}

سبأ حمزة: الشعر ذو قدرة فائقة على قول الكثير

أشرف الحساني 22 مارس 2022

 

تنتمي الباحثة والكاتبة سبأ حمزة إلى الجيل الأدبي الجديد داخل اليمن، الذي كسّر عصا الطاعة على مُستوى تعامله مع الموروث الثقافي اليمني الحديث، وذلك من خلال الرهان على كتابة جديدةٍ أكثر تعلّقًا بالذات في علاقتها بتحوّلات المنطقة العربيّة وما تعيشه من مخاضاتٍ سياسيّة عسيرة منذ بداية الربيع العربي إلى اليوم. فالكتابة الأدبيّة اليمنية شكّلت في السنوات الأخيرة، مُختبرًا حقيقيًا للإبداع الأدبي، سيما تلك التجارب الواعدة، التي جدّدت ماء النصّ الشعري وفق نسقٍ تخييلي جديدٍ، لا يُقيم أيّ حدودٍ أو سياجاتٍ مع واقع الحرب. هذه الكتابات الجديدة تعمل في أحيانٍ كثيرة على مُجابهة الحرب وتفجير مَكنوناتها وتعرية آفاقها السياسيّة وتصدّعاتها الاجتماعية وما تتركه من ندوبٍ وجُرحٍ غائر في أجساد الناس ومَشاغلهم اليوميّة. وعلى الرغم من إقامة سبأ حمزة في هولندا، إلاّ أنّ تفكيرها وأنفاسها ما زالت في اليمن، فهي لم تُنقّب فقط عن اللامفكّر فيه داخل هذه الحرب على المستويين الشعري والقصصي، بل اشتغلت طويلًا على قضايا المرأة العربيّة والعُنف المُمارس عليها من لدن سُلطة ذكورية، ما تزال مُترسّبة في بنية اللاوعي. وإذا كانت الكتابة الأدبيّة في عموميتها عبارة تجميل لحياتنا الرتيبة، فإنّها تغدو عند صاحبة "حصّتنا من السماء" أداة لتغيير الواقع ونقد ميثولوجياته، بحيث تُصبح الكتابة وسيلة لإدانة الواقع والحفر في مُتخيّله وما تتستّر عنه الأنظمة الرسميّة داخل التجربة السياسيّة اليمنية.

عن تمثّلاتها لمفهوم الكتابة وعلاقتها بالحرب، كان لنا هذا الحوار مع سبأ حمزة:

 

هواجس الكتابة

(*) لماذا اخترت الكتابة كأفقٍ للتعبير عن قلق العالم وجُرح الكائن الذي لا يندمل، أو بتعبير آخر: لماذا الأدب وليس الموسيقى أو السينما؟

الإجابة على هذا السؤال تحتاج مني شرح الكثير من عادات وتقاليد المجتمع الذي نشأت وتربيت فيه لكن باختصار: حاولت مرارًا أنْ أتعلم العزف على البيانو لكن باءت كل المحاولات بالفشل، فلم تكن هناك أي حصص أو مدارس للموسيقى ورفضت والدتي شراء أورغ أو بيانو لأتعلم ذاتيًا، لأن العزف والغناء من منظور المجتمع "عيب". هذا إلى جانب كون الموسيقى "حرام" سواء في المدرسة التي كُنت أرتادها أو حسب المذهب الزيدي الذي تتبعه المحافظات الشمالية في اليمن. لكن الأمر، كان أسهل بكثير بالنسبة للكتابة أو التصوير مثلًا. كما أّن والدي دودة كتب وقد تعلمت باكرًا حبّ القراءة والاطلاع منه، فكنت أقلّده وأقرأ الكثير من الكتب وكانت الكتابة هي الخطوة المنطقية التالية.

وفي الصف الرابع أعطاني والدي كاميرا معطلة وقال لو قُمت بإصلاحها فهي لك، وفعلًا بعد محاولات عديدة أصلحتها. ومن يومها وأنا أصوّر كل شيء في محاولة لأرشفة اللحظة لكنّي بعد أن غادرت اليمن في 2015 بدأت بالتصوير لأرشفة اللحظة وأيضًا لفهم الواقع الجديد الذي لم أكن مستعدة له. بالنسبة للسينما هي خطوة أفكر جديًا في تجربتها وخوض غمارها.

هذا راجع إلى كون أغلب النصوص الشعرية التي أكتبها هي قصائد مرئية أو سيناريو شعري إن صحت التسمية وهذا يعود لكوني أحاول الوصول لعقل القارئ وقلبه في ذات الوقت، فالأدب والفنّ عمومًا بالنسبة لي ليس مجرد أداة استكشف من خلالها ذاتي أو أعبّر عن نفسي فقط لكنه أداة للتغيير. أؤمن أننا بحاجة ماسة للتفكير خارج الحدود المفروضة. 


(*) داخل الأدب اخترت الكتابة الشعريّة كجنس أدبي هذه المرّة وذلك من خلال عملك الشعري الجديد "حصّتنا من السماء". كيف وعيت ذاتك أدبيًا من خلال هذا الجنس؟

لا تقتصر أعمالي على استخدام الكلمة فقط لكني أستخدم الصورة والصوت وكل ما قد يمكنني من التعبير والشرح والوصول للقارئ مهما كانت لغته. وبالرغم من ترجمة بعض أعمالي للغات أخرى، إلا أني أخاف من هاجس الضياع في الترجمة لذلك ألجأ لوسائل أخرى للتواصل بجانب الكلمة.

كانت السنوات الماضية ثقيلة جدًا ومرّت بصعوبة. خضت خلالها الكثير من التحديات بما فيها التجربة المادية للمنفى واللجوء وعشت تجارب البدايات الصعبة من جديد وتحقيق بعض الأحلام المؤجلة وكانت كتابة الشعر باللغة العربية (لغتي الأم) بجمله المكثفة القصيرة هي الوسيلة الأكثر قدرة على قول الكثير دون الحاجة الملحة فعليًا للكثير من السرد أو الشرح أو التفكير.

 

(*) لكنْ، كيف عشت التجربة الشعريّة تخييليًا بالنسبة لباحثة تحفر في دراسات الجندر؟

دراستي للجندر كانت توسع مني ككاتبة وتربوية بالدرجة الأولى في فهم قضايا المرأة والمجتمعات المهمشة وتطوير آليات الكتابة والبحث والتدريب من منظور نسوي. وككاتبة فالبحث دائمًا جزء مهم في عملية الكتابة ولا فرق عندي في النوع الأدبي سواء كان قصة أو مقالة أو حتى نصًا شعريًا، البحث جزء مهم من العملية. 


(*) ماذا عن مجموعتك القصصية "تراتيل عذراء". ما الذي يُمكن أنْ تقولينه للقارئ العربي عنها؟ وأيّ مكانةٍ يكتسيها اليمن داخل هذه القصص؟

"تراتيل عذراء" مجموعة قصصية كان الهدف الأساسي من كتابتها هو التغيير الاجتماعي نحو عدالة اجتماعية وهذا هو الهدف دائمًا من كتاباتي سواء كانت أدبية أو بحثية. كنت أكتب خلال ثورة الربيع العربي للتعبير عن رأيي في مجريات الأحداث وعن تطلعاتنا كشباب يمني في مجتمع أفضل، لكني كنت أيضًا أنتقد الكثير من السلوكيات التي كان البعض يُحاول فرضها خصوصًا مسألة إقصاء المرأة وهمومها ومشاكلها، وشجعني بعض الأصدقاء على أن أكتب بهدف النشر وكانت القصة هي الأداة التي سمحت لي أن أكتب عن المشاكل الاجتماعية التي كنت أركز عليها ككاتبة امرأة وفي عام 2012 نشرت دار الكتب اليمنية الكتاب. وفي عام 2013 في معرض الرياض الدولي للكتاب كانت "تراتيل عذراء" هي الكتاب الأكثر مبيعًا من الكتب اليمنية في المعرض. ووصلتني رسائل من أنحاء الوطن العربي من شابات وشباب عربي وجدوا أنفسهم في تلك القصص، بالرغم من أنني كتبت من عمق التجربة اليمنية.

 


(*) ماذا عن توجيه فعل الكتابة من الشعر إلى كتابة الرواية؟

أعتقد أنها ظاهرة عالمية. فهناك الكثير من المؤسسات التي ترعى هذا النوع من الكتابة وتفضيل القراء في وقت ما للرواية جعل كتاب القصة القصيرة والشعر يتوجهون إليها. وفي بعض الأحيان هي تطوّر أدبي للكاتب من الجمل القصيرة للسرد. لكن في عصرنا الحالي عصر السرعة أرى أن الشعر يعود للساحة لكونه مجالًا أدبيًا يواكب كل العصور وخصوصًا عصر السرعة والجمل القصيرة والمرئيات.

(*) هل تعتقدين أنّ الرواية قادرة على القبض على تفاصيل الواقع اليمني وندوب المرحلة وجراحها، مقارنة بالكتابة الشعريّة التي يبقَى هاجسها الشذرة والتكثيف والرمز؟

أعتقد أن التدوين بشكل عام بغض النظر عن النوع أو المجال قادر على خلق مساحة لفهم الواقع الآن أو لأرشفته وفهمه في المستقبل. نقرأ اليوم شعر عصر الانحطاط على سبيل المثال ونستطيع تمييز أي عصر كان يعيشه الشعراء آنذاك مقارنة بالشعراء والمفكرين الذين عاشوا في مراحل سابقة.

 

(*) من الناحية الأكاديميّة اهتممت كثيرًا بمسألة عنف المرأة. ما المعارف النظرية والطرق المنهجيّة والآليات الفكريّة التي قادتك ككاتبة وباحثة جديدة إلى تقديم جديدٍ يُعوّل عليه في الموضوع؟

اهتمامي كما ذكرت سابقًا يتركز على إحداث تغيير اجتماعي ومن خلال تجربتي كامرأة ركزت في رسالة الماجستير على مسألة العنف بأشكاله العديدة لأن انتقالي بين عالمين مختلفين جعلني أدرك كم يتعرض الفرد والمرأة على وجه الخصوص للعنف بمستويات متعددة متشابكة ومتقاطعة بسبب النوع الاجتماعي والجنسية والدين والعرق والطبقة واللون. وعمومًا خلال دراستي للماجستير تدربت على أساليب البحث غير التقليدية والممارسات الفنية كأدوات للبحث وإنتاج المعرفة. وكتبت رسالة الماجستير باستخدام الكتابة الإبداعية كمنهجية للبحث والتحليل.

 

(*) إلى أيّ حدّ أثرت هذه الدراسات والبحوث، التي قُمت بها داخل "مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية"، على كتاباتك الأدبيّة، شعرًا وقصّة؟

أتاح لي مركز صنعاء الانتقال من الجانب النظري في أبحاثي (في جامعة أوترخت حيث حصلت على رسالة الماجستير ومؤسسة باك وهي مؤسسة هولندية للفن والمعرفة) إلى التطبيق العملي. حيث عملت في برنامج منتدى سلام اليمن كمدربة للكتابة وفي برنامج صوت النساء على طاولة القرار- "صوت"- قمت بالتنسيق والتدريب لورشة عمل وحوار وطني للنساء في اليمن والشتات. استخدمت الشعر ورواية القصص كوسائل بحثية بديلة سعيت من خلالها لاستكشاف المعاني الكثيرة للسلام والحرب بالنسبة للنساء عبر بناء لغة تقترب أكثر من التجارب الحياتية عوضًا عن المعاني الجيوسياسية لمعنى الحرب والسلام.

 

الكتابة وعلاقتها بالجسد والحرب

(*) تعيشين في هولندا، لكنّك تكتبين عن اليمن، هل تعتقدين أنّ هذه المُعادلة الأدبيّة صحيحة، بحكم أنّك بعيدة عن البلد. أم إنّ فعل الكتابة بالنسبة لديك ينطلق من الواقع اليمني ويتشعّب في أمورٍ تتعلّق بالتاريخ والذاكرة؟

صحيحة بالنسبة لماذا أو لمن؟ لا أقيس المسافة بالأميال فأنا حتى وإن كنت اليوم أعيش في هولندا صلتي باليمن لن تنقطع بمجرد أن جسدي قد انتقل لجغرافيا جديدة، إلا إذا افترضنا أن الإنسان لحم ودم فقط فحينها ربما أوافقك. ومع ذلك فأنا لا أكتب عن اليمن كجغرافيا أو كتاريخ منفصل عن ذاكرة الناس وهمومهم بل أكتب انطلاقًا من تجاربي وواقعي والقصص والحياة التي عشتها وأعيشها كل يوم، وبالتأكيد اليمن ستكون دائمًا موجودة حتى لو حاولت التملص.

 

(*) ماذا عن الحرب، هل في نظرك أثّرت تدريجيًا وبشكلٍ كلّي على مفهوم الأدب داخل اليمن، خاصّة فيما يتعلّق بالتجارب الأدبيّة الجديدة التي تنتمين إليها؟

بالتأكيد أثرت لكني لا أعلم يقينًا إلى أي حد وهل هو كلي أم لا. لكن تقييمي بشكل عام إيجابي. أعتقد أن الحرب حركت الكثير من المياه الراكدة. توجه الكثير من الشباب للفن والأدب لمحاربة الواقع المفروض عليهم وللنجاة من مستنقع الحرب التي تأكل الأخضر واليابس ولجأ إليهما آخرون كجزء من عملية التشافي من تروما الحرب ونفاق العالم القريب والبعيد.

ولا أعلم صدقًا إن كنت أنتمي للتجارب الجديدة كما تصفها أنت أم للتجارب القديمة فتجاربي وهمومي واهتماماتي تنتمي لجيلين مختلفين وأعتقد أن هذه حال الكثير من مواليد الثمانينيات لكن أيضًا كامرأة أصبحت أمًا في سن مبكرة جًدا وهذا جعلني أرى العالم من منظور مختلف مقارنة لمن كانوا في مثل عمري مثلًا.

وبالنسبة لي على الصعيد الشخصي سبّبت لي الحرب الأخيرة الكثير من القلق والشتات والتشتت. وكتربوية ومدافعة عن حقوق المرأة والطفل بوجه الخصوص، قبل بداية الحرب، لم أكن مستعدة لخوض حروب جديدة ولا للدفاع عن قضايا جديدة وأخذت وقتًا في ترتيب وضعي ونفسي وأولوياتي ولا أستطيع الجزم أنني انتهيت الآن من ذلك. بل أعتقد أنه ما دامت الحرب/ الحروب قائمة سيظل الشتات جزءًا من هويتي، ومؤخرًا بدأت محاولة تقبّل هذا الجزء واحتوائه، وهذا بالتأكيد يؤثر على الكثير من المفاهيم لدي بما فيها الفن والأدب كما أوضحت سابقًا.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.