}

حسن الطالب: أزمة نظرية الأدب بدأت مع الألفية (2/1)

إدريس الخضراوي إدريس الخضراوي 24 فبراير 2021
حوارات حسن الطالب: أزمة نظرية الأدب بدأت مع الألفية (2/1)
ترجم الدكتور حسن الطالب مؤلفات هامة في ميدان النقد

بَعدَ مَجموعةٍ مِن المؤلفاتِ المؤثرةِ التي تجيب عن عدد من المشكلاتِ والأسئلةِ المطروحةِ حول الدراساتِ الأدبية والنقد ونظرية الأدبِ، وعدد من المحاضراتِ الموسوعية عن مونتين، وبروست، وسارتر، في الكوليج دو فرانس، أرقى مؤسسة أكاديمية فرنسية، برز اسم أنطوان كومبانيون، الأستاذ في جامعة السّوربون، وفي جامعة كولومبيا في الولايات المتحدة، كواحد من أهمّ وألمع منظري الأدب في السنوات الأخيرة. فرغم التّلمذة على كبار النقّاد والدارسين في النصفِ الثاني من القرنِ العشرين، وفي طليعتهم، رومان جاكبسون، ورولان بارت، وجوليا كريستيفا، التي أشرفت على أطروحته، يبدو كومبانيون منظرًا قادمًا من بعيد، أنصت بعمق إلى أفلاطون، وأرسطو، وتقصّى مونتين، وروسو، بالقدر نفسه الذي استكشف فيه أدب كبار كتابِ الحداثةِ ومناهضيها، إذا استعرنا عنوان كتابه (مناهضو الحداثة (2005). تصدر أعماله عن قدرة هائلة على التركيبِ والمزجِ بين الثقافة الفرنسية والثقافة الأنجلو أميركية، كما تكشف عن تصور مختلفٍ للدراسات الأدبية يقوم على أنّ العلاقة بين النظرية والتاريخ يتعيّن أن تكون مؤسّسة على التلاقح، وبالتالي فلا غنى عنهما للدراسات الأدبية كي تتطورَ ويتجدّد الاهتمامُ بها، وذلك بِخلافِ التصوراتِ الكلاسيكية التي قامت على الفصلِ بينهما، وميزت بين الشكلِ والمضمونِ. وبالنظرِ إلى الأهمية الكبيرة التي تكتسيها المدونة النقدية لهذا الناقد المفكّر الذي يَتموقعُ نهجه النقدي في منطقة تعدّ في الوقت الرّاهن من أكثر المناطق إثارة للأسئلة، وبحكم القيمة التي تمثلها افتراضاته النقدية في مواجهة إشكاليات النقد الأدبي بصورة عامة، والنقد الأدبي العربي المعاصر بصورة خاصّة، سَنحاولُ الاقتراب من جهوده في حقل النظرية الأدبية، في هذا الحوار مع المترجم المغربي، الدكتور حسن الطالب، أستاذ النظرية الأدبية والأدب المقارن في كلية الآداب بجامعة ابن زهر ـ أغادير.
ويعدّ حسن الطالب مترجم العديد من المؤلفات المحورية في ميدان النظرية والنقد، مثل: ما التاريخ الأدبي؟ وظاهرة الأدب لـ كليمان موزان، وإشرافه على ترجمة كتاب موسوعي في نظرية الأدب هو "نظرية الأدب"، الذي أشرف عليه دووي فوكيما، ومارك أنجونو، وجون بيسيير، وإيفا كوشنر، والصادر عن منشورات PUF عام 1989، ويظلّ إلى حد الآن مرجعًا جامعًا وشموليًا في جميع القضايا التي تتصل بالأدب ونظريته، والطالب في طليعة الباحثين المهتمين بالنظرية الأدبية في العالم العربي بصورة عامة، وبأنطوان كومبانيون بشكل خاص، وقد ترجم له كتابين مهمين: شيطان النظرية (Le Démon de la théorie) ولم يصلح الأدب؟ (La littérature, pour quoi faire?)، اللذين سيصدران قريبًا عن دار الكتاب الجديد المتحدة.
هنا الجزء الأول من الحوار ويتبعه جزء ثان وأخير غدًا:



مُغامرةَ البَحْثِ العلْميِّ في النّقدِ الأدبيِّ

أنطوان كومبانيون في كوليج دو فرانس في باريس (12/ 11/ 2015/ فرانس برس)


(*) يعرَف عن حسن الطالب اهتمامه العميق بأسئلة النظرية الأدبية، وبجهود الباحث الفرنسي أنطوان كومبانيون. وقد أنهيتم ترجمة كتابه العمدة: "شيطان النظرية"، كما ترجمتم الدرس الافتتاحي الذي قدمه بالكوليج دو فرانس بعنوان: لم يصلح الأدب؟ كيف تقرّبون القارئ العربي من انشغالات هذا الباحث الذي يوصف اليوم بأنه من أبرز منظري الأدب في القرن الواحد والعشرين؟
بداية أشكر منبركم، ومن خلاله شخصكم الكريم، على هذه الاستضافة الكريمة للحديث عن نظرية الأدب ككل، وعن أحد أعلامها البارزين في السّاحة الدولية، الذي كانت لنا فرصة الاحتكاك ببعض مؤلفاته في هذا المجالِ، وترجمة أعمالهِ إلى اللغةِ العربيةِ، مثل كتاب "شيطان النظرية"، وكتيبٍ صغير تَحتَ عنوان "لم يصلح الأدب؟". وعزمنا كذلك على الاشتغال بترجمتين إحداهما لكتابه المعروف "مفارقات الحداثة الخمس" (سوي، 1990)، والثانية لكتاب "مناهضو الحداثة: من جوزيف لومتر إلى رولان بارت" ( غاليمار، 2005). ولا بأس أولًا من التعريف بأنطوَانْ كومْبّانْيُونْ (1950 - .....)، الذي يعد أحَدُ أنْشَطِ نُقَّادِ الأدَبِ، ودارسِيهِ في فرنْسَا، بلا منازعٍ، وهو تلميذٌ قديمٌ من مَدرسَةِ "البوليتكنيك" المشهُورَةِ في فرنْسَا (دُفعَة 1970)؛ ومجالُ تخصُّصُهِ الأصلي مُهندِس جُسُورٍ وشوارعِ؛ وبتأثيرٍ مُباشرٍ من رولان بارْت، وجوليا كريستيفا، اكتشَفَ العالَمَ السِّحريَّ للآدَابِ على الخصوصِ، والعلوم الإنسانيَّةِ، على العمومِ. فقرَّر، بدْءًا من عام 1979، أن يُعمِّقَ تكْوينَهُ، العلْميَّ ـ التقنيَّ، بتكوينٍ أنَسيٍّ في الدِّراسَاتِ الأدَبيّةِ، فخاضَ مُغامرةَ البَحْثِ العلْميِّ في النّقدِ الأدبيِّ، ونالَ فيه شهادَة الدكتوراة عام 1985. وهو، أيضًا، عُضو مُؤسسٌ لمعْهَدِ البُحوثِ والدِّراساتِ العلْميةِ، وأستاذٌ للأدَبِ في جامعَتَيْ "رُوان"، وللأدَبِ الحدِيثِ والأدَبِ المقَارَنِ في جامعَةِ كولومْبيا في نيويورك (سابقًا)، من عام 1985 إلى عام 1988؛ ثم مِن عام 1991 إلى عام 1994. وبعد أن حازَ شُهرةً في حقْل ِالدِّراساتِ الأدبيَّةِ، أُنتُدِبَ مُدرِّسًا، ورئيسَ قِسْمٍ للدِّراساتِ الأدبيّةِ في جَامِعَةِ السُّورْبونْ (باريس 6)، بدءًا مِن عام 1994؛ بيد أن صِلتَهُ بالجامِعاتِ الأميركيَّةِ لم تَنْقطِع، بل تواصَلَت في صورةِ أستاذٍ زائرٍ في كلِّ من جامعتي برنستون وكولومبيا. وعلى الإجمالِ، يُعَدُّ كومبانيون عالمًا ألمعيًّا من عُلمَاءِ الأدَبِ في العَصْرِ الحَديثِ؛ فقد تميّزَ بأطروحَاتهِ الرَّصينَةِ في مجَالاتِ التّاريخِ والنقْدِ الأدَبيَّيْنِ، والدِّراسة الأدَبيَّةِ، ونَقْدِ السِّيرةِ الذّاتيةِ (النَّقْدُ البْيوغْرافيُّ)، (مونْتينْ، فْلوبِيرْ، بْروسْتْ، بودْليرْ، بارتْ)، فضْلًا عن تَحْقيقِ النُّصُوصِ وإعادَةِ نَشْرِهَا (برُوسْتْ، جونْ ريسْكِسَنْ، بودْليرْ، فْلُوبيرْ). ولا يزالُ، إلى اليوْمِ، أحَدَ أبرَزِ مُتصدِّري المشْهَدِ النّقْديِّ الأدَبيِّ الفرنْسِيِّ؛ دليل ذَلكَ مُنْجَزٌ نقْدِيٌّ دَؤُوبٌ تجاوزَ العِشْرينَ عمَلًا، بَعْضُهَا يَتمتَّعُ بِسُلطَةِ المرْجِعِ الذي لا غِنَى عنه لدَارسِ الفِكْرِ والنَّقْدِ الأدبيَّيْنِ الحَدِيثَيْنِ، مثل "جُمْهُوريّةُ الآدَابِ الثّالثَةِ" (1983)، و"اليَدُ الثّانيةُ، أو اشْتِغالُ الشَّاهِدِ" (1982)، و"المفَارَقاتُ الخَمْسُ للحَداثَةِ" (1992)، و"شيْطانُ النَّظريَّةِ" (1998)، و"مُناهِضُو الحَدَاثَةِ"، وأخيرًا مُؤلَّفُهُ في الدِّراساتِ الثَّقَافيةِ والمونوغْرافيَّةِ، الفريدُ مَنْهَجًا ومَوْضُوعًا: "جامعو الخِرَقِ في بَاريس" (2017)، ناهيكَ عن أكثرَ من مئة وخمْسينَ مقالةً نقْدِيةَ في شتَّى المجَالات العِلْميةِ، والإسْهامِ في إعدَادِ العَديدِ من الموادِّ الأدبيةِ لصالِحِ القَوامِيسِ الموْسوعيَّة، مثل "الموسوعَةُ الكونيةُ" Encyclopedia Universalis، والكتُبِ الجماعية، مثل "فِكرُ أورُوبا" L’esprit de l’Europe (1993)، ودراسات مونوغرافيةٍ حوْلَ الروائيِّ المشهورِ مارْسيلْ بروسْت، وشارلْ بودْلير، وغوسْتافْ فْلوبير، وبول مُورانْ، وأدَبِ القرْنِين التاسعَ عشرَ والعشْرين، وتاريخِ النَّقدِ الأدَبيِّ، وتاريخ التَّعليمِ، وقضايا المنهَجِ الأدبِّي والنَّقديِّ، وغيرها.

أما عن ملابسات ترجمتنا لكتابه "لم يصلح الأدب؟"، فقد أعجبت جدًا بقراءة هذه المحاضرة التي ألقاها كومبانيون في الكوليج دو فرانس عام 2006، وصدرت في كتيب اقتنيتُه عند زيارتي لباريس في صيف 2008، وفيه يحاول الإجابة عن أسئلة مفصلية في حاجتنا للأدب وضرورته في حياتنا المهنية والخاصة، من قبيل: ما دور الأدب في التاريخ؟ وما المناهج والأدوات التي يمكن اعتمادُها في مقاربتِهِ وتدريسِهِ؟ وما دوره في مقتبل الألفية الثالثة؟ وما الذي يمكن أن يُمِدَّ به الإنسان من عناصر القوة في كينونته؟ وأين تكمُنُ فائدتُهُ في حياتنا الاجتماعية؟ وهل لا يزال يحتفظ بسلطته التربوية والتثقيفية التي طالما اقترنت به وبتعريفه؟ وأيُّ وظيفةٍ يمكن أن يمارسها اليوم؟ ولماذا الحديث بعد كلِّ ما مرَّ، في مستهلّ القرن الحادي والعشرين، عن "الأدبِ الفرنسي الحديث والمعاصر"؟ وما القيمة التي في وُسع الأدب إبداعها وإيصالها في عالمنا الراهن؟ وما المكانة التي ينبغي أن يحتلَّها في الفضاء العمومي والخاص؟ وهل ينطوي على منفعةٍ في الحياة؟ ولماذا الدفاع عن حضوره بين جدران المدرسة؟ وما مصيره في ظل التهديد التي يتعرض له، ولا سيما ما يتصل بمظاهر التضييق التي مارَسَتْها في العقود الأخيرة الصورةُ ووسائلُ التواصل الإعلامي الجديدة على اختلافها؟ وهل الأدب في طريقه إلى الاحتضار فعلًا، كما روجت بعض الكتب؟ تلك هي بعض الأسئلة التي يحاول أنطوان كومبانيون الإجابة عنها في هذه المحاضرة المهِمَّة التي ألقاها في الكوليج دو فرانس (في 30 تشرين الثاني/ نوفمبر 2006). وكدأب كومبانيون في كثيرٍ من بحوثه العلمية ومحاضراته، فهو لا يَميلُ إلى تقديم إجاباتٍ حاسمةٍ ونهائيةٍ عن تلك الأسئلة التي يطرحُها بشأن الأدب، أو نظريته، وإنما يعودُ إلى نماذجَ حيَّةٍ في تاريخ الأدب الفرنسي والعالمي للإجابة عنها، ولا سيما لدى كبار الأدباء والكُتّاب الذين عَدُّوا الأدب قيمةً من القيم العليا تُعادلُ الوجود في عمومه، والحياة في تفاصيلها (بودلير، وبروست، ودي موزيل،... إلخ)، وإلى نُقّادٍ مشاهيرَ تأملوا وظيفة الأدب وجدواه في حياة الإنسان (فاليري، ولانسون، وسانت بوف، وبونوفوي، وج. بلين، ور. بارت، وإ. كالفينو).




كيف نستعيدُ اليوْمَ مُغامَرةَ النَّظريةِ وسِجَالها

كتاب "نظرية الأدب" للناقد أنطوان كومبانيون 


(*) يشدّد كومبانيون على أن الدراسات الأدبية الفرنسية لم تكن قبل الستينيات في مستوى الجهود التي تبلورت في بلدان أخرى، كالشكلانية الروسية، ودائرة براغ، والنقد الأنجلو أميركي.. ألا ترى في هذا القول تقليلًا من شأن النظرية الأدبية الفرنسية، خاصّة عندما نحيل، على سبيل المثال، إلى الجهود الشعرية لكل من مالارميه، وبول فاليري، وجون بوميي؟
لا، أبدًا. كومبانيون يبدي فقط ملاحظة بسيطة بشأن وضع النظرية الأدبية الفرنسية (French théorie)، ولا يقلل منها أبدًا، وهو يقيسُ منجزها بما قدمته بلدان قبل بزُوغها مع البنيوية والشعريات، على اختلافها. والحقيقة أن كومبانيون في هذا الكتاب يَهْتَمُّ بمسَارِ النَّظريّةِ الأدَبيَّةِ في سِيَاقِ المشْهَدِ النَّقْدِيِّ الأدَبيِّ خِلَالَ القرْنِ العِشرينِ، مُنْطَلِقًا مِنَ التّجْربَةِ الفَرنْسِية بالتحديدِ، وهي تجْرِبَةٌ يَخْتَلِفُ مسَارُها في النّظريَّةِ الأدبيّةِ عَنْ مَسَارِ سَائرِ البُلْدَانِ التي أدْلَتْ بدَلْوِها فيهَا، مِثْلِ أميركا، وألمانيَا، وروسْيا، وسْويسْرا، على سبيلِ المثَالِ لا الحَصْرِ. فقد وُصِفَ مَسَارُ النَّظَريةِ، في فرنْسَا، بالضَّحَالةِ والقصُور من النّاحيةِ النَّظريَّةِ، لأسبَابَ، مِنْهَا، في نَظَرِ المؤلِّفِ، أنّ هذَا البلَدَ لم يَشْهَدْ، مِثْلَ سَائِرِ البُلدَانِ المذكورةِ آنِفًا، تقَاليدَ نَظَريَّةً عريقَةً، باستثْناءِ شِعْريَّةِ بولْ فاليرِي؛ ومنْهَا، كما ينقُلُ المؤلِّفُ عن ليوسبِّتْزرْ، "وجودُ شُعُورٍ قَديمٍ بالتَّعالي مُرتَبِطٍ بالتَّقليدِ الأَدَبيِّ والفِكْرِيِّ المتَوَاصِلِ والمبْهِرِ" (مُقدِّمةُ المؤلِّفِ) الذي تحقّقَ في هذَا البَلَدِ منذُ القرْنِ الثّامِنِ عشَرَ على الخُصوصِ؛ يُضافُ إلى ذَلِكَ هيْمنَةُ التَّصوُّرِ الوَضْعيِّ (تينْ، برونتْييرْ، لانْسونْ) على الدِّراساتِ الأدَبيَّةِ لزمَنٍ طويلٍ، وهو تَصَوُّرٌ ظلَّ يُلْقِي بتأثيرهِ حتَّى النِّصْفِ الأوَّلِ مِنَ القرْنِ الماضِي، ثم، أخيرًا، هَيْمَنةُ الممارسَةِ المدْرسيَّةِ على شَرْحِ النَّصِّ، وكانَتْ عبارةً عن وصْفٍ ضَيِّقٍ للأشكَالِ الأدبيَّةِ حَالَ، للأسَفِ، من دونَ تطوُّرِ مَناهِجَ صَارمَةٍ وفعَّالةٍ. هذِه الأسبابُ مُجتَمِعةً، وغيرُها، أفضَتْ، في نظَر كومْبانْيُونْ، إلى أن يكونَ إسْهامُ الفرنْسيّينَ في النّظريةِ الأدبيّةِ دون إسْهَامِ جِيرانهمْ الأذْنَوْنَ، من الألمانِ، والإيطاليَّينَ، والسْويسْريينَ، وكذلكَ جيرانهِمْ مِن الرُّوسِ والأميركيِّينَ. في هذا الكِتَابِ، يعُودَ كومبانيون قليلًا إلى الوَراءِ، وتحديدًا إلى السِّتينَياتِ والسَّبعينياتِ مِنَ القرنِ الماضِي، في ما يُشبِهُ مَسْحًا لمسَارِ النّظَريةِ في فرنْسَا، الشَّيء الذي جعَلُ عمَلَهُ هذا أقرَبَ إلى أنْ يكُونَ، في الوقت نفسه، حَنينًا (nostalgie)إلى الماضِي القَريبِ الذي كانت فيه النَّظريةُ تملأُ الدُّنيا وتشغلُ الناسَ، وتفكيكًا لمسَارهَا، من خِلالِ الوُقوفِ عند أكثَرِ مفَاهيمِهَا إثارَةً للجَدَلِ. فما الذي تبقَّى، إذَنْ، من مَشاعِرِ الحُبِّ والغَرامِ إزاءَ النَّظريّةِ؟ يتَساءَلُ الباحِثُ. وهل ولَّى زمَنُ النَّظريةِ إلى غيْرِ رجعةٍ؟ كيف نُقيِّمُ حَصيلَةَ تِلْكَ الفَتْرةِ التي انتَعَشَتْ فيهَا الأفكارُ بشَأْنِ الأدَبِ، في صورةِ أنساقٍ نقْديةٍ مختَلفَةِ المشَاربِ والخلْفِياتِ؟ كيف نستعيدُ اليوْمَ مُغامَرةَ النَّظريةِ وسِجَالها مع الأفكَارِ المسْبَقةِ، والنَّمَطيّةِ، التي تغذَّى عليها خيالُ القُرّاءِ في تعامُلِهِمْ مع الأدَبِ على مَدى زمَنٍ طويلٍ؟ أَلَمْ تتَحاذَ المنَاهجُ، الخارجيَّةُ والدّاخِليةُ، للأدَبِ فوجدَتْ نفْسَها، في السِّتينيات والسَّبعينياتِ، مُتحلِّقةً حول المائدَةِ نَفْسِهَا (تاريخُ الأدَبِ: لانسون، ورودلر)، البنيويةُ (بيكار، بارتْ)؛ سوسيولوجْيا الأدَبِ؛ علْمُ نفْسِ الأدَبِ، السّيميولوجْيا، النّقدُ الموضوعَاتيُّ، جماليّاتُ التّلقِّي، النَّقدُ التَّكوِيني...)، مع اختِلافِ في درجَةِ القُوّةِ والحُضُورِ؟ كيف نَرْصُدُ مظَاهرَ الاتِّصَالِ والقطيعَةِ بينَها، جَميعًا، وهي تُدْلي بدَلْوِها، بشَأْنِ الـمُشْكِلاتِ الكبرى في النَّظريةِ الأدبيَّةِ خلالَ تاريخِهَا الطّويلِ، والتي حَصرَها الباحثُ في سبْعَة مفَاهيمَ رئيسَةٍ هيَ: الأدبيّةُ، والمؤلِّفُ، والعالَمُ، والقارئُ، والأسلُوبُ، والتّاريخُ، والقيمَةُ؟ وهي المفاهيمُ، عينُها، التي أتاحَتْ له، كما سنَرى، خَلْقَ حِوارٍ نقْدِيٍّ مُوسَّعٍ وعمِيقٍ بشأنِ أكثَر الجدالاتِ حِدّةً وخُصُوبةً، التي عرَضَ لها الباحِثُ، بدءًا مِن أرِسْطو (Aristote) حتى القِس بَاتُو (Batteux) مرورًا بالتفاتةٍ تكريميةٍ خاطِفَةٍ عرَّج فيها على النَّظرياتِ الأدَبيَّةِ القديمةِ، في القرونِ الوُسْطى والكلاسيكيَّة. ولأنّ المؤلِّفَ فرنْسيٌّ عايَشَ تطوُّرَ النّظريةِ الأدبيّةِ في فرنْسا، ودرَّسَ فُصُولهَا بجامِعَةِ السُّوربون لأكثر مِن خمْسَة وعِشرينَ عامًا، ولأنَّهُ أحد المنظِّرينَ الذين انخرَطوا بقُوَّةٍ منذ عام 1979 في إعَادة "ترتيبِ أوْراقِ" النَّظريّةِ في هَذا البلَدِ، إن جازَ التّعبيرُ، بفَضْلِ عدَدٍ من مُؤلفَاتهِ التي تحوّلتْ إلى أُطُرٍ ومَرْجعيّاتٍ عِلْميةٍ لا يَسْتغْني عنها طالِبُ العلْمِ في هذا الحَقْلِ كما أشرنا، ناهيك عن تجربةٍ طويلَةٍ في تدْريسِ الأدَبِ الحَديثِ والمقَارَنِ في جَامِعةِ كولومبْيا في الوِلَاياتِ المتّحِدَةِ الأميركيّة دامَتْ عشْرَ سنَواتٍ، واطِّلاعِه، مِن ثمةَ، على مُنْجَز منَظِّري الأدَبِ في العالَم الأنكلوسَاكْسوني (هيرْشْ، فيشْ، مثلًا)، أقول بحُكْمِ ذلكَ كُلِّهِ يتنزَّلُ هذا الكتابُ منْزلَةَ تقْييمٍ لحَصيلَةِ النَّظريةِ الأدَبيةِ، كما تجلَّتْ في فضَاءاتٍ عِلْميةٍ مختلفةٍ، ولدى أعْلَامٍ اختلفَتْ تَصوُّراتهِم للأدبيِّ باختِلافِ خَلْفيّاتهِم الأدبيّةِ والفكريّةِ والفلْسِفيّةِ. ومع ذلِكَ، لا يؤرِّخُ الكتابُ للنّظريةِ الأدبيَّةِ، ولا لأعلامِهَا، ولا يَستَعْرضُ جَوانبِها استِعْراضًا تاريخيًّا، فبالأحْرى أنْ يُقدِّمَ عنها وصْفَاتٍ، أو لما كانَ، أو ينْبَغِي، أن تكُونَ عليْهِ. كما أنَّهُ لا يزعُمُ، الإحاطَة بكُلِّ مُشْكلاتِها المتشَابكَةِ والمعَقَّدةِ، بل هو، في المقَامِ الأوّل، محاوَرةٌ وسِجالٌ نقْدِيٌّ لا يهْدِفُ إلى الحُكْمِ، أو التَّصْنيفِ، أو القَوْلِ الفَصْلِ، ولا إلى الإنصَافِ كذَلكَ، وإنما يَتَوخَّى المسَاءلَةَ النَّقْديةَ، وتحْديدَ التّقَاطُعاتِ، وخَلْعَ هَالَةِ الأسْطورَةِ عنِ النَّظرِيةِ (démythifier la théorie) في سبيلِ تشْخيصٍ لأهمِّ محطَّاتِها في علَاقتِها بالمفَاهيمِ الكُبْرى التي ميّزتْ مَسَارَها الطَّويلَ. إنهُ، إذَنْ، كتَابٌ يندَرِجُ في إطارِ نقْدِ النَّقْدِ، أو النَّظريةِ الواصفَةِ (méta-théorie)، اعتمدَ فيهما المؤلِّف على كلِّ ما أوتيَ من مَهاراتِهِ في التّوصيفِ النَّقْديِّ، والتَّقْييمِ والتَّعْليقِ والمقَارَنَةِ، التي سبقَ لهُ أن أبانَ عنْهَا في أبرَزِ كتُبِهِ التي ذكَرْنا عَيِّنةً مِنْهَا أعلاهُ.

ويجب التذكير بأن المؤلف انْطَلَقَ من مُلَاحَظةٍ بَسِيطةٍ، وهي أنَّ حَصِيلةَ النَّظريةِ الأدَبيَّةِ في فرنْسَا لم تكُنْ مُثْمِرةً مُقارَنةً ببُلدَانٍ أخْرى ذكَرهَا الباحِثُ بالاسْمِ، كما ذكَر أعْلامَهَا بالاسْمِ أيضًا. فإنكلترا وألمانيا وروسْيا وإيطاليا، مثلًا، عرفَتْ تقاليدَ نظَريّة استمَدَّتْها من الهيرمينُوطيقَا، وفلْسَفَةِ اللُّغةِ، واللِّسانِياتِ، وذاَعَ صِيتُهَا بوَصْفِها أنسَاقًا نظريةً، ومدَّتْ بظِلَالهَا على سَائِرِ البِلَادِ الأوروبيّةِ؛ في حين تَرسَّخَتِ التَّقاليدُ الوَضْعيّةُ المتحَدِّرةُ عن تِينْ وبْرونُتْييرْ ولَانسُونْ في فرنسا، فَمَدَّتْ بأطنَابها فِي التَّعْليمَيْنِ الثَّانويِّ والجامِعيِّ، وحالَتْ، بفِعْلِ ذلِك، من دون ظُهورِ أنسَاقٍ نظَريّةٍ أدبيةٍ جَديدَة. كان، إذَنْ، على فرنسا انتظارُ اكتِشافِ لسانيّاتِ سُوسيرْ ما بين عامَيْ 1880 و1891 من القرْنِ التاسِع عشَرَ، وبدايَةِ تغَلْغُلِ التَّصوُّراتِ البنْيويَّةِ اللِّسانيةِ في فرنسا، إلى حقْلِ النَّقْدِ الأدَبيِّ، مع حَلقَةِ براغْ في الخمسينيات ، ثم أخيرًا مَعَ ترجَمَةِ نُصوصِ الشَّكلانيين الرُّوس على يدِ تودوروف عام 1965 ، من دون أن نَغْفَلَ إسهَامَ جاكْ دريدَا في شَقِّهِ سُبلًا جدِيدَةً في التَّفكيرِ في اللُّغَةِ والعلَامَةِ، ورولانْ بارتْ في مُسَاءَلتهِ لحدودِ الأدَبِ وممكنَاتهِ منذ الخمسينيات، وبولْ ريكُورْ في فتْحِهِ لآفاقَ جَديدَةٍ في الهيرمينوطيقا، حتى نلْحَظَ بوادِرَ تحوُّلٍ جِذْريٍّ يصفُهُ كومْبانْيُونْ بـ"الانقلَابِ الغريبِ"، لتَجِدَ النّظريةُ الفَرَنْسيَّةُ نفْسَهَا ، فَجْأةً، ما بيْنَ 1963 (نهَايَةُ حربِ الجَزائرِ) و1973 (ظهُورُ أوَّلُ صدْمَةٍ بِتْروليةٍ في العالَم) بالتحديدِ، في طليعَةِ الدِّراسَاتِ الأدَبيّةِ، فوصَلَتْ إلى أوْجِهَا عام 1970، وتلَأْلأَ بريقُهَا تحْتَ مُسمَّياتٍ عديدةٍ مِن قَبيلِ "النّقْدِ الجَديدِ"، و"الشِّعريّةِ"، و"البنْيَويّةِ"، و"السِّيميولوجْيا"، و"السَّرْدِياتِ". كانَت هذه الموجَةُ الجديدَةُ أشبه بالسَّيْلِ الذي جَرَفَ معَهُ جيلًا من الباحثينَ والمنَظِّرينَ والأساتذَةِ الجامِعيِّينَ، فغدَتْ جذَّابةً، ومُبْهرَةً، ومُقنِعةً. وبذلكَ استدْركَتِ النَّظريةُ الأدبيةُ في فرنسا ما فَاتهَا، وكأنها رَجَعَتْ خُطْوةً إلى الوَراءِ فقَفَزَتْ خُطْوَتَيْنِ نحو الأمَامِ، على حدِّ تعبيرِ كومْبانْيُونْ. إلا أنَّ هذِهِ التطوُّرات التي عرفتْهَا النَّظريةُ اصْطدَمَتْ بعَاملٍ كان لهُ أبلَغ الأثرِ في مصيرِ النَّظريةِ الأدبيَّةِ، نعني بهِ تغَلْغُلَها في المؤسَّسة المدْرسيَّةِ، لا سِيَّمَا الثّانوية والجامعيّة، التي وجدَتْ فيهما مجالًا لتَصْريفِ مُنْجَزِهَا المفهوميِّ والاصْطِلاحيِّ، لتتحوّلَ، للأسَفِ، إلى مجرَّدِ أداةٍ يُقاسُ عليها نجَاحُ الطَّلبةِ، أو إخفاقُهُم. بعبارةٍ أخرى، لقد اتخذَتِ النَّظريةُ طابَعًا مؤسَّساتيًّا، فتحوّلتْ إلى تِقْنيةٍ تعليميّةٍ، جافَّةٍ مُفتقِدَةٍ إلى الحيويَّةِ والملاءَمَةِ، فارتمَت في أحْضَانِ القَدَرِ المدْرَسيِّ، وأضْحَتْ مجرَّدَ وصْفَةٍ تعْليميَّةٍ صَارمَةٍ، وألزَمَتِ الطَّالبَ، كي ينْجَحَ في الامتحان، أن يُلِمَّ بطائفةٍ من المصْطلحَات التِّقنيةِ. فهل كانَتْ النَّظريةُ الأدَبيّةُ، إذَنْ، في فرنْسَا مُجرَّدَ سحَابةٍ عابرةٍ استَغرقتْها هواجِسُ تعليميةٌ ليس غير؟ بكلِّ تأكيدٍ؛ والسبَبُ، يؤكِّدُ كومْبانْيُونْ، أنَّ النظَريةَ لم تجدْ لها خَلَفًا، يحمِلُ مِشعلَهَا، ويواصِلُ مَشْروعَها. فقد رَغِبَ بعضُهم عن النّظرية تمامًا، في حين شقَّ بعضُهمُ الآخَر منَافِذَ جديدَةً في البحْثِ، بعيدةً كل البُعْدِ عن النَّظريةِ الأدبيّةِ، من أمثال تودوروفْ، وجنيت. وحتى أكثَرُ المجلّات النّقديةِ انتشَارًا، كــ "الشِّعريَّة" (poétique)، و"أدب" (littérature)، خفَتَ وهَجُهُمَا النقْديُّ التَّنظيريُّ، مما أتاحَ المجالَ لمقالاتٍ غلَبَ عليها التَّحليلُ الاجتِمَاعيُّ والماركْسِيُّ والتحليلُ النَّفْسيُّ.



(*) يبدو أن النظرية الأدبية في فرنسا شهدت ذروتها خلال سنوات الستينيات، أما اليوم فإن من يتذكرها لا شك أنه سينتابه الحنين إلى تلك الحقبة. هل معنى هذا أن النظرية الأدبية انتهت؟ وفي نظرك ما هي العوامل التي أدت بالنظرية الأدبية إلى هذا الوضع؟
طبعًا، ولا بد هنا من التذكير بالسياق الذي تنزَّلت فيه أعمال كومبانيون، خاصة في المحاضرة المشار إليها، وكذلك في كتابه "شيطان النظرية". وقد ذكرنا في مقدمتنا لترجمة كتابه "شَيطانُ النَّظَرِيَّة" أنَّهُ لا يمكِنُ التَّغافُلُ عن السِّياقِ الأوسَعِ الذي يتنزَّلُ فيه الكتابُ، وكذلك هذه المحاضرة، وهو سياقٌ مرتبطٌ ببروز مَلامِحَ عن انحِسارِ الأدب، بدايةً من تِسعينيّاتِ القرنِ الماضي، معَ صعودِ أنماطٍ تَثقيفيَّةٍ بَديلَةٍ، بِقُوَّةٍ، في مُقدِّمتِها الشَّبَكَةُ العنكَبوتيّةُ، ووسَائلُ التواصُلِ الاجتمَاعيّةُ والإلكترونيَّةُ، علَى اختِلافِها، كما أنَّ الكتابَ غير مفصولٍ عن خِطابِ النِّهاياتِ الذي سَادَ الفِكرَ المعاصِرَ في عدَدٍ من ميادينِ العلومِ الإنسانيّةِ، بدءًا من فكرَةِ "موت الإنسان" في الحَركةِ البنيويّةِ في خمسينيّاتِ القرن العشرين، وفكرَةِ "موت المؤلِّف" مع رولان بارت (1967)، ثم النهايات المتلاحِقة في ثمانينيّات القَرنِ نفسِهِ، التي أعلنَت "نهايَة الإنسان"، و"نهايَة التّاريخ"، و"نهاية الفَنّ"، و"نهاية الأخلاق"، و"نهاية الأدَب"، و"نهايَة الكتاب".

كان لا بد، إذن، لهذا الباحث من القيام بتشخيص دقيق لوضع النظرية الأدبية في علاقتها ببعض المفاهيم الكبرى التي أزّمت منها، مثل مفهوم الأدب نفسه، ومفاهيم أخرى ذات وزن كبير وتعرضت لتأويلات مختلفة، كعلاقة الأدب بالعالَم، ومسألة المؤلف والمرجع والقارئ والأسلوب والتاريخ والقيمة. وأعتقد أن نظرية الأدب عاشت أزمة كبيرة في بداية هذه الألفية الثالثة حدًا ذهب بعضهم إلى التشكيك في الأدب والفائدة منه في عصر العولمة، حيث لوحظ عزوف عن قراءة "الكلاسيكيات" ومتابعة الجديد في الأدب (الرواية تحديدًا)، وهو وضع لا يمكن المبالغة بوصفه كارثيًا، ولكن منذ أن ظهرت وسائل التواصل الاجتماعي على اختلافها (إنترنت، فيسبوك، الكتب الإلكترونية،... إلخ) لوحظ أننا مُقبلون على عصر جديد في التعاطي مع الأدب خاصة، ومع القراءة عمومًا، وهو وضع حرك حفيظة كبار النقاد، ومن هنا مصدر عدد الكتب التي صدرت في وقت وجيز جدًا بدءًا بـكتَابِ "أُفُولُ الثَّقافَةِ الأدَبيّةِ" لجانْ مَاري دومينَاشْ (دار بلون 1995)، وانتهاءً بــ"نهايَةُ الأدَبِ"، بجُزأيْهِ، اللَّذين ضَمّا وقَائعَ نَدْوةٍ دوْليةٍ كانَ موضُوعُها قراءةً نَقْدْيةً وجماليةً في خطابَاتِ موْتِ الأدَبِ والنَّظريةِ الأدَبيّةِ، وصدَرَ عن دَارْ أرْمانْ كولَانْ، تِباعًا عَامَي 2011 ـ 2012، مرورًا بـ"وداعًا للأدب" لوليَامْ ماركْسْ (دار مينوي، 2005)، و"الكاتِبُ الأخِيرُ" لريشار مييي (دار فاطَا مورْغَانَا، 2005)، و"لِمَ يَصْلُحُ الأدَبُ؟" لأنطوانْ كومْبانْيُونْ نفْسِه، و"ضِدَّ سَانْتْ بروسْتْ: نهَايةُ الأدَب" لدومينيكْ منْغُونو (2006)، و"ما يَستَطيعُهُ الأدَبُ؟" تحْتَ إشْرافِ الفيلَسُوف الفَرنْسِي ألانْ فينْكيلْكْروتْ (دار لارمَاتانْ، 2006)، و"مُستَقْبَل الأنَسِياتِ" لييفْ سيتُونْ (2010)، و"إيكولُوجْيا صَغيرَة للدِّراسَاتِ الأدَبيَّة" لجانْ مارِي شَايْفَرْ (2011). وهذَا يعْنِي أنَّ السِّياقَ الذي بدأ فيه كومْبانْيُونْ بتَشْخيصِ وضعيَّة النَّظريةِ الأدبيَّةِ في كتابِهِ هَذَا، وفي فرنْسا تخْصيصًا، لا ينْفَصلُ عَنْ تجْديدِ النَّقاشِ بشأنِ التَّشْكيكِ في عدَدٍ من البَديهيَّاتِ الناتجة عن سَطوَةٍ مَارسَها "الحِسُّ المشْتَركُ" (sens commun)، وكانَت مِن الخُلاصَاتِ التي ترتَّبَت على مُقاربَةِ الأدَبِ في عدد من التَّوجُّهاتِ النَّقديةِ، والفَلسفيَّةِ، بدءًا من الشَّكلانيين الرُّوس، وانتهاءً بما بعْد البنيويةِ، مُرورًا بالظَّاهِراتيةِ الألمانيةِ، والنَّقْدِ الجَديدِ الأميركيِّ، والماركْسيّةِ، والبنيويةِ، والهيرمينُوطيقَا. لقد كرّست هذه التَّوجُهَاتُ رؤىً محددَةً ونمطيةً عمّا يكونُهُ الأدَبيٌّ وأشاعتْها، على اختِلافٍ في المنطَلقاتِ الإيديولوجيةِ والسِّياقاتِ الثَّقافيةِ، وشيّدت مفاهيمَها بصَدَدِ الأدَبِ (الأدبيَّة)، والمؤلِّفِ (المقصِدُ)، والعالَمِ (التَّمثيلاتُ، والمحاكاةُ، والمرْجعيَّةُ)، والقَارئِ (التّلقِّي)، والأسلُوبِ (الشَّكْلُ)، والتَّاريخِ (التَّطوّرُ)، والقيمَةِ (الوظيفَةُ)، بوَصْفها قَضايا لا مناصَّ من تحْديدِها في كلِّ نظريةٍ أدبيَّةٍ، مما يعكس طبيعة الهواجس التي استبدت بأهل الأدب ومنظريه ومحبيه وخوفهم من احتضاره، بله موته.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.