}

ابتسام بركات: مسؤولية شحذ خيال الأطفال بالإلهام عظيمة

أشرف الحساني 9 يناير 2022
حوارات ابتسام بركات: مسؤولية شحذ خيال الأطفال بالإلهام عظيمة
ابتسام بركات

في السنوات الأخيرة، تصاعد الوعي بأدب الطفل، باعتباره مُكوّنًا أدبيًا داخل تاريخ الأدب العربي المعاصر، ولما أضحى له من خصوصيةٍ هامّة داخل مشاريع المُؤسّسات الثقافيّة العربيّة، لأنّها فطنت بحجم التأثير الذي تُمارسه الكتابة الأدبيّة في شقّها التخييلي على مُخيّلة الطفل. لذلك شهد هذا الأدب اهتمامًا كبيرًا في الآونة الأخيرة من حيث الجوائز وإقامات الكتابة، لكنّ النقد يظلّ غائبًا عن هذه النصوص التي اجترحت مشروعًا أدبيًا. ويمكن الادعاء بأنّ التهميش الذي طال أدب الطفل تتحكّم فيه عواملٌ معرفية أكثر منها مؤسّساتية أو بيداغوجية، وذلك على خلفية تأخّر يعيشه النقد داخل العالم العربي.
ولأنّ أدب الطفل مُختلفٌ بشكلٍ كلّي عن طبيعة الكتابة الأدبيّة، بسبب اختلاف المُتلقّي، فإن هذا يجعل كتابة هذا الأدب صعبًا للغاية، ويفرض نوعًا خاصًّا من الكتابة الأدبيّة، التي ينبغي أن تُحافظ على الشرطين المعرفي والإبداعي، والحفاظ عليهما وتقديمهما في خطاب مُتخيّل وبسيط. هذا الأمر حاصلٌ في أعمال الكاتبة الفلسطينيّة ابتسام بركات (1963)، حيث تغدو الكتابة ضربًا من الخطاب المُزدوج، بين كتابة تروم الذات وهواجسها الحالمة ورؤاها الإبداعية المُتخيّلة، وبين الاستناد على الواقع الفلسطيني، وإعادة تدويره وبلورته وتقعيده داخل قالب أدبيّ مُتخيّل. ولأنّ صاحبة "الفتاة الليلكية" تُجيد الكتابة بالإنكليزية والعربيّة، فإنّ ذلك ساعدها حقيقة على ذيوع أعمالها الأدبيّة، وترجمتها إلى أكثر من لغةٍ.
عن أعمالها الأدبيّة، ومكانتها داخل الثقافة الفلسطينيّة، وموقع أدب الطفل داخل المؤسّسات الثقافيّة العربيّة، كان لنا هذا الحوار الخاصّ مع بركات:




(*) تكتبين باللغتين العربيّة والإنكليزية. أين تجدين ذاتك بشكلٍ أقوى وأكثر حميمية في التعبير بين اللغتين؟
هذا السؤال يجعلني أسأل: هل أجد ذاتي أكثر في الضحك، أم في البكاء؟ في الليل، أم في النهار؟ في الحديث، أم في الصمت؟ أظن أن العربية والإنكليزية في عالمي هما جناحان لطائر واحد هو أنا.
كل ما أقوم به حاليًا قد أثّرت فيه، وأثرته في العربية والإنكليزية معًا واللقاء الحقيقي بينهما. العربية والإنكليزية في حالة حب حقيقي في حياتي ولا صراع بينهما. تتعاونان على إيصال فني إلى الشرق وإلى الغرب. أحبهما وتحبانني وتحب كلماتهما أقلامي واوراقي. (مع الشكر للشاعر القديم المنخل اليشكري الذي قال: أحبها وتحبني ويحب ناقتها بعيري).


(*) تعملين داخل حقول معرفية متنوّعة بين الشعر والصحافة وأدب الطفل. هي مجالات ثقافيّة، على الرغم من أنّها قريبة من بعضها البعض، إلاّ أنّها تحتاج وقتًا طويلًا وفُسحة للتأمّل من أجل الكتابة. كيف تجدين وقتًا لكل هذه المجالات؟
التعبير الفني هو تنفس للفنان، أنا أتنفس بطريقتي الخاصة، وكل نفس يتحول إلى عمل فنّي غير الذي سبقه. حين أغسل الصحون أقف أغسل الصحون، وأكتب قصيدة في خيالي. قصيدة عن الصحون في المجلى، أو الصحون الطائرة، أو أتذكر بيت الشعر الذي قال: "ألا هبي بصحنك فاصبحينا"، وأفكر بوليمة اللغة. أرى الماء كشلال من اللغة يصب في الصحن ويصحيه مثلما الشتاء يصحي الربيع. حين أمشي في الشارع أمشي وأحول المشهد إلى مشهد في قصة. حين أتحدث مع صديق هنالك في خيالي من يحول المحادثة إلى فقرة في كتاب. حين أرى أي شيء هنالك فنان في خيالي يقول لي: أنظري إلى هذه اللوحة الرائعة. وهكذا. السماء تتصرف على أنها السماء دائمًا على مدار النهار والليل، وأنا أتصرف على أني نفسي في كل لحظة، مولعة بالفن واللغة والقراءة والكتابة والتجديد والاكتشاف.


(*) كتابك "تذوّق طعم السماء: طفولة فلسطينيّة"(2007) لعب دورًا كبيرًا في التعريف بابتسام بركات ككاتبة فلسطينيّة، خاصّة أنّ الكتاب حصل على ما يفوق 20 جائزة عالمية واحتفاء. ما السر وراء نجاح هذا الكتاب السيري؟ وما علاقته بأحداث الراهن الفلسطيني سياسيًا واجتماعيًا؟
نجح الكتاب عالميًا بسبب موضوعه الذي كان جديدًا، ولم يطرح من قبل: سيرة ذاتية لطفلة فلسطينية تصف الحياة بدقة وحميمية خلال حرب 67 وما بعدها على مدى أربع سنوات، تأخذ القارئ معها إلى المخابئ، إلى الطرقات الخفية، إلى الهرب، إلى الوصول إلى العواطف والأفكار والأحزان والأفراح للقلب الفلسطيني من غير التطرق للسياسة. هي تحكي من كل قلبها عن تفاصيل في حياة طفل، تصف الجنود والحرب والناس وكأنها شخص يسجل الأحداث على أنها أحداث خاصة جدًا بالطفولة، كأنها ألعاب بعضها مخيف وبعضها ممتع، وكذلك نجح بسبب الفنية في التقديم، وهي غير مسبوقة بخصوص قضية فلسطين، عبر تخطي كثير من الحواجز الفكرية للقارئ الغربي، وكان من الضروري معرفة هذه الحواجز التي أحيانًا "تعنصر" رد فعل القارئ الغربي ضد الصوت الفلسطيني، وقام النص بتخطيها.




وقال النقاد عن الكتاب أشياء كثيرة، لكن أذكر تمامًا أن مجلة "بوك بيج" الأميركية التي تراجع الكتب وصفته بأنه كتاب عبقري نجح في أن يتخطى كل حواجز السياسة، وفي إيصال صوت الإنسان الفلسطيني عبر جسر مشترك لكل الإنسانية، وهو الطفولة. والكتاب يدرس في بعض المدارس مع كتاب آن فرانك، الطفلة اليهودية التي ماتت في الهولوكوست، وتركت يومياتها. وترجم الكتاب إلى لغات عديدة، ويدرس في كثير من المدارس والجامعات حول العالم، بما فيها عدد من الدول العربية، لكنه لم يترجم إلى العربية حتى الآن.

غلاف كتاب "شرفة على القمر، بلوغ الرشد في فلسطين" للكاتبة ابتسام بركات 


(*) كتابك "الفتاة الليلكية" قُمت باستلهامه من أعمال الفنّانة الفلسطينيّة تمام الأكحل. كيف تم هذا الانتقال من الصورة إلى الكتابة، أو بلغةٍ أخرى، ما الذي يُميّز أعمال هذه التشكيليّة، وما مدى تعلّقها بذائقتك الفنّية ككاتبة، علمًا أنّ الكتاب يدخل ضمن أدب الطفل؟
تمام الأكحل فنانة فلسطينية رائدة، وأنا أحب أعمالها. القصة مستلهمة من قصة محاولة الفنانة تمام الأكحل زيارة منزلها، وعدم السماح لها بالدخول. وهي قصة تتكرر في حياة كل الفلسطينيين، وقصة عشتها أنا أيضًا على الجسور، وفي المطارات، وفي محاولة اللقاء بفلسطين من كافة نواحيها. فقررت أن أكتب قصة تفتح الباب للشفاء من النكبة، وتنهي حالة "السجن" والانتكاب التي تصيب الإنسان الفلسطيني حيال مسألة زيارة منزله.




كتبت قصة فيها انتصار للعلاقة الفلسطينية مع المنزل الفلسطيني المهجور عبر الألوان، من غير الدخول في السياسة المباشرة على الإطلاق. أيضًا، حين تبكي الفتاة في القصة، فهي تبكي بدموع ملونة، لأنها رسامة. وحين لا يسمح للطفلة بدخول المنزل وتذهب، لا تذهب وحيدة، ولكن كل ألوان منزلها تهرب منه وتذهب معها.
قررت أن يخرج الطفل الفلسطيني والقارئ من الاعتقال العاطفي الذي يحيط بقضية النكبة، وفتح أبواب الحرية والحب والإبداع في إيجاد الحلول بدل انتظار أن يعطينا غيرنا حلول قضايانا الكبيرة.


(*) ما حدود التقاطع والتلاقي بين "الفتاة الليلكية" و"الجرّة التي صارت مجرّة" المُستلهم هو الآخر من تجربة الفنّانة فيرا تماري؟
الفنانة فيرا تماري تعمل في الفخار والسيراميك، وهو الفخار الذي يخلط مع الزجاج. وهي فنانة رائدة أيضًا، وأنا أحب أعمالها، وأحب الفخار بشدة، لأني ابنة فلاحين، مع أني عشت في القدس، ورام الله، والمدن.
"الجرة التي صارت مجرة" قصة عن فن صنع الجرار في فلسطين والعالم، وتطويره الرمزي من العصر القديم إلى عصر وصول المجرات والفضاء، دعوة لفتح التاريخ وإطلاق سراح الماضي حتى يصير الحاضر والمستقبل، وأيضًا فتح سجن الأحلام من أجل تحقيق الإنسان لأمانيه، فيخرجها من جرار الصمت لتصير منيرة، مثل مجرات السماء، أي مواصلة التطور والإبداع من جرة إلى مجرة. كتاب "الجرة التي صارت مجرة" كان عنوان حملة القراءة في كل أنحاء فلسطين في عام 2019.
أما "الفتاة الليلكية" فهي فتح وكسر حاجز النكبة النفسي. كلاهما عن الحرية بشكل جديد ممتع وجريء وفلسطيني وعالمي معًا.
حين زرت مدارس كثيرة في الخليل والقدس وحيفا ورام الله والمخيمات وبيت لحم، وغيرها، للعمل مع الأطفال حول القصتين، كان عالمًا مدهشًا حين صنع الأطفال جرارًا من الملتينة، ووضعوا في داخلها أحلامهم التي ستصير مجرات في المستقبل. أما مع "الفتاة الليلكية" فكانوا يدخلون إلى عالمها بسرعة فائقة، لأنهم جميعًا يريدون أن يروا البحر، أو غزة، أو القدس، أو أشياء يسمعون عنها، لكن الحواجز تمنعهم منها. الرسم فتح لهم أبواب الحرية عبر الخيال، وهو أصل كل تغيير، والقصص فتحت لهم عالمًا من الحوار حول حياتهم وعواطفهم، وهكذا يهزمون الإحساس بالعزلة والحزن. أحس بمسؤولية عظيمة نحو شحذ خيال الطفلة والطفل بالإلهام وأدوات الإبداع حتى يكبروا ويصيروا قادرين على حل المشكلات، والمساهمة في المجتمع بشكل يعطيهم تجربة حياة تستحق أن يكون اسمها حياة.



(*) تُرجمت أعمالك الأدبية إلى لغات كثيرة. ما السر وراء هذا الإقبال الكبير على ترجمة أعمالك؟ وما الذي يعنيه لك ذلك ككاتبة عربية؟

أنا إنسانة عربية فلسطينية أعيش في أميركا، وأكتب بوعي كامل أني أكتب للقارئ العالمي. أكتب عن تجربة عربية، مع أنني أعيش في عالم ثقافته ليست عربية، أو غربية فقط. أنا أتعلم من كل شيء ألتقي به في العالم. وحين أكتب بالعربية أحب أن أنمي في القارئ العربي وعيًا عالميًا.




أرى أن التجربة الإنسانية في أي مكان هي ملك للإنسانية، ولهذا أكتب وأترك كل الأبواب والنوافذ مشرعة لكل القراء، وبشكل عام يتمكن القارئ في أي مكان من أن يدخل إلى قصصي، ويجد نفسه فيها، لأني أيضًا أفكر به حين أكتب. وهذا حصيلة تجارب كثيرة، وزيارات لبلدان كثيرة، وصداقات مع ناس من ثقافات كثيرة تعاطفت معهم، فصاروا جميعًا مني، ومن وعيي، حين أكتب. هذا يساعدني أن أعرف أن الإنسان العربي ليس وحيدًا في هذا الكون، وليس عالقًا في سجن وانتهى الأمر. ولكن برغم الصعوبات، في إمكانه الوصول إلى أي مكان عبر الفن، وعبر الفكر، وعبر القرار والجرأة والمغامرة وحب الحياة. وفي النهاية، هو وحده يملك قرار حريته، فكثير من الناس أحرار شكليًا بلا احتلال، لكنهم سجناء فكريًا وعاطفيًا وروحيًا بسبب عيشهم في فكر صغير. الحرية لا يعرّفها لنا الآخرون. نحن نعرّفها لأنفسنا، ثم نفتح أنفسنا لها ونخلق عالمًا ترغب الحرية في العيش فيه.


(*) يحظى أدب الطفل في السنوات الأخيرة بأهميّة بارزة داخل بعض المؤسّسات الأدبيّة العربيّة، وأصبح يتبوأ فيها مكانة هامّة، رغم عدم اهتمام النقد العربي به كمُكوّن فنّي ضمن الأدب العربي ككلّ. إلى أيّ مدى في نظرك استطاع أدب الطفل خلق مشروع أدبي جديد داخل جغرافيات الأدب العربي قديمًا وحديثًا؟
هذا سؤال مهم جدًا. صار أدب الطفل أكثر قيمة في اللغة العربية بسبب الجوائز الأدبية التي خصصت له، لكنه لم يخرج بعد إلى الوعي بأنه أدب سابق في أهميته لأدب الكبار، لأن أدب الطفل أساس وأرضية أدب الكبار. يعني حين نبني دارًا أهم ما في الدار هو الأساس، وإلا فستسقط الدار مهما كانت جميلة. والقارئة المبدعة والكاتبة القديرة لا تصل إلى هذا الحال من غير رحلة طويلة من البناء، خصوصًا أنها وجدت من يبني قدرتها وهي ناشئة. أنا كابتسام بركات لم أصبح كاتبة ذات مكانة إلا لأني وجدت في طفولتي من علمني الأبجدية، وعلمني حب القراءة والقصص ومطاردة الأسئلة عبر البحث والتقصي، وأخذ بيدي وعلمني أن أمسك بقلمي بمحبة عالية، خصوصًا حرف الألف في اللغة العربية، وهو صديق عمري الدائم. أمي، واسمها مريم حمودة عيسى عبد الرحمن الظاهر ، أحب أن أذكر اسمها كاملًا، لأن أسماء النساء لم تذكر كثيرًا عبر التاريخ، وأسماء الأمهات منهن خصوصًا، وتأثيرهن على الشعراء المبدعين والأدباء الكبار. أمي ساهمت كثيرًا في إبداعي في طفولتي. كانت تجلس تحكي القصص بخيال مبهر. وكانت شغوفة بالكتابة والخط العربي والقراءة. والآن، حرف الألف يجلس على حافة قلمي دائمًا، ويطير إلى أماكن كثيرة، وأحيانًا أجده مختبئًا في تسريحة شعري.
حاليًا، في العالم العربي، هنالك أطفال يكرهون اللغة والقراءة بسبب طريقة التعليم، واحتقار الطفولة والأطفال؛ مثلًا شتم الإنسان على أنه يتصرف كالأطفال. التغير بدأ، وآمل أن نواصل الاهتمام بالطفولة، وأدب الناشئة. وأحب أن أقول إن كلمة طفل، وإن كانت من التطفل، فإن هذا الناشئ ليس متطفلًا على أحد؛ إنه من أكثر الكائنات كرمًا وإبداعًا. جزء من عملي هو تقديم كتب على مستوى عالمي للطفل العربي، وتقديم كتب للقارئ غير العربي يتعرف فيها على العالم العربي. يعني أحب أن تكون ورقة الكتابة عندي، وهي هشة ظاهريًا، جسرًا يحمل التاريخ والإنسانية، وهدايا متواصلة أعرفها حين أمسك بالقلم الذي أراه كبوصلة تشير دائمًا نحو الحرية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.