}

باهرة عبد اللطيف: المنفى يعيد تجديد انتمائنا إلى الوطن

ميسون شقير ميسون شقير 25 يوليه 2021
حوارات باهرة عبد اللطيف: المنفى يعيد تجديد انتمائنا إلى الوطن
باهرة عبد اللطيف



كم هو جميل أن تجد في منفاك من تستطيع أن تكون مرآة وجعك وتميمة روحك، وكم هو هام أن تجد من يصرخ بصوت له نبرة صوتك محاولًا أن يحمي هويته وهويتك من التشويه والاندثار والتحطيم، وكم هو عميق أن تجد أيضًا من يأخذ بيدك، وبيد لغتك، كي تدخل أماكن جديدة، وثقافات مغايرة، وكي تتعرف على أخواتها في عالم يعج بالفوضى والحروب والقهر. نعم، كم هو جميل وهام وعميق أن تلتقي هنا في مدريد بشخصية تعيدك إلى نفسك مبللًا بمطر البحث والمعرفة، ومحمولًا على رياح الشعر التي لا تتعب. كم هو جميل أن تتعرف على الأستاذة العراقية، باهرة محمد عبداللطيف، الكاتبة والأكاديمية والمترجمة والشاعرة والناشطة في حقوق المرأة. هي المرأة الشاعرة التي قالت: "أنا ما زلتُ في المنفى، أعني ما زلت أحيا كل لحظة في الوطن". والتي كتبت:
"للمنفى مخالبُ تستطيلُ كلّ ليلةٍ
وروحٌ تجأرُ بالاشتياق
لسمائِهِ ظلمةٌ مديدةٌ
وعيونٌ تهملُ بالبكاء
كلّما لاحَ في الأفقِ
نجمٌ
مرَّ سهوًا
بالعراق"..
نعم، من الجميل أن تتعرف يومًا على الأستاذة باهرة عبد اللطيف، ولعله من الأجمل أن تحاورها وتسمع ردودها التي تصيب القلب:




(*) لنبدأ بالعودة إلى البدايات، أو ربما إلى أول المعرفة. ما الذي جعل الأدب واللغة الإسبانية تحديدًا تشد باهرة الشابة العراقية من قلبها، وتأخذها إليها؟
منذ طفولتي وأنا ألتهم الكتب وأعشق الأدب، الروايات والقصص والشعر، وكل ما تقع عليه عيناي. فقد نشأت في أسرة لها أفق ثقافي معرفي واسع بحكم امتلاك والدي دارًا للنشر ومطبعة كانت الأكبر في بغداد منذ أواسط القرن الماضي. كان والدي رجلًا ذكيًا متفتح الذهن، حرًا مستقلًا في أفكاره وآرائه، في أسفاره الكثيرة، وتعلّمه من تجارب الحياة. وكان لذلك أثر كبير على حياتي أنا وبقية شقيقاتي وأشقائي، إذ قدر لنا أن ننعم بحرية ربما لم تسنح لآخرين من أبناء وبنات جيلنا. وقد انعكس ذلك على شخصياتنا ومسارات حياتنا.




أما قراءات الطفولة الأولى فقد خلفت أثرًا كبيرًا في نفسي، ومن بينها روايات تدور أجواؤها في إسبانيا والأندلس. وعندما كنت في المرحلة الثانوية كانت الموسيقى الإسبانية والفن والغناء الإسباني يجتذبني كثيرًا عندما أستمع إليه، أو أشاهده ـ على قلته ـ في تلفاز العراق. في حين كانت حياة وأعمال بيكاسو ودالي تحملني بعيدًا معها عبر ترجمات منقولة غالبًا عن الإنكليزية. لذا عندما حانت لحظة دخولي الجامعة في منتصف السبعينيات وقفت حائرة في التخصص الذي سأدرسه، لأني كنت شغوفة بالأدب، واللغات، وعلم الآثار، والفلسفة، والاجتماع، والصحافة، والتاريخ، والقانون، فضلًا عن الموسيقى، وتاريخ الفن.. وووو.. ثم في آخر لحظة قررت أن أدرس الإسبانية، كنت أتقن الانكليزية، ودرست الفرنسية، على أمل أن تفتح لي بابًا على عوالم إسبانيا، والقارة الأميركية اللاتينية، أطلّ من خلالها على كل الاختصاصات السابقة. في تلك الأعوام، كان عالمنا العربي قد شرع في الاهتمام بالقارة الأميركية اللاتينية التي فاجأت العالم بنضالها وثوراتها وأدبها، وقد استهوتني كثيرًا فكرة التعرف إليها عبر اللغة الإسبانية التي تتحدث بها شعوب القارة جميعها، باستثناء البرازيل الناطقة بالبرتغالية. هذا فضلًا عن تاريخ العرب والمسلمين في الأندلس الذي أيقظ مخيلتي شعرًا وسردًا عبر مراحل دراستي، يوم كنا نحفظ الكثير الجميل من شعر الأندلس، وندرس تراجم شعراء وأعلام وحلقات تاريخ الأندلس، بكل ما فيها من مراحل قوة وانكسار.



فكرة الخروج
(*) بالعودة إلى الجرح، ما هي اللحظة التي قررت فيها الرحيل عن بغدادك التي لا تزال تحيا وتكبر وتتمدد فيك، وفي كل كلمة تكتبينها؟
غادرت بغداد في منتصف التسعينات (1995)، في ظل أعوام الحصار القاتل، أعوام الجمر التي أحرقت العراقيين في أتونها، ما بين حصار الداخل الذي ينوء تحت قبضة الدكتاتور، وحصار الخارج الذي فرض على العراقيين إثر غزو الكويت عام 1990. وقد تمثل حصار الخارج بإرادة أميركية، مموهة بواجهة الأمم المتحدة، واستمر 13 عامًا دُمرت خلالها المنظومة الاقتصادية والاجتماعية والصحية والعلمية والنفسية للشعب العراقي، كجزء أولي من مخطط سهّل احتلال العراق من قبل القوات الأميركية عام 2003. وهكذا وجد العراقيون أنفسهم في تلك الأعوام في حالة احتضار طويل، في ظل حصارٍ ضارٍ في الداخل والخارج.




في أجواء الخوف والفقر والمرض والموت تلك، واشتداد اليأس والعزلة الخانقة التي فرضت على الشعب، كنت شأني شأن ملايين العراقيين أقاوم للبقاء في الوطن. أتذكر أني كنت أعمل في الجامعة، وفي دار المأمون للترجمة والنشر التي انحسر نشاطها كثيرًا بسبب الحصار. في الجامعة، كنت أجاهد وأنا أشرح تاريخ الأدب الإسباني لطلبتي في قسم اللغة الإسبانية. آنذاك كانت وجوه طلبتي الشاحبة تشي بالفاقة، فالحصار أفقر الجميع حتى بات أغلب المواطنين في حالة عوز شديد. في تلك السنين العجاف، باع العراقيون مقتنياتهم العزيزة، واضطر الآلاف من المثقفين والجامعيين لبيع مكتباتهم سدًا للرمق، بعد أن تدهورت قيمة الدينار العراقي ليصل التضخم إلى 5000%. أتذكر أني لم أكن أتسلم مرتبي في الجامعة لأنه كان يعادل ما قيمته دولارين، أو ثلاثة دولارات. هذا المبلغ بالكاد يكفي لاستئجار سيارة تقلني إلى الجامعة ليوم أو يومين لا أكثر. كانت تلك أعوام إفقار الطبقة الوسطى التي مثلت غالبية الشعب، أما الفقراء فقد انتقلوا إلى هامش لا إنساني، ونمت فئة صغيرة من أصحاب السلطة وتجار الحروب والمضاربين في السوق السوداء.
في ظل الحصار والجوع والقهر، كان علي أن أقنع طلبتي، وكثير منهم قدموا من بيئات أُفقرت وهُمشت، باستيعاب ما أشرحه لهم عن بواكير الأدب الإسباني ومراحل تطوره، عن ثربانتس، وكيبيدو، عن غونغورا، وغارثيلاسو دي لا بيغا، وصولًا إلى أدباء القرن العشرين من أعلام الأدب الإسباني..! كنت "أناضل" كي أخلق لديهم الحافز للاستماع والرغبة في مواصلة الدراسة، وأحاول مخلصة أن أعينهم على الحلم والأمل في القادم، برغم وطأة اللحظة الراهنة يومئذ.
كانت تلك مهمة عبثية عسيرة حقًا، فقد كنت أنا نفسي حزينة غاضبة لكل ما يحدث في البلاد من رزايا الدكتاتور، ومن جور الولايات المتحدة، واعتدائها السافر على العراق وشعبه، بحجة معاقبة الدكتاتور صدام. إزاء ذلك المشهد كان يبدو لي ترفًا لا يطاق كل ما أقوله لطلابي، في مواجهة الجوع والمرض واليأس. من هذا الصراع الداخلي ألحت عليّ فكرة الخروج لأني كنت مختنقة تمامًا.
أما عن عملي في دار المأمون للترجمة والنشر في وزارة الثقافة والإعلام، فقد بات سقيمًا لا جدوى منه في ظل الحصار الذي شمل الثقافة، إذ لا صحيفة تصل، ولا كتاب، لا نشر، ولا أنشطة ثقافية، والكل يجتر أيامه بمرارة وحسرة. وقد خرج كثير من الناس، من المثقفين والعلماء والفنانين والأكاديميين ـ والناس العاديين أيضًا ـ إلى المنافي، ومع ذلك كنت أصر على المقاومة والبقاء، غير أن ظرفًا شخصيًا عجّل في انهيار مقاومتي، فعقدت العزم على الرحيل.
ساعة الرحيل كانت من أصعب المواقف في حياتي، إن لم تكن أصعبها على الإطلاق، لأني كنت أعي أنها رحلة ذهاب بلا إياب، على خطى عشرات الآلاف من العراقيين، نساء ورجالًا من خيرة كفاءات العراق، ممن تشتتوا في المنافي. كنت أشعر بانخلاع روحي وأنا أنظر عبر زجاج الحافلة التي أقلتني إلى مدينة عمّان، عبر طريق بري طويل قاحل، إذ كان الطيران الجوي ممنوعًا في العراق طوال أعوام الحصار بإرادة أميركية أممية. وما زلت اليوم، وبعد أكثر من خمسة وعشرين عامًا على ذلك الموقف، أشعر بقلبي يهوي ألمًا، وتغيم روحي حزنًا حين أستعيد تلك اللحظة. كنت أرى وجوه أحبتي المودعة الباكية في المحطة تتراجع شيئًا فشيئًا لتختفي مع انطلاق الحافلة وأنا أمسح دموعي المنهمرة، ومعها يتنامى حزن وغضب لم تخفف من حدتهما الأيام، مهما بدت الحياة كريمة معي، لأن حزني ذاك كان وما زال حزنًا يتعلق بالوطن والأهل، ولم يكن حزنًا شخصيًا ينتهي بالخلاص الفردي.. وأنت يا عزيزتي ميسون، من خلال تجربتك القاسية في المنفى والاقتلاع مرغمة من سورية الوطن، تدركين تمامًا ما أعنيه بكلماتي هذه.
لحظة الخروج من الوطن تجربة لا تتكرر في الحياة، إنها كالولادة والموت تحدث مرة واحدة، إلا أن مشهدها، بخلاف التجربتين السابقتين، يتكرر آلاف المرات من خلال الذاكرة وهو ما يؤلم حقًا.



المُنجز الأدبي الإسباني وترجمة ألبرتي




(*) بعد تعمقك الشديد، كباحثة أكاديمية، ما الذي فاجأك ولم تكوني تتوقعينه في المنجز الأدبي الإسباني؟

بعد أكثر من ثلاثين عامًا أمضيتها مع الثقافة والأدب الإسباني، لا أستطيع أن أتحدث عن جوانب غير متوقعة في المنجز الأدبي الإسباني. بيد أني في هذه العجالة أستطيع الإشارة إلى بعض مزايا هذا الأدب، ومنها غزارته وجودته وتنوعه. وما يدهشني فيه في العقود الأخيرة هو جرأته في الطرح بعد أن تحرر من القيود التي كبلته طويلًا، سياسيًا ودينيًا، ذلك أن إسبانيا المتزمتة كاثوليكيًا ناءت بالدكتاتورية قرابة أربعين عامًا. إلا أنها استطاعت في عمر الديمقراطية القصير نسبيًا الممتد منذ وفاة فرانكو عام 1975، وبدء عهد الديمقراطية حتى اليوم أن تقطع أشواطًا مهمة على طريق الدولة المدنية، في مجال تعزيز حقوق وواجبات المواطنة، والأهم في فصل الدين عن الدولة. وقد انعكس هذا الواقع على مناخ الحريات العامة، وحرية الكاتب في التعبير عن أفكاره وإبداعه بلا قيود مفروضة مسبقًا ولا رقيب يتحكم في قلمه ومخيلته وإبداعه.




أما ما يحدث في بلادنا العربية من وسائل وأساليب رقابية متعددة فقد بات من كلاسيكيات القول، ومع ذلك لا بد من التذكير به في كل مناسبة، لأن الشعب الذي تتحكم فيه قوى قامعة للأفكار، من ديكتاتوريات وعقليات متحجرة وغيبيات لا حصر لها، لن يكون قادرًا على إنتاج أفكار ترتقي بإنسانه.
وعلى ذكر الرقيب، فإن ظلاله موجودة في كل مكان، ولا تقتصر فقط على دوائر السلطة، فهي حاضرة وفاعلة تسكن المنازل والعقول، وتتحكم بالعلاقات على شتى المستويات، وكلها تحدّ من قامة الكاتب وتقزّم أفكاره وتُسطحها. وإن أفلت الكاتب منها وتدبر أمره بالنشر خارج البلاد فعملية منع كتبه تتكفل بالمهمة. وتبقى الملاحقة قدرًا للشجعان ممن يواصلون التفكير بحرية. لا يفوتني هنا أن أذكّر بما يحدث في العراق، حيث ألغيت دائرة الرقابة بعد "التحرير" الأميركي المزعوم، وتولت المسدسات الكاتمة للصوت مهمة الرقيب، وأصبحت أحزاب سلطة الإسلام السياسي وميليشياتها المتطرفة تتكفل بإخراس الأصوات الحرة الخارجة عن سكونية واستسلام القطيع.
ثمة ظاهرة أخرى تستوقفني في سياق الحديث عن الواقع الأدبي الإسباني، تتعلق بكم العنوانات الأدبية والثقافية الصادرة عن دور النشر المتوزعة في كافة أرجاء خارطة إسبانيا. وكلها تنتج وتبيع وتسهم في عوائد مادية تصب في تنمية صناعة الكتاب وثقافة القراءة. وعلى الرغم من انتشار الكتاب الإلكتروني، فإنه لم يزعزع مكانة الكتاب الورقي وإقبال القراء على شرائه. وأرقام ما تنتجه دور النشر هذه سنويًا، تأليفًا وترجمة وتوثيقًا لبحوث المؤتمرات والحلقات الدراسية، تدعو إلى الدهشة والإعجاب كمًّا ونوعًا. على سبيل المثال، صدر في عام 2018 نحو 76.200 عنوان، ليرتفع في عام 2019 إلى 90 ألف عنوان سنويًا (72.5% منها ورقي والباقي إلكتروني). واحتلت الكتب المترجمة إلى الإسبانية عن لغات أخرى ربع هذا الرقم، أي أكثر من 22 ألف عنوان مترجم، وهي أرقام لافتة للانتباه بكل المقاييس. حقًا أن هناك لغات أخرى في إسبانيا إضافة إلى اللغة القشتالية (الإسبانية) كالكتالانية والباسكية والغاليثية والبالنسية، لكنها أرقام كبيرة تصدر عن بلد واحد هو إسبانيا، إذا ما قورنت بالأرقام المتواضعة التي تصدرها أو تترجمها بلادنا العربية.



(*) قدمت للقارئ العربي إضافة هامة لمكتبته ووعيه وذائقته حين ترجمت كتاب "الغابة الضائعة"، وأعتقد أنه حين نترجم عملا بمستوى الشاعر الإسباني رافائيل ألبرتي فإنه سيحفر فينا أثرًا لا يمحى، كما لو أننا بطريقة أو بأخرى نعيد كتابته، وقد نصل إلى درجه نتبناه فيها كما لو كان كتابنا نحن.. حدثينا عن هذه التجربة تحديدا وتأثيرها في وعيك الثقافي، وفي منجزك الإبداعي؟
كنت في مطلع الثمانينيات أدرس في جامعة أوتونوما في مدريد في بعثة دراسية مع مجموعة من الزميلات والزملاء. وذات يوم قدم إلى الجامعة الشاعر رافائيل ألبرتي، وقرأ الشعر على جمهور الطلبة، وكنت من بين الحاضرين. وقد مسّني بسحر لم أفق منه الا بعد أن ترجمت مذكراته "الغابة الضائعة". تلك كانت أولى خطواتي في التعرف إلى ذلك الشاعر الكبير المقاوم بلغته القشتالية، هو وجيله من الأدباء، ضد نظام العسكر الفاشي المتحالف مع الإقطاع والكنيسة في ثلاثينيات القرن الماضي.




الشاعر ألبرتي الذي ولد عام 1902 عاش حياة حافلة مكتظة بالأحداث وكتابة الشعر والمسرح والرسم، بالسفر والترحال وثراء العلاقات الإنسانية مع كبار أدباء وفناني عصره من شتى الثقافات، فضلًا عن المشاركة في الأنشطة الثقافية والعامة في منفاه الطويل أولًا، ثم بعد عودته إلى إسبانيا، إثر إرساء النظام الديمقراطي الملكي البرلماني. وظل يشارك حتى آخر حياته في الأنشطة والفعاليات التضامنية، ومن بين ما قام به، قبل اعتزاله، لكبر سنه، ومرضه، في منزله في بويرتو دي سانتا ماريا، مع زوجته ماريا أسونثيون، كانت مشاركاته الفاعلة في التجمعات والتظاهرات التي نظمتها القوى التقدمية ضد الولايات المتحدة الأميركية والوجود العسكري الغربي في الخليج العربي في مطلع التسعينيات. وبقي حتى آخر أيامه يتنفس الشعر، ويغني صفحات الجرائد والمجلات الإسبانية والأجنبية بنصوص نثرية من أجمل ما جادت به اللغة القشتالية.
لقد مثلت الحرب الأهلية، التي نشبت بين الجمهوريين واليمينيين الإسبان، ودامت ثلاثة أعوام (1936 ـ 1939) خلفية هذا الكتاب. فالكاتب يتحدث عنها دومًا، بوصفها تاريخًا حاسمًا، ومرحلة فاصلة، غيرت لا مسار حياة الشاعر ألبرتي وحسب، بل حياة الشعب الإسباني قاطبة. وقد عايشت بعمقٍ الأحداث التي مرّ فيها الشاعر ألبرتي وجيله، حتى أني حين انتهيت منها، كتبتها يدويًا وعبر عدد من المسودات يوم لم نكن نستخدم الحاسوب، كان القصف على العراق قد بدأ لإخراج القوات العراقية من الكويت عام 1991، واضطررنا أنا وأسرتي للخروج من منازلنا القريبة من المنشآت الحساسة في بغداد، حمل الجميع معهم ما خفّ وزنه وغلا ثمنه، أما أنا فقد حملت حقيبة يدوية ضمت مخطوط الترجمة (أكثر من 550 صفحة)، ومعها بعض خربشاتي الشعرية، وقد عقدت العزم على أن نحيا معًا، أو نفنى معًا، في أجواء القصف الصاروخي والجوي والمدافع، وكافة أجهزة القتل التي صبت حممها علينا بلا هوادة. وقد نجوت وعدت إلى المنزل بأعجوبة، ونجا الكتاب معي ونشرته بعد عام.
كان النجاح الذي حظي به الكتاب أجمل مكافأة لي على جهدي الهائل في الترجمة، وفي احتواء عوالم الشاعر ألبرتي، حتى أني قرأت أعماله الكاملة شعرًا ونثرًا، واطلعت على أهم أعمال رفاقه من جيل الـ 27 الأدبي الذي ضم عمالقة الشعر الإسباني في القرن العشرين (لوركا، ألبرتي، بيدرو ساليناس، لويس ثيرنودا، خورخي غيين، بيثنته أليخاندره، خيراردو دييغو، داماسو ألونسو...)، وقد فعلت هذا فقط كي ألم بتفاصيل أو أعمال كان ألبرتي يذكرها عرضًا في مذكراته. ومن خلال ترجمة هذا الكتاب، تعلمت كثيرًا عن أدب وتاريخ إسبانيا، لأني اضطررت إلى قراءة عدد من المراجع التاريخية والأدبية عن الحرب الأهلية الإسبانية التي مثلت خلفية المذكرات، والتي وسمت نتاج جيل بأكمله من كتاب وشعراء ونقاد وأكاديميين تغربوا في المنافي.
أتذكر، أيضًا، أني استعنت بعدد من الموسوعات الورقية بمختلف اللغات كي أضع عشرات الهوامش التوضيحية للقارئ، يوم لم يكن هناك شبكة معلوماتية تقدم للمرء آخر البيانات وأدقها من خلال ضغطة زر.
ثم أصبح الجهد الكبير الذي بذلته في ترجمة الكتاب نهجًا لي في أي ترجمة أتصدى لها، أعني الإحاطة بمضمون الكتاب وما حوله. فالإنسان أيًا كان، والمبدع على وجه الخصوص، هو نتاج ظرفه التاريخي والاجتماعي والسياسي الذي ينعكس، بل وأحيانًا يتحكم في وضعه النفسي أيضًا، لذا فكلما فهمنا حيثيات الفضاء الموضوعي سهل علينا استيعاب نتاج المبدع، ومن ثم نقله إلى لغة أخرى.
بعد كل هذه الأعوام، ما زال القراء يتذكرونني من خلال ترجمتي تلك، ويتمنون عليّ مرارًا إعادة نشرها، فقد طبعت دار المأمون آنذاك بضعة آلاف من النسخ في زمن الحصار وشحة الورق، وقد نفدت النسخ في أسبوعين فقط. فالعراقيون يقرأون بشغف لا يعدله شغف، ولديهم نهم عريق للمعرفة والثقافة. وهكذا تلقفته الأيادي وفاز في استفتاء أفضل كتاب مترجم لذلك العام، وكتب عنه النقاد والأدباء العراقيون واحتفوا به طويلًا.




هذا النجاح أملى عليّ سلوكًا صارمًا مع نفسي، أعني التأني كثيرًا في اختيار العنوان الذي أريد ترجمته، والعمل بهدوء، وتفادي السرعة لضمان الجودة لا الكم، لأني ببساطة أحترم القارئ وعقله ووقته، ولأني أشفق على الأشجار التي تُقطع وتُحوّل إلى ورق يُبَدّد في كتبٍ لا تستحق القراءة.



(*) من خلال تجربتك في التدريس في العديد من الجامعات الإسبانية، ما الذي استنتجته حول علاقة الإنسان، أو الطالب، الإسباني، بمنجزنا الثقافي العربي، ما مدى معرفته بنا، وما هو الرأي المتولد لديه بشكل عام قبل أن يدخل هذا الطالب تخصص الدراسة الجامعية العليا؟
الطالب الإسباني حين يقبل على دراسة اللغة العربية عادة لا يأتي مزودًا بخلفية ثقافية عربية، بل هو يكتسبها أثناء دراسته الجامعية. لكنه يأتي محبًا ومنجذبًا لهذه الثقافة المغايرة، ولديه توق خاص وحنين معرفي لعالمنا العربي، عندما يكون قادمًا من مناطق، أو مدن ذات تراث عربي إسلامي، وهي كثيرة في إسبانيا. وقد وجدت أحيانًا من بين طلابي من جاء بفضول اكتشاف جذور أسرته، لأنه يحمل لقبًا عربيًا، أو موريسكيًا، محوّرًا في الغالب. وثمة من ينتظم في الدراسة بحكم زيارته بعض البلدان العربية، أو بوحي من صداقات تربطه ببعض العرب. وهناك أيضًا من يختار دراسة اللغة والثقافة العربية لأسباب نفعية محضة تكمن في الحصول على فرص عمل، بعد أن استنفدت أسواق العمل حاجتها إلى اللغات الأخرى الغربية، واتجهت إلى الشرقية، ومنها العربية، والصينية، على وجه الخصوص.



(*) في المسافة ما بين البحوث الأكاديمية التي تخضع إلى مناهج بحث محدّدة، ووقائع وثوابت، وبين الكتابة الإبداعية التي لا تحدها سماء ولا أرض، أين تجد باهرة عبد اللطيف نفسها؟
أنا بطبيعتي أكره القيود، وأنتفض على أي شكل من أشكال الفرض، سواء أكان يخصني، أم يخص الآخرين. وبرغم هدوئي الذي يلمسه فيّ كل من يعرفني، فإن في داخلي متمردة لا تهادن. لذا أجد نفسي وتوازني في أي عمل أقوم به بمحبة وحرية كاملة، وهذا ما أجده غالبًا في الكتابة الإبداعية، الشعر تحديدًا والقص والمقالة ومؤخرًا المسرح. أما البحوث الأكاديمية فلها اشتراطاتها الصارمة ومنهجيتها المحدِّدة والقامعة للخيال، وحتى للأسلوب الشخصي، لذا فهي أكثر تقييدًا لي، مع إدراكي لضرورتها.



الشعر وقوة التعبير
(*) هل تعتقدين أنه بعد كل الخراب الذي عايشناه في بلادنا وقلوبنا، ما نزال قادرين على إنتاج أدب غير محروق، أدب ينقذ الجمال من كل البشاعة التي تحيط به، ولا يلذع القارئ؟
قلت ذات لقاء إن الشاعر العربي يتوفر على منجم إبداع لا ينضب، ببساطة لأن لديه تاريخ عذاب متصل منذ قرون. والعذاب هذا يشتد ويصبح أكثر ضراوة مع تقدم العصر وتطور أدوات السيطرة والتنكيل بالبشر، من خلال الأسلحة التقليدية والمبتكرة واستخدام التكنولوجيا الحديثة في وجهها الآخر الخفي، وهو ما يجهله أغلب متصفحي الإنترنت البسطاء ممن تركوا الكتب والصحف الورقية، وغدوا زبائن لمنصات إلكترونية للإعلام والمعرفة الاستهلاكية. إن من يطّلع على عوالم الإنترنت في استخداماته التسطيحية والتضليلية، ويتعمق في عوالمه السفلية "العميقة"، و"المظلمة" التي تشكّل الجزء الأكبر الغاطس من جبل الجليد، يفزع من هذا الذي يحدث حولنا. إنه عالم يقهر الإنسان ويحيله إلى رمز في منظومة رقمية تشييئية. حقًا إنه يقدم معرفة لامتناهية ويتيحها ديمقراطيًا للجميع، لكن الوجه الآخر السلبي قائم وخطير ولا يستوقف إلا القلة من شعوبنا. والفظيع في الأمر هو استغلاله من قبل الجيوش الإلكترونية المسخّرة لخدمة الفئات الحاكمة، بهدف قمع الشعوب وثوراتها وتسهيل صفقات اللصوص والقتلة والإرهابيين، هذا ناهيك عن استخداماتها اللامتناهية التي برعت فيها الصهيونية العالمية والقوى الحليفة لها.




هذا العالم المتغول الذي نعيش فيه أصبح مرعبًا للأرواح البريئة التي تحلم وتتنفس الشعر، ومع ذلك فلا مناص من مواصلة الحلم، ولكن بعيون مفتوحة على أقصاها، ومواصلة الشعر، لكن بتخليصه من هشاشته، وفائض لغته. القصيدة، أو النص الشعري الحديث، لا بد له من مواكبة العصر الذي يعيشه ويعبر عنه. أنا لا أفهم كيف يمكن لشاعر أن يواصل اجترار الصور الشعرية والمفردات عينها التي استخدمت من قبل آلاف، أو ملايين المرات، كما لا أفهم الشعر الذي يعتاش على اللغة من دون أن يضخ فكرة حديثة، أو معرفة مواكبة للعصر، أو دهشة ما. خلاصة القول إن الشعر يمنحنا فرصة قراءة المعاصر، السلبي، أو الإيجابي، عبر مشاعر ورؤية إنسانية متجددة. لكل هذا أرى أن الشعر العربي بسبب العذاب المزمن للروح الواعية ما زال قادرًا على التعبير بقوة عن الألم، لأن وقوده موجود وبكثرة، أعني الألم الإنساني، والتوق الخالد للحرية.



(*) كُتب المنفى والحنين على الفلسطيني، ثم على العراقي، والسوري. كُتب على أهل أقدم وأعرق مدن الأرض أن يُهجروا منها إلى بلاد الله الضيقة.. ما الذي يفعله بنا المنفى؟ وكيف نتحايل على عقارب ساعاته التي "تعيد دائمًا الزمن إلى أوله" كما تقولين؟
كانت فكرة المنفى فلسطينيةً بحتة في طفولتنا، وكنا نتضامن معها من بعيد من خلال أناشيدنا وضمائرنا الفتية. لكننا حين كبرنا وشحذنا وعينا أصبحنا نعيشها ونكابدها، نحن العراقيين والسوريين و"لسه الخير لقدام.."، كما يقولون. في العقدين الأخيرين، تم تدمير دولتين مهمتين في منطقتنا: العراق وسورية، وتشريد ونزوح الملايين داخل البلدين وخارجهما. ملايين الأشخاص غادروا اضطرارًا بلادنا العربية، وحتى تلك التي لم تتعرض لغزوٍ واحتلالٍ وحروبٍ تعرضت أيضًا لتجريف قدراتها وطاقاتها البشرية عبر التسريب المنظم للعقول، فقد تكفّلت الأنظمة الحاكمة فيها بجعل الحياة جحيمًا لمواطنيها، ودفعتهم إلى ركوب البحار والتعرض إلى خطر الموت للوصول إلى بر أكثر أمانًا ووعدًا بالحياة. حلم الشباب بالهرب من الأوطان أصبح ثيمة متكررة في أي حوار مع الشباب العربي، وكم الرسائل التي تصلني عبر الفيسبوك من شتى البلاد العربية تطلب مني المساعدة في الوصول إلى أوروبا يحزنني حقًا، فالغرب ليس هو الحل، والمنفى يؤزم الإنسان الواعي ويشقيه، والحل يكمن في استعادة الوطن وبنائه، مع إدراكي لمدى صعوبة هذا التحدي.
ثمة حقيقة يستشعرها من ابتعد عن وطنه مُكرهًا، هي أن المنفى بقدر ما يبعدنا جغرافيًا عن الوطن فإنه يقربنا منه، ويعيد تجديد انتمائنا إليه. أقول هذا عن تجربة شخصية أتقاسمها مع أصدقاء كثر في شتى المنافي. لذا قلت في إحدى قصائدي التي ستصدر في ديواني الجديد "لي منزل هناك":
" المنفى:
عقربا ساعةٍ
مسمومانِ
يلدغانِ القلبَ
كلّما خَفتَ نبضُ حنينهِ.
يدورانِ متعاكسيْنِ
أحدُهما يقطعُ الزّمنَ
بهمةٍ
والآخرُ يعودُ بهِ
إلى مبتداه".
ويبقى المنفى مختبرًا هائلًا لشتى أنواع المشاعر والأحاسيس والتجارب على المستويين الذاتي والموضوعي، الخاص والعام، لمن يحسن الإصغاء إلى قلبه وضميره.

*****

باهرة عبد اللطيف: عراقية تحمل الجنسية الإسبانية، وتقيم في مدريد منذ عام 1995. ولدت عام 1957 في بغداد في العراق، وحصلت على البكالوريوس في اللغة والأدب الإسباني من كلية الآداب بجامعة بغداد عام 1979، بتقدير امتياز، كما حصلت على دبلوم عال في الترجمة الفورية، ودبلوم عال في الترجمة التحريرية، بتقدير امتياز من جامعة أوتونوما في مدريد عام 1982. تحمل شهادة ماجستير في أدب أميركا اللاتينية من جامعة أوتونوما في مدريد، وشهادة دبلوم في دراسات الهجرة والتفاعل الثقافي. عملت أستاذة للغة والأدب الإسباني في جامعات عديدة، من بينها جامعة بغداد، وجامعتي أوتونوما وكومبلوتنسه في العاصمة الإسبانية مدريد، وحاضرت في العديد من الجامعات والمعاهد الأخرى. تكتب باللغتين العربية والإسبانية، ولها العديد من الكتب المطبوعة بكلا اللغتين. تعد عبد اللطيف من أبرز المترجمات المتخصصات في اللغة الإسبانية على مستوى العراق والوطن العربي وإسبانيا. وقد حازت ترجمتها لكتاب "الغابة الضائعة"، وهو مذكرات الشاعر الإسباني رافائيل ألبرتي، على جائزة أفضل كتاب مترجم في العراق عام 1993. كما حازت دراستها المعنونة "رجم"، والصادرة في مدريد، على إشادات كثير من الكتاب الإسبان المتخصصين في قضايا المرأة. خلال أكثر من عشرين عامًا من إقامتها في مدريد، قدمت باهرة العشرات من المحاضرات عن الأدب العربي والإسباني، وعن وضع المرأة في المجتمعات العربية والإسلامية، كما شاركت، كأكاديمية، ومدرسة، ومثقفة، في نشر الثقافة العراقية والعربية والإسلامية، وساهمت بشكل فعال في ترسيخ ثقافة التعريف بالتراث العربي والإسلامي في الغرب، من خلال تواصلها مع المثقفين الإسبان عبر مئات الندوات والدورات والكورسات والمهرجانات. وأخيرًا، حصلت على الميدالية الذهبية من مؤسسة ثيار لعام 2018، التي تقدم للهيئات والشخصيات التي عملت من أجل مد جسور الحوار والتفاعل بين الثقافتين العربية والإسبانية، وقد أصدرت باهرة "تأملات بوذية على رصيف الموت"؛ "قبل الجنون"؛ و"فلاشات معتمة"؛ "بغداد جرح في خارطة العالم"، و"حرب تتعرى أمام نافذتي"، بالإضافة الى عشرات الترجمات.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.