}

أكرم الديك: فلسطين امتحان لإنسانية البشر

لمى الحسنية 11 يوليه 2021
حوارات أكرم الديك: فلسطين امتحان لإنسانية البشر
أكرم الديك وغلاف كتابه "على هامش الكتابة"
قد يكون الذي يجعلنا نبصر الأشياء بصدق هو وقوفنا على هوامشها، ولذا يرى الدكتور أكرم الديك أن ما يجمع الكتابة والمنفى، وأدب ما بعد الحداثة، هو الهامش، كما يشير إليه في كتابه "على هامش الكتابة" (تبارك للنشر ـ مصر، 2021)، وجميعها مساحات تمنح الفرد فرصة للتعبير بقوالب مغايرة. كما يقول إن "مركزية الوطن والانتماء لدى المنفي مبعثرة، فيعيش في ظلال الأشياء، ولا يصيرها، وفي عتبات المنازل، ولا يسكنها، وفي تشرذم الذاكرة، فلا يقوى على إحيائها من جديد".
الديك ناقد أدبي، كاتب وشاعر فلسطيني، يكتب باللغتين العربية والإنكليزية. تعود أصوله إلى قرية كفر الديك في الضفة الغربية المحتلة في فلسطين، وينتمي إلى الجيل الثالث من الشتات. يحمل الجنسية الألمانية، وعاش معظم حياته في إنكلترا، حيث تضيف هامشيته ومنفاه نكهة خاصة على كتاباته المحليّة.
"داخل فلسطين هنالك كثيرٌ من القيود"، يقول، "حيث يقيس الفلسطينيون الطرقات بنقاط التفتيش، وحيث الموارد الأكاديمية شحيحة، وحظر التجول الإسرائيلي أمر معتاد". ويرى الديك أن المساهمة من على الهامش أكثر فاعلية، حيث يسهل التنقل، ونشر المعلومات، والدعم.
يعيش الديك على هوامش النكبات، وصغرى السرديات، عبر تعدد استخداماته للأجناس الأدبية، والتي تتجلى من خلال صوته المتمايز وأساليبه السردية الفريدة في أبرز كتبه "كتابة النزوح" باللغة الإنكليزية، و"شجرة الكينا: حلقات في الشتات" باللغة العربية. فهو فرد لا جماعة له إلا الأبجدية، يخط بها على هامش قلوبنا قضيته الإنسانية الراسخة في عرض الصفحة البيضاء بالقلم العريض: القضية الفلسطينية.




يرى الديك أن جوهر أدب ما بعد الاستعمار، وما بعد الحداثة، هو الهامش. فعلى مرِّ الزمان، كتب الغُزاة والمستعمِرون والأُبويّون والبرجوازيون التاريخ، فيما كان المهمشون في قاع التسلسل الهرمي، والآن يجيء دور "معذّبو الأرض"، كما يشير إليهم الكاتب الثائر، فرانز فانون، ودور الضحية، لتكتب تاريخها ولتروي قصصًا وسرديات من وجهة نظرها الفردية الخاصة.
وحين يُسأل عن فلسطين؟ يقول الديك: "هي الضمير الحي الذي لن تتقدم الإنسانية من دونه إلى الأمام، فبعد مئة عام من الاستعمار الإسرائيلي، ما زالت تعيش فلسطين تحت أطول احتلال استعماري في التاريخ الحديث. فالاستيطان لم يعد استيطانًا، بل هو استعمار إمبرياليّ في كافّة جوانبه. فقد فاق الاحتلال الأرض والجغرافيا، واغتصب اللّغة والعقل. تسير الإمبريالية الثقافية الاسرائيليّة ها هنا جنبًا إلى جنب مع العهر العسكري. فأنت تشتري الشعر والرواية الفلسطينيّة بالعملة الإسرائيلية، وتعصر الزيتون بالعملة الاسرائيليّة، وتصلّي للسّماء والبحر ميّت. فلا يزال أثر التمييز العنصريّ الآن كما كان عليه قبل 200 عام في زمن العبوديّة. وما زلنا نرى العالم بالأبيض والأسود، بالرّغم من اختراع الطابعات ثلاثية الأبعاد".
وعلى حدّ قوله، يدفع فلسطينيو الشتات ثمن ذاكرة مبعثرة مشتتة لمجرد ولادتهم على الجانب الغربي من نهر الأردن؛ ويا لها من ذاكرة ثقيلة يولد بها الطفل، مثل الديك، وينشأ من خلالها وعليها، غير أن تلك الضفة المغايرة هي ما أكسبته ذلك التعدد الفكري والتنوع السردي من منفاه على هامش الشتات الذي جعل من تتبع كتاباته الثرية بالمغايرات على عرض صفحاته رحلة فريدة يستحق الوقوف عند هوامشها وتسليط الضوء على حواشيها محوّلًا إياها إلى ائتلافات جمالية مخطوطة على عرض الصفحات بعناية إبداعية ذات بعد إنساني عميق.




يؤكد الديك أنه يتحمّل ثقل ولادته فلسطينيًا كل صباح: "في كل مرة أستيقظ، وفي كل مرة أسافر فيها. كما أتجشمه مع أبي، حيث لا يُسمح له بالعودة إلى مسقط رأسه على الرغم من جوازه الألماني. ومع ذلك، نجد القوة في مثابرة الأطفال والشباب وكبار السن من الرجال والنساء داخل فلسطين وخارجها، حيث أننا جميعًا متمسكون بالأمل أننا عائدون يومًا ما، وسنكون أحرارًا". يَعدُّ الديك نفسه محظوظًا مقارنة باللاجئين الآخرين في المخيمات، والأطفال في غزة؛ "إنهم يعلموننا الشجاعة.. وما زلنا نخجل من قمصاننا المكوية، وعدم انقطاع الكهرباء".



لكن تصاعد تواتر عنف الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين، دفعنا إلى التحدث عن مسألة أكثر إلحاحًا، وهو ما يجري في فلسطين في الأسابيع الماضية، حين قصفت قوات الاحتلال الأراضي الفلسطينية بكثافة غير مسبوقة على العُزّل في قطاع غزة المحاصر. عند السؤال عن الأوضاع الحالية، يعيدنا الديك إلى الوراء قبل 99 عامًا، عندما بدأت الحركات الصهيونية عام 1922 في استخدام وسائل مختلفة لتهجير الفلسطينيين من أراضيهم ومنازلهم. وأكد الديك على أهمية استخدام مصطلح "الأراضي المستعمرة" بدلًا من "الأراضي المحتلة" في الإشارة إلى فلسطين، حيث تعيش فلسطين تحت أطول احتلال استعماري في التاريخ الحديث منذ بدء الاستعمار الإسرائيلي، فلم تمر 73 سنة فقط على بداية الاستعمار الإسرائيلي، بل 99 سنة، كما أوضح في كتابه "شجرة الكينا: حلقات في الشتات"، حين قال: "أنا ضحية 99 سنة من الاستعمار الإسرائيلي. ونتيجة ثانوية للحروب على مرتفعات الجولان. أنا أدفع ثمن الحرب الأهلية في لبنان، وأيلول الأسود في الأردن. أنا مثقل بالاستعمار البريطاني والإمبريالية الغربية والرأسمالية الأميركية".




حتى في أبحاثه الأكاديمية، يصر الديك على أن الفلسطيني ليس فأر تجارب لمادة بحثية فحسب، بل هو قضية إنسانية لبشر يحملون ذكريات وتطلعات وأحلامًا، كأي شعب يطمح إلى الحرية. لذلك يتطلع من خلال أبحاثه إلى تسليط الضوء على تجارب الشتات في العالم، والتحدث بلسان حال النازحين والمنفيين في فترة ما بعد الاستعمار في الهند وباكستان ومنطقة البحر الكاريبي وأفريقيا والصين، لا سيما أجيال الشتات الفلسطيني. يقول: "أنا أرثي رام الله، وحيفا، كالذي يرثي كشمير من أعالي جبال الهمالايا!"
وشدد الديك على أن "فلسطين اختبار فشلنا فيه جميعًا فشلًا ذريعًا. ولم يبق سوى القليل من الملح في بطون الأسرى الفارغة، ودموع أمهات الشهداء. فلسطين هي امتحان لإنسانيتنا والحكمة القاتلة في العالم. إنها تثير شجاعتك، أو جبنك. تفتضح ضميرك الحي. فلسطين تخرج أفضل أو أسوأ ما فيك. إنها تعكس حقيقتك من تحت جلد انصياعك وامتثالك المهذب المنمق. فلسطين هي أصعب تحدٍّ يواجه البشرية في القرن الحادي والعشرين. فلسطين هي الضمير الحي للإنسانية الذي من دونه لن تتقدم إلى الأمام".




ويعتقد أنه ربما تتم الآن إعادة صياغة الأمر ليس على أنه "صراع وطني بين مطالبات متنافسة"، ولكن باعتباره مسألة تتعلق بالعدالة الإنسانية والعرقية. بل إنه يمكن لهاشتاغ فلسطين حرة FreePalestine# أن يكون في طريقه للانضمام إلى هاشتاغ حياة السود مهمة BlackLivesMatter# كمسألة يعتبرها جيل عالمي ذات أهمية قصوى، والتي لم تقتصر المشاركة فيها على السياسيين فحسب، بل على الشخصيات البارزة في الثقافة الشعبية، من لاعبي كرة القدم، إلى المطربين، وحتى المؤثرين في الموضة، مع الملايين من المتابعين.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل من المفترض أن تظل ثورة إلكترونية؟ وبينما تناقش جموع مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي سياسات فيسبوك وإنستغرام المنحازة لإسرائيل، والتي تفرض رقابة على المحتوى المناصر للقضية الفلسطينية؛ يتم اتخاذ خطوات ملحوظة من قبل سلطات الاحتلال في العالم الحقيقي للاستحواذ على منازل الفلسطينيين في القدس. وفي ما يتعلق بالتأثير الحقيقي لوسائل التواصل الاجتماعي في تغيير الرأي العام، يؤكد الديك أن هذا الحراك الرقمي ليس سوى شحنة عاطفية مؤقتة لا يمكن أن تكون لها نتائج مستدامة على أرض الواقع من دون تدخل جاد وتغيير حقيقي في السياسات المحلية والدولية. ويجب على الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية أن تخرج بتوصيات تعكس مطالب الشعوب والشارع بدلًا من التركيز على إرضاء أميركا.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.