّيكاتيّ"، من جهة، ويُرضي طموحي أنا من جهةٍ ثانية. لذلك، فإن دراستي الأكاديمية الأولى بدأت في مجال الاقتصاد، بعيدًا عن طموحي الموسيقي. وبعد عامين من الدراسة، ترسّخت قناعتي بأنني في المكان الخطأ، فتحدثت إلى والدي الذي تفهّم رغبتي بدراسة التأليف الموسيقي. تصادف ذلك مع مشاركتي بمسابقةٍ (متواضعةٍ) للتأليف الموسيقي في طرابلس (المدينة التي ولدتُ ونشأت فيها)، وحصلت من خلالها على نصف منحةٍ دراسية لدراسة التأليف الموسيقي في الاتحاد السوفييتي، حينها، وكان النصف الثاني المتبقي مبلغًا يكاد لا يُذكر، مما سهّل عليّ هذه الخطوة كثيرًا.




في مدينة كييف (أوكرانيا)، يُمكنني القول بأنني صُقلت كموسيقيٍّ، وكإنسانٍ، من جديد.
واقع النشأة، بقدر ما شكّل عائقًا، فقد كان سببًا لخلق هذا "التحدّي المُفيد" كما تسمّيه؛ بمعنى، أنه كان عليّ أن أثبت جدارتي أضعافًا مُضاعفة لكي أثبّت مصداقيّة خياري، وأكون مدعاةً للفخر بين أهلي ومجتمعي.


(*) كتبت العديد من المؤلفات للأوركسترا "الكلاسيكية الغربية"، وأنت موسيقيٌّ نشأ في بيئة شرقية (عربية). فما معنى الكتابة للأوركسترا، لغةً، تلوينًا، وأسلوبًا؟ ما الذي تعبر عنه، أنت شخصيًّا، عبر الأوركسترا، ولا يمكن فعله عبر أداةٍ موسيقية أخرى؟
صحيح أنني كتبت كثيرًا للأوركسترا الكلاسيكية الغربية. وأنا لم أكتب أبدًا موسيقى للتخت الشرقي. ولم أكتب أعمالًا تتضمن آلاتٍ شرقية. ليس هذا تعبيرًا عن موقفٍ ما، وليس هو بقصد. وأعزو ذلك، ربما، إلى أنني لم ألتقِ في حياتي بعازفٍ شرقيّ أشعر معه بنديّة العلاقة المطلوبة بين المؤلف والعازف. ولكن هذا لا يعني أن عازفين من هذا النوع هم غير متوفّرين، فهنالك شاهدٌ على ذلك مثلًا، في كونشيرتو العود للصديق المؤلف الموسيقي عبد الله المصري، الذي وجد في الأستاذ سمير نصر الدين براعةً وثقافةً تليق بمؤلَّفٍ موسيقيٍّ جادٍّ لآلة العود. كذلك يمكننا ذكر تجارب الأستاذ مارسيل خليفة الكثيرة والهامة في مجال التأليف لآلة العود، وتجربة الأستاذ رفعت جَرانة (مصر) وكونشيرتو القانون، وبشرى الترك (لبنان) وكونشيرتو القانون كذلك، وغيرهم من الزملاء... لم أذهب في هذا الاتجاه، لكنني "عوّضته" بلغة الأوركسترا، وعبر تطويع "المساحة الجغرافيّة الشرقية" للغة الأوركسترا؛ هذا الإحساس بهذه "المساحة الجغرافية" [بمعنى الفضاء أو الاتساع] - كما كان يقول أستاذي بالروسية ـ لا يتوفر لكل شعب في العالم.




(*) لكن ماذا تقصد تحديدًا بهذا التعبير: "الفضاء الجغرافي"؟

ربما ما أقصده، ببساطة، هو منح المُستمع، عبر أسلوبي الخاص، ذلك المُتّسع من الاستمتاع والشعور بالارتياح، لكن، في الوقت نفسه، أمنحه مُتّسعًا للتفكير في اللحظة الموسيقيّة العينيّة، وما يحدث فيها. فالأوركسترا الغربية هي، بالنسبة لي، الشكل، وليس المضمون أو "الرّوح". وهذا لا يعني بالضرورة أن تستخدم المكوّنات الشرقية المباشرة، مثل نظام المقام، أو الإيقاع الصّوتي، لكي نعبر، أو نستحضر موروثنا في الموسيقى. وأعتقد أنني، بهذا الأسلوب، كنت أكثر إقناعًا، للغرب نفسِه، بلغتي الموسيقيّة من مؤلفين موسيقيين أوروبيين كبار حاولوا استحضار الشرق في أعمالهم على نحوٍ "استشراقيٍّ"، أو آخر. التّقنيّة لا تُترجم الإحساس بالضرورة. وثمة فارقٌ بين أن تمتلك "حسًّا ما" غير قابل للترجمة، وبين أن تمتلك التّقنيّة وحسب.


(*) هل تُشير هنا، ضمنًا، إلى أن "إيقاع" أو "زمن" إحساس الإنسان الشرقي بـ"الفضاء الجغرافي"، مختلف عنه عند الإنسان الأوروبي أو الغربي عمومًا؟
الزمن في الموسيقى هو مكوِّنٌ عضويٌّ موجودٌ في صُلب اللغة الموسيقيّة. أعتقد أن الإحساس بالزمن هو مسألة تتعلق بعلاقة الإنسان بالنظام؛ أن تتحرّك في حياتك وفق نظامٍ، وتتنقل وفق نظامٍ دقيقٍ من المواعيد، وتنظم أوقاتك ومهامك وحجم إنتاجك إلخ... أو أن تتفلّت من النظام وتتحرّك "بحريّةٍ" من دون قيدٍ صارم، ومن دون مواعيد دقيقة... إلخ. هنا، ثمة فارق، في العموم، بين الإنسان الغربيّ والإنسان الشرقيّ، إن صح التعبير. بهذا المعنى، يصير الزمن، بوصفه نظامًا شعوريًّا، وثقافةً، يصير محكومًا بما أسميناه "الفضاء الجغرافي". إذًا، من حيث لا تدري، في لا وعيك، ربما، تنعكس علاقتك الحسيّة بالزمن في مرايا الموسيقى التي تنبثق منك، وترتدّ على المتلقّي على نحوٍ أو آخر.


(*) عدد من الأوركسترات العالمية، ومن العازفين من جنسيّاتٍ متعددة، عزفوا أعمالك الموسيقيّة. ماذا لديك لتقول عن هذه التجارب؟ كيف يتلقى العازفون مؤلّفاتك؟
هذا صحيح، وجميع هؤلاء تلقوا أعمالي بترحابٍ. لا أنكر أنه في البدايات، كان يراودني بعض الخجل، أو حتى الرهبة، عند شروع أوركسترا ما، اعتادت على عزف موسيقى كبار المؤلفين عبر التاريخ، على عزف مؤلَّفٍ لي، لكن تقبلهم لأعمالي واحتفاءهم بها، والنجاحات التي رافقت الكونسرتات والتسجيلات، جعلني أكثر ثقةٍ بما أكتب. ثم يأتي ما كتبه النقاد عن أعمالي، ومثالًا لا حصرًا، فإن الكونشيرتو بعنوان "مرآة الأبديّة" (فلوت، وتريّات وآلات إيقاعية)، والذي ألفته للصديق العازف والمؤلّف وسام بُستانيّ، قد قُيّم بوصفه أحد أفضل الكونشيرتات التي كتبت في العقدين الأخيرين. نعم، هنالك تجاوب كبير مع تجربتي من قبل الغرب، وأعزو ذلك إلى أن الغرب، في مكانٍ ما، قد أفلس، وكأنّا به يحتاج إلى دماءٍ جديدة وصياغاتٍ متجدّدة. وأشعر أن العازفين والأوركسترات في الغرب باتوا أكثر ثقةً وأكثر قناعةً بما نكتب، وكأن خصوصيّاتنا التي نستمدّها من نشأتنا المختلفة تُضيف إلى مخزونهم كثيرًا، وتُسعفهم في لحظة "الإفلاس" هذه. نعم، بدأت هذه التجارب بنوع من الخجل، بسبب الاختلاف (أي أنني العربي القادم من جغرافيا أخرى)، إلى أن تبدد هذا الخجل وتحوّل إلى مصدر قوة وندّيّة في التعامل وطرح التصوّرات الموسيقية والرؤى بثقة. وهنا، لتسمح لي بأن أعطي مثالًا يعزز هذا النجاح: في السنوات الأخيرة عُزف مؤلّفي للفيولا والبيانو بعنوان "Metamor-Frozen" أكثر من 250 مرة، وسُجّل في أسطوانة تضم عددًا من المؤلفات لكبار الموسيقيين العالميين. هذا مؤشّر موضوعي على جودة العمل وقيمته ودرجة قبوله. اليوم، أنا أكتب الموسيقى بطلبٍ من الموسيقيين والأوركسترات التي باتت تثق بما أنتجه.


قلّة قليلة في الغرب تتمتع بخط موسيقي واضح في أيامنا
(*) حين تقول إن الغرب قد "أفلس"، أليس في هذا تجنّ ما، أو ربما مبالغة؟ كيف توضّح وجهة نظرك هذه للقارئ؟
مرّ الغرب الأوروبي بمراحل وتجارب متعددة، ولكلّ مرحلةٍ أسلوبها الموسيقيّ، رؤاها، طابعها، آلاتها، صوتها... وبين كلّ مرحلةٍ ومرحلة، يمكن القول إن هنالك فترة من الإفلاس؛ إفلاس ما قبل الرينيسانس (النهضة)، ثم "الاعتماد" على الثقافة العربية/ الإسلامية في بدايات النهضة، وبين النهضة والباروك، ثمة علامات استفهامٍ كثيرة راودت تلك المرحلة والتغيّرات الجذرية التي شهدتها، والتي استمرت في العصر الكلاسيكي، على نحوٍ أو آخر، ثم "حفرة الضياع" التي دامت قرابة أربعين عامًا بين الكلاسيكي والرومنطيقي، ثم "ضياع" الرومنطيقية ذاتها في النهاية وتشتتها في مدارس متنوعة كالفاجنريّة [نسبةً إلى ريتشارد فاجنر (1813 ـ 1883)]، والبروكنريّة [نسبةً إلى أنطون بروكنر (1824 ـ 1896)] والمالريّة [نسبةً إلى غوستاف مالر (1860 ـ 1911)]، وصولًا إلى حداثة أرنولد شوينبرغ (1874 ـ 1951)، والمدرسة الدديجافونيّة الاثني عشريّة، فيعود الزمن "ليتوقّف" خلال، وبعد المدرسة الفينّيّة الجديدة [مطلع القرن العشرين]، بحثًا عن "دماءٍ" جديدة تعيد الحياة إلى المشهد الموسيقي. ثم نجد تلك التوجهات الأوروبية نحو الشرق الأوسط، وأفريقيا، والشرق الأدنى، بحثًا عن "مواد" موسيقيّة جديدة تضخّ الحياة في الموسيقى، كما حدث عند عدد من المؤلفين الموسيقيين الفرنسيين والطليان، وغيرهم، الذين نجحوا، ربما، في بعض الأحيان في استيعاب هذه المواد (إيقاعات، موتيفات لحنية، ميكروتوناليّة، وغيرها) في موسيقاهم، ولكن، وبقدر ما هي دخيلة، هذه المكوّنات، على ثقافتهم، فقد استنفدت بدورها هي كذلك.




وها هي أوروبا والغرب عمومًا تقف على مفترق طرقٍ، اليوم، تتخبط من دون رؤيةٍ واضحة، ومسارٍ جليّ. وربما هنالك نوعٌ من الاستقرار ووضوح الرؤية عند الجيل القديم من المؤلفين السوفييت الذين ظلوا مثابرين على التأليف إلى ما بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، من أمثال ألفرد شنيتكي، وكانتشيللي، وغيرهما. أما في الغرب، فقلّة قليلة تتمتع بخط موسيقي واضح في أيامنا.


(*) قد يختلف بعضهم معك، أستاذ هُتاف، بشأن التسمية "إفلاس". ربما فيها "قسوة" ما، أو حكم فيه "مُغالاة"! فقد يميل بعضهم، ربما، إلى استخدام مُسميّات أخرى مثل: "مخاضات"، أو "بحث"، أو "رغبة لا تشبع"، أو "قلق حضاري"... حيث تسعى الحضارات الحيّةُ، بدأبٍ مستمر، إلى التجديد، وتجاوز الذات الثقافية؛ بمعنى، أنه قد يُرى إلى ذلك بوصفه علامةً صحيّةً في سيرورة الثقافات، وليس العكس. ماذا تقول؟
تمامًا. يمكن فهم الإفلاس بطرق مختلفة، وتخفيف حدته هنا أو هناك، ولكن هذا لا يُلغي أن أوروبا والغرب قد وصلا في مفاصل تاريخية كثيرة إلى طريق مسدود، وكان عليهما البحث عن مخرج ما. وهذا الإفلاس، وأنا أصر على استخدام هذه التسمية، لم ينحصر في مجال الموسيقى فقط، بل نجده كذلك في المستوى الاجتماعي والسياسي. وربما أهم ما يمكن أن يتسبب بهذا الذي أسميه إفلاسًا، هو انعدام التنوّع، أو انكماشه. من دون تنوع لا وجود للثقافة ولا للموسيقى؛ التنوع يعني بالضرورة حضور الآخر المختلف، ومن دون هذا الآخر لا تتشكّل الهُويات، بل تنغلق وتموت.


(*) سؤالٌ أوجهه لكلّ مؤلّفٍ موسيقيّ عربي أحاوره، ربما بحثًا عن حقيقةٍ ما داخل فسيفساء الإجابات: هنالك من يرى إلى "الأوركسترا" بوصفها شكلًا من أشكال الخطاب الغربي (الأوروبي)، لغةً وهيمنةً. كيف تنظر إلى العلاقة بين الموروث الموسيقي الشرقي، وبين نظام الأوركسترا داخل علاقات القوى الحضارية غير المتكافئة؟
في هذه المرحلة من العمر، وبصدق، لم أعد أفكر إن كنت أمثّل خطابًا موسيقيًّا غربيًّا، أو آخر شرقيًّا. اليوم، أنا على يقين أن الموسيقى هي لغةٌ عالمية، فبمعزل عن اللّغة، يكفي أن نكتب موسيقى على نحوٍ صحيحٍ، بُنيويًّا وجماليًّا، كي نصل إلى كل مُستمع، وأن نتصل بالواقع الذي نعيشه ونعكسه؛ فلا يكون المؤلّفُ الموسيقيّ ناجحًا، من وجهة نظري، إذا ترفّع عن واقعه، أو لم يُصغِ إليه. حين أكتب للأوركسترا، فهي تمثل، بالنسبة لي، الشّكل لا الأداة، وليس المضمون، وهذا ما يُبعدني عن "الخطاب الغربي"، مُبقيًا على مسافةٍ (جغرافيّة/ معنويّة) بيني وبين هذا "الخطاب". ثمة حوارٌ في ما أكتبه؛ لكنه ليس حوارًا بين شرقٍ وغرب، بل هو بيني (كمؤلِّف موسيقي) وبين المتلقي، عبر الأوركسترا بوصفها وسيطًا بيننا. وهنا، أود أن أؤكد أنني، حين أكتب الموسيقى، فأنا لا أفعل ذلك لكي أعلن صارخًا: "اسمعوا ما لديّ لأقوله لكم!"، لكنني أكتب بهمسٍ، من أجل المتعة وإثارة الأسئلة والمحاورة. أنا ابن هذا الشرق، صحيح. لكنني لست وارثه بالمعنى الشكليّ الخارجي السطحي، بل عبر "الإحساس"، أو "النَّفَس" الشرقيّ، بلغة الأوركسترا. هل العلاقة بين الخطابين، هنا، غير متكافئة؟ أعتقد أنني بلغت نوعًا من التوازن، كما هو الحال، في اعتقادي، عند زملاء آخرين، من أمثال عبد الله المصري، وبشارة الخوري، وناجي حكيم، وغيرهم. لقد بلغنا مرحلةٍ نقول فيها: "نحن موجودون". حضاريًّا، مع الأسف، نحن العرب اليوم، لم نعرف كيف نستفيد من القيمة المُضافة التي يوفرها لنا تاريخنا، الذي كان ناهضًا، ذات يوم، حين نام الآخرون. ولا داعي هنا لأن نستطرد في الأسباب، وهي معروفة للجميع.


(*) كتبت العديد من الكونشيرتات لآلات متنوعة مع الأوركسترا. ما سرّ اهتمامك بهذا النوع الموسيقي تحديدًا؟
أحبُّ كتابة الكونشيرتو لعدة أسباب: السبب الأول، أن الكونشيرتو يُتيح لي إجراء حوار ندّي جاد، على مستوى المقولة الموسيقيّة، وعلى مستوى التقنيّة وبراعة الأداء، بين الفرد والجماعة؛ بين "ذاتي" الفردانيّة وبين المجتمع الكبير. والسبب الثاني يعود إلى الزّخم الفكري الذي يحمله الكونشيرتو، بوصفه شكلًا هندسيًّا متينًا مُحكَمًا وصارمًا. وهذا التّماسك "المعماري" ضروريٌّ ومُهَذّبٌ لأيّ مؤلَّفٍ موسيقيّ يطمح أن يولد سليمًا معافى. أما السبب الثالث، فيعود إلى البعد الدراماتيكي الجدليّ الذي يقبع في صُلب "السوناتا" بوصفها فكرًا وقالبًا وأسلوبًا في آنٍ معًا.




وكما نعرف، فإن الحركة الأولى، الأساسيّة، في الكونشيرتو، تُبنى على أسس السوناتا، ويصعب تخيّل كونشيرتو لا سوناتيّ، وإلاّ توجّب تغيير اسمه. فصيغة السوناتا جاءت متأخرة نسبيًّا في تاريخ الموسيقى، ولم تتطور بجديّة إلا مع تداعيات عصر التنوير، منذ موتسارت المتأخر، وسوناتات بتهوفن للبيانو، ثم العصر الرومنطيقي، ولذلك فهي نتاج فكرٍ، وليست مجرد تسمية. وهي، بالتالي، تختلف عن المتواليات (كما عرفناها عند باخ، وهاندل، وسواهم)، أو غيرها من الصيغ الأبسط التي راجت في عصورٍ سابقة.


الكونشيرتو مُعادلٌ ما للتخت الشرقي
(*) لكنك، في هذه الكونشيرتات، لم تستحضر، ولو في واحدٍ منها، آلةً من خارج المنظومة الكلاسيكية الأوروبية، كما فعل عددٌ من المؤلّفين العرب حين استنبتوا الآلة الشرقية في هذه الأعمال. لماذا؟
قالب الكونشيرتو، بالنسبة لي، يتمتع بأهميّةٍ خاصّة. لكنني لم أستخدمه يومًا كقالبٍ غربيّ صرف ومُقَيِّد، بل استخدمته بما يخدمني؛ فلم أكتب مثلًا كونشيرتو من ثلاثة أجزاء، كما هو مألوف كلاسيكيًّا، بل كنت أكتفي بحركةٍ واحدة أُقيم من خلالها ذلك الحوار، الذي هو في صُلب فكرة الكونشيرتو، بين الآلة الانفرادية (أو أكثر) وبين المجموع الأوركسترالي؛ إنه، أي الكونشيرتو، مُعادلٌ ما للتخت الشرقي، لكن بسعةٍ أكبر، ولغة أكثر تعقيدًا. وعبر الآلة الانفرادية في كلّ كونشيرتو أكتبه، إنما أعبّر عن نفسي، وأسرد قصّتي الشخصيّة، بقدر ما يتّسع لهذه الآلات من إمكاناتٍ لتمثيلي وتمثيل ما يختلج في أعماق نفسي.
لماذا لم أكتب لعازفٍ، أو آلةٍ شرقيّة، ضمن الكونشيرتات؟ هذا عائدٌ إلى سببين، الأول: أنني لست واثقًا من جهوزيّة وجرأة العازفين الشرقيين على عزف ما أكتبه، وهذا "يُفزعني" ويجعلني مكبّلًا بإمكانيات عازفٍ بعينه، أو بمزاجه الموسيقيّ الخاص به، فلا يمكّنني ذلك من الكتابة بحريّة. أعرف أن هنالك نماذج في التأليف الموسيقي عند زملاء كثر من العرب تخالف ما أقول، وربما أكون مخطئًا، أو مُقصّرًا، في البحث عن عازفين من ذوي الكفاءات. لكن، ربما يكون هذا التقصير مزدوجًا؛ بمعنى أن أحدًا من العازفين لم يطلب مني ويحفزني على كتابة مؤلَّفٍ يخصُّ آلته (الشرقية) التي يعزف عليها!


(*) في بعض أعمالك، مثل "MarimBach"، و"حدائق الحب" (Gardens of Love)، ثمة تفكير خوارزمي رياضي بارز في تصميم الفكرة الموسيقيّة الأولى التي يُبنى عليها لاحقًا. كيف يتحدد منسوب العاطفة مقابل منسوب التفكير المنطقي الخوارزمي في أعمالك؟ وكيف للعلاقة التي بينهما أن تخدم العمل الموسيقي في نظرك؟
كتبت "حديقة الحب" بعد ولادة ابنتي الثانية (إيلينا)، وهو عملٌ مفعمٌ بالحب والحنان والتأمل. أما "ماريم ـ باخ"، وهو عنوان يؤالف بين اسم آلة الماريمبا، واسم المؤلف الموسيقي جوهان س. باخ، والذي يتأسس على "تنويعات جولدبرغ" (Goldberg variations) لباخ، بطبيعة الحال، فإن مقاربة باخ تتطلب عمقًا رياضيًا (خوارزمي)، من دون إغفال بصمتي الخاصّة في العمل.
في الموسيقى، في رأيي، ثمة توازن ما، مطلوبٌ، بين العقل والعاطفة. وهذان مثالان، أعتقد أنهما قد توفّقا في إظهار مسعاهما إلى هذا التوازن الذي يصعب تحديد نِسَبِهِ في الموسيقى؛ فمتى "تتفوّق" العاطفة؟ متى "يتغلب" العقل (الخوارزميّات مثلًا)؟ هذا، ربما، يعكس الإنسان بما هو عليه من تكوينٍ ممتزج ينصبُّ في الموسيقى بقصدٍ، أو من دون قصد. هنا، للمؤلّف دوره في "ضبط" هذا التوازن لمصلحة تناسق العمل الفني وجمالياته.


(*) البعد التراجيدي/ الدراماتيكيّ حاضرٌ بقوة في مؤلَّفاتك الموسيقيّة. أعطي أمثلة منها: كونشيرتو الفيولا الثالث (Lost to this Word)، ومرثية للبيانو، و"حياة مظلمة" للبيانو (4 أيدي)، و"Stabat Matter" (الأم المتألّمة) لسوبرانو، تينور، تشيللو وبيانو، وسوناتا البيانو رقم 3 "إلى لحظةٍ ضائعة"، وغيرها كثير. قد يُعزى هذا إلى ميلٍ في النفس نحو التراجيديا، أو أنها الحياة التي نعيشها وانعكاساتها. لكن، ما معنى أن تكون تراجيديًّا في الموسيقى؟
أتفق معك. البعد الدراماتيكي التراجيدي حاضرٌ بقوة في أعمالي. (تطرقت إلى ذلك في إجابتي عن مرحلة تعليمي الأكاديمية وأثرها)، لكنني أضيف هنا إلى أنني أنتمي إلى جيل الحرب [لبنان]، ومن قبلها عايشت نكسة 1967، وواقع الصراع هو الواقع الغالب المستمر في حياتنا على أوجهٍ متنوعة. من هنا، فإن عدم استبطان هذا الواقع في الموسيقى يكون نوعًا من الكذب؛ فكيف تكون فنانًا حقيقيًّا إذا لم تحمل همًّا عامًّا؟ لكن هذا الهمّ العام، هو، في الوقت نفسه، قصتي الشخصيّة. فأنا لست منفصلًا عن هذا الواقع؛ انظر مثلًا إلى بعض مؤلفاتي: "Metamor-Frozen" (للآلات والبيانو)، و"Mirror of Eternity" (كونشيرتو الفلوت، الوتريات والإيقاعات)، السمفونية الثانية "Reminiscenza"، السمفونية الثالثة "Time of fear"، السمفونية الرابعة "Street of Dreams"، وهذه كتبتها في أعقاب ثورة 2006، ثم كونشيرتو الفيولا رقم 2 "Outside the Borders"، وكونشيرتو الفيولا الثالث "Lost to this World"، و"مرثية للبيانو"، التي ألفتها لذكرى صديقي، عازف البيانو وليد عقل، وسوناتا رقم 3 للبيانو "Dark Life" (4 أيدي)، وغيرها من الأعمال، فإنك تجدها تعكس حياتنا وواقعنا بالضرورة. لكن يبقى السؤال الأهم في الفن هو سؤال الفن نفسه؛ أي كيف نعالج، فنيًّا، هذه الهموم والقضايا العامة الكبرى، أو الفردية الشخصية. أنظر إلى المؤلفين الموسيقيين والأدباء الكبار: إنهم دراماتيكيون بامتياز، ألا يجدر أن نتعلم منهم؟




"حياة قاتمة" للمؤلف الموسيقي اللبناني هُتاف خوري. على البيانو تاتيانا بريماك خوري

                                      *****


(*) كتبت العديد من الأعمال للبيانو. وفي بيتك عازفة بيانو من الطراز الرفيع، هي زوجتك تاتيانا بريماك. هل أثر ذلك على غزارة كتاباتك للبيانو؟ وكيف ساهم عزفها في حياتك المهنية؟
لا أريد أن أبدو "مُستغلّا" لزوجتي عازفة البيانو. لذلك، فأنا لا أعد أن ما كتبتُه للبيانو يشكل عددًا كبيرًا من الأعمال. ثم إن الكتابة للبيانو هي عملٌ شاقّ. أفضّل التأليف للأوركسترا. ثمة حدود موسيقية، أو تقنيّة، للبيانو، لا أحبّ التقيد بها. لكن، بلا شك، إن عزف تاتيانا بريماك منحني حريّةً متفرّدة في الكتابة للبيانو، فبسبب مهارتها وتمكّنها كتبت ما أريد، وهي في دورها أوصلت أفكاري على نحوٍ بارع، ثم تتوَّج هذا التعاون بإصدار أسطوانتين للبيانو (شركة جراند بيانو ناكسوس) تضم أعمالًا للبيانو لمؤلفين موسيقيين لبنانيين، حيث سجلت من أعمالي السوناتا رقم 3، ورقم 4.


(*) الموسيقى العربية، عبر تاريخها، هي غناءٌ بالدرجة الأولى. نلاحظ أنك لم تكتب كثيرًا من الأعمال الغنائية قياسًا لما كتبته باللغة الصرف للموسيقى، كما أنك لم تتعامل كثيرًا، في مؤلَّفاتك الموسيقيّة الغنائية، مع النصوص الشعرية العربية. ماذا تقول عن علاقتك بالشعر والموسيقى الغنائية عمومًا؟
صحيح. كتبت عددًا قليلًا من الأعمال الغنائية، أذكر منها "Stabat Matter" (سوبرانو، تينور، تشيللو وبيانو)، وفي مرحلة الدراسة ألفت "عابرون في كلام عابر" (باريتون وأوركسترا)، شعر لمحمود درويش، ثم أعمالًا أخرى لجبران خليل جبران، وغوته (الشاعر الألماني) مع البيانو، ثم أعمال لجاك أسود، ونزار قباني، ومن آخر أعمالي الغنائية، بالإنكليزية، لجوقة وأوركسترا وترية وبيانو (شعر محمود درويش)، وغيرها. ومن أكثر المغنين الذين غنوا أعمالي فادية طُنب الحاج، وقريبًا ستصدر أسطوانة بصوتها تضم عملين غنائيين من تأليفي، ضمن مجموعة من الأعمال لمؤلفين آخرين.


(*) تجربتك في تعليم الموسيقى، في لبنان، تحديدًا. ما هي المفاصل الفارقة فيها؟
تجربتي التعليمية في لبنان ليست بالتجربة الجيدة لعدة أسباب. أولًا، أن مجتمعنا ما زال غير جاهز لفكرة أن تعلم الموسيقى يحتاج إلى جهد ومثابرة كبيرين. ثانيًا، طُغيان النجومية على التّلمذة. ويعود السبب الثالث إلى اكتفاء المعلمين، عمومًا، بمعارفهم، وعدم طموحهم إلى مزيد من المعرفة والتدرّب والخبرة، وهذا أمر ضروري في عالمٍ متسارع التطور والتغير، وهو ضروريّ كذلك لفهم العلاقة المعقدة بين الموسيقى الجادة وواقع حياتنا في هذا الزمن. هذا من جهة، ومن جهة أخرى هنالك الجانب المعيشي، حيث لا وجود لصمام أمان في هذا العمل في لبنان، ومنظومة الفساد السياسي متغلغلة بعمق وخبث، حتى في هذا المجال. مع ذلك، أحاول جاهدًا أن أبث روحًا جديدة وحبًّا للمعرفة الموسيقية عند طلابي، بما يتواكب مع عمق تجربتي وتطورات العالم المحيطة بنا.


عن المشهد الموسيقي الكلاسيكي العربي اليوم
(*) المشهد الموسيقي الكلاسيكي العربي اليوم، كيف ترى إليه؟ وإلى أين هو ذاهبٌ في رأيك؟
لا أعرف كثيرًا عن هذا المشهد. أعرف قلة من المؤلفين العرب من خارج لبنان. ولكن، لو تحدثنا عن لبنان، فمما لا شكّ فيه أن لبنان أنجب عددًا من المؤلفين الكبار، مثل أنيس فليحان، وتوفيق سكّر، وبشارة الخوري، وعبد الله المصري، وجورج باز، وبوغوص جيلاليان، وناجي حكيم، وبشرى الترك، وهبة القواس، ورامي خليفة، وغيرهم كُثر. وبالتالي، فالمشهد اللبناني، تحديدًا، قياسًا بالمشهد العربي العام، هو مشهدٌ غني في الإبداع. إلى أين هو ذاهب؟ لا أعرف.




في هذا الظرف الاقتصادي والسياسي، المستقبل مجهول، والمسألة لا تتعلق بالإبداع الفردي فقط، بل بدعم الوزارات المعنية، وتمكين المؤسسات المهتمة، وهذا غير متوفر في هذه الظروف الصعبة.


(*) ما هي أسباب هذا التميز، في لبنان، في رأيك؟
في اعتقادي، ثمة سببان أساسيّان يُساهمان في هذا التميّز. الأول هو سببٌ تاريخيٌّ مستمر، وهو وجود كثير من البعثات الإرسالية المسيحية في لبنان، كثيرٌ من رُهبانها ورجال الدين فيها قدموا من ثقافة الغرب، ومارسوا الموسيقى، ثم نقلوها إلى أبناء الجيل الأول من الموسيقيين اللبنانيين، الذين قاموا هم في دورهم، في ما بعد، بنقل هذه المعرفة والممارسة إلى أجيال لاحقة. وامتدادًا لهذا العامل، فإن وجود مجتمع مسيحي أكبر من أي مجتمع مسيحي آخر في دول عربية أخرى، مرتبط ثقافيًا بموسيقى الكنيسة وثقافة الغرب الموسيقية عمومًا، هو عامل مساعد كذلك. ولكن، السبب الثاني الهام، هو في التنوع الثقافي الكبير الموجود داخل المجتمع اللبناني؛ بمعنى أن المكوّن المسيحي ما كان لينفتح ثقافيًّا، بمعارفه الموسيقيّة، لولا وجود هذا التنوع والتثاقف الذي هو في صلب النسيج الاجتماعي اللبناني، والذي لا يُشبهه أي مجتمع عربي آخر سوى، ربما، في سورية وفلسطين إلى حد ما.


(*) هل ألفت شيئًا في الفترة القريبة الماضية... بعد انفجار بيروت؟
بعد انفجار بيروت... وتحت تأثير هذا الحدث الجلل، ألفت عملًا للتشيلو منفردًا بعنوان "ظلال الوقت"، وعملًا للكمان والوتريات بعنوان "الرحلة"، وعملًا منفردًا آخر للماريمبافون بعنوان "الرقص على حافّة الزمن"، ثم عملًا للأبوا والباصون والوتريات. ولا تنسى أن هذا تزامن مع زمن الحَجْرِ في البيوت الذي نعيشه في هذه الأيام، مما وفر لي وقتًا أوسع للتأليف الموسيقي. وأعتقد أن هذا النمط الجديد من الحياة التي نعيشها قد ألقى بظلاله على أسلوبي الموسيقي، فقد تظهر في هذه الأعمال بوادر أسلوبٍ جديد.


(*) هل توقّعت حدوث انفجار بهذا الحجم في بيروت؟ هل بقي من "صوتها" شيءٌ بعد هذه "الصّرخة" المُدوّية؟
أعمالي السابقة للانفجار، كأني بها تنبأت بما سيحدث. والحقيقة أن ما حدث في بيروت من حادثٍ جلل ربما كان مفاجئًا في الشكل وفي المُباشرة، لكنه لم يكن مفاجئًا من حيث حتمية حدوث "انفجار"، فكلّ شيء كان يُنبئ بذلك. لكنني أريد أن أختم إجابتي على هذا السؤال بذكرى ذات دلالة: عام 2002، في ألمانيا، وضمن أحد مهرجانات مدينة فايكرزهايم (Weikersheim)، كتبت عملًا موسيقيًّا بعنوان "Land der Schatten" (بلاد الظلال)، وحينها قلت إن ثمة مدنًا، حتى لو دُمّرت، فهي لا تموت، مثل برلين ودريسدن... وكذلك هو حال بيروت: "تصرخ"، لكنها لا تموت.

"حدائق الحب"، للكلارينيت والآلات الوترية، من تأليف الموسيقي اللبناني هُتاف خوري

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.