}

عبدالله الديباجي: التشكيل في نظري موسيقى بصرية

محمود عبد الغني محمود عبد الغني 19 مارس 2021
حوارات عبدالله الديباجي: التشكيل في نظري موسيقى بصرية
الفنان المغربي عبدالله الديباجي

يعد ُّعبدالله الديباجي من أبرز الفنانين التشكيليين في المغرب والعالم العربي. وُلد في مدينة أزمور عام 1952. درس في بداياته في "مدرسة الفنون الجميلة" في مدينة تطوان. وتابع دراساته العليا في مدينة لييج ببلجيكا، التي تخرج فيها، وعاد إلى المغرب ليعمل في سلك التدريس الفني.
مرت التجربة الفنية للديباجي بعدة مراحل. للاقتراب منها أجرينا معه هذا الحوار:

 

 

(*) كيف بدأت لوحة الفنان عبدالله الديباجي: البدايات الأولى، المرجعيات، التأثر.. وإلى أين وصلت؟
هذا سؤال بانورامي شامل. سأصعد إلى مكان عال وأتأمل ما كنته وما أنا عليه. كيف بدأت، وسرت على هذا الطريق الطويل الشاق. الفن، والأدب، والفكر، طرق صعبة، طويلة ومليئة بالمنعرجات غير المنتظرة. اللوحة عندي هي مسار حياة، تبدأ كالطفل، وتتدرج عبر مراحل، إلى أن تصبح في طور النضج، وهي بذلك تحتفظ بما في الطفولة من عفوية وتلقائية، وبما في النضج من اكتمال، وكلما أدركت أفقًا تبدى لي أفق آخر. ومن هنا، فاللوحة تتجدد باستمرار.
أنا خريج "مدرسة الفنون الجميلة" في مدينة تطوان المغربية، في سبعينيات القرن الماضي. بعد ذلك، درست الفن في أوروبا، وتخرجت في "أكاديمية الفنون الجميلة" في مدينة لييج في بلجيكا، وعدت إلى المغرب وعملت أستاذًا لمادة التربية الفنية. وبعدها، أصبحتُ مفتشًا تربويًا للمادة نفسها. بدأتُ متأثرًا بالأعمال التشخيصية: تقديم الواقع المعيش، والأمكنة، والحركات، والمشاهد... وانتهيت تجريديًا يؤمن بسحر اللون ودلالته الهائمة داخل اللوحة.


 

(*) تنتمي إلى مسقط الرأس في المدينة التاريخية الساحرة "أزمور"، التي أعطتنا عددًا من الفنانين التشكيليين، فما هو تأثير السحر في هذه المدينة؟ وما هو السر في ذلك؟
أولًا، يجب القول إن هذه المدينة تتميز بتاريخ عريق وقديم تعاقبت فيه حضارات شتى، وأعتقد أن ذلك يتوارث عبر الأجيال، وتبقى جيناته تتسرب عبر الأحقاب.

ثانيًا، هنالك الطبيعة بمختلف مكوناتها، من وادي أم الربيع، والمحيط الأطلسي، والفضاء الغابوي الشاسع. وللنهر تأثير كبير على العديد من الكتاب الكبار، من بينهم إدريس الشرايبي، وعبدالله العروي. وخلال طفولتنا، كنا نلتقي بالأجانب ممن يزورون المدينة ويرسمون منظرها المطل والمشرف على الوادي، وكان هذا يؤثر فينا، ويوشم في ذاكرتنا. هذه المدينة الصغيرة، والشاسعة الممتدة في آن، إن وقفت على روابيها تتخيل أنك تشرف على العالم كاملًا. هذا سر من أسرار سحر هذه المدينة. مدينة ضوئية، هادئة كأنها قادمة من خارج الزمن. الشيء الساحر فيها هو تواضعها الجم، وانسيابية الزمن فيها. ما كان ينقص أزمور تكمله على أحسن وجه مدينة الجديدة، ذات الماضي البرتغالي. هنا أقمت مرسمي، واعتكفت أبدع وأتخيل، وأرى، وأستمع للموسيقى الخالدة.

 

 

(*) تتكون لوحتك من قطع صغيرة، وبقع لونية، ما إن نقف أمامها حتى نراها تتسع وتمتد عبر فضاء اللوحة.
أهم ما يميز عملي التشكيلي هو التركيز على اللون، كمادة أساسية في تكوين اللوحة، لأن المدارس الأولى التي تأثرت بها وأنا طالب في معهد الفنون الجميلة في بلجيكا كانت تعتمد اللون باعتباره مكونًا أساسيًا، بدءًا بالمدرسة الانطباعية، والمدرسة الوحشية، والمدرسة التعبيرية. الآن، وأنا في هذه المرحلة من عملي، بدأ اللون يتقلص، ويترك للبياض مساحات كبيرة، وحينما أقول البياض أقصد تدرجاته المتراكبة والمتداخلة، التي تخلق نوعًا من الإيقاع المتناغم والمتراقص، مما يوحي بنغمات بصرية ووجدانية وتعبيرية في الوقت نفسه. وهنا تلتقي اللوحة بالقطعة الموسيقية الجميلة.

(*) على ذكر الموسيقى والنغم، نتذكر لوحتك التي يظهر فيها عازف التشيلو. كيف تستفيد من الموسيقى الراقية؟
أؤمن أن جميع الفنون خُلقت في رحم واحد. الفنون متكاملة نظريًا وواقعيًا. بالنسبة للوحة عازف الجاز التي أشرت إليها، وهي لوحة كبيرة، أقول لك إنني أعود بين الحين والحين إلى توظيف التشخيص في تعبيري التشكيلي، ولكن بطريقة حداثية تطغى عليها العفوية والتعبيرية والبساطة. في مثل هذه الحالة، أكون فتحت نافدة أخرى، حتى أستطيع استنشاق هواء جديد يزودني بطاقة تمنحني إمكانية رؤية آفاق أخرى. وبذلك أعود إلى لوحتي التي تكاد تكون تجريدية.

لا شك أن للموسيقى تأثيرًا على عملي التشكيلي، فالتشكيل في نظري هو موسيقى بصرية تعتمد الإيقاع والتوازن والتناغم، وغيرها من العناصر المؤثثة للفضاء التشكيلي. وبناء عليه، فالتشكيل يمتح مما في الموسيقى من عناصر جمالية.

 

(*) أنت الآن في خضم تجربة جديدة يهيمن فيها اللون الأبيض بمختلف تدرجاته، إلى أن يتماهى مع اللون الأزرق، ويعود إلى اللون الأبيض بطريقة متجددة.
هذه ألوان قوية وتنفذ بسرعة إلى النفس. هنالك السماء والبحر والضياء، جميعها تتداخل في كياني، وتعكس فضاء داخليًا خاصًا، مما يجعل العالم الكبير يتناغم مع العالم الصغير، أي الفضاء الكبير بجميع عناصره مع الذات الإنسانية في شتى انفعالاتها.
إذا نظرت إلى العمل الذي أنا بصدد إكماله الآن استعدادًا لمعرض قريب، ستجد هده الألوان التي ذكرت. إنها ألوان هادئة، موجودة في كل مكان، مألوفة، وهذا سر قوتها الجاذبة.

 

 

(*) الفوتوغرافيون والفنانون التشكيليون يتحدثون عن النور الاستثنائي في المغرب، كيف ترى ذلك؟
عندما كنت طالبًا في الأكاديمية في بلجيكا في سنواتي الأولى لم أكن أستطيع أن أتجاوب مع الضوء الملتبس، مع اللون الرمادي في ذلك الفضاء الأوروبي، وكان يصعب علي الاشتغال في موضوع المناظر الطبيعية، لأنني كنت معتادًا على نوع من الضياء في محيطي الأصلي.

وهكذا يبقى الضياء لدينا متميزًا بالنورانية الوهاجة، مما كان له تأثير على كثير من الفنانين الأجانب الكبار، مثل دولاكروا، وماتيس، وغيرهما.. لكن ما ينبغي أن ننتبه إليه هو أنه إذا لم يكن هناك نور داخلي، فإنه لا يمكن أن تكون شغوفًا بالنور الخارجي للطبيعة. النور مهم للفنان، وللنفس، وللجسم.

عبدالله الديباجي 

(*) معلوم أنك من الفنانين الشغوفين بالأدب، فما هي مصادر إلهامك؟
كانت بداياتي أدبية، وكنت شغوفًا بالأدب، وخصوصًا الشعر، وتعلمت العناصر الضرورية لكتابة الشعر التقليدي، من بحور وعروض وقواف، في سنوات الإعدادية، وكنت ميالًا إلى المدرسة الرومانسية في شخص أبي القاسم الشابي، وإيليا أبي ماضي، ولكن في ما بعد تحولت إلى الشغف بالتشكيل، وانتقلت معه إلى الشعر المعاصر في شخص بدر شاكر السياب، ومحمود درويش، وغيرهما. لكن تبقى للأدب قوته، وللشعر قوته، وللتشكيل أيضًا قوته، أنا أؤمن بتلاقح الأجناس الأدبية، بتلاقح الفنون والآداب.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.