}

أحمد الحرباوي: المكان يبقى من أهم مكوّنات الرواية

عماد الدين موسى عماد الدين موسى 13 أبريل 2022


 

يعتبر الروائي الفلسطيني أحمد الحرباوي (من مواليد مدينة الخليل، 1991)، من الأصوات المميزة في الخارطة الروائية الفلسطينية الجديدة، حيثُ صدر له مؤخرًا عن دار نوفل/ هاشيت أنطوان في بيروت رواية جديدة بعنوان "احتضار عند حافة الذاكرة"، وهي الرابعة له بعد: "أمرّ من السُكر (2013)"، "في كانون يموت الحبّ حيًا (2015)"، و"خيانة مقدسة (2016)".
هنا حوار معه:

(*) لاحظتُ من خلال تتبعي لمساركَ الروائي، أنَّ المكان الروائي الفلسطيني هو مركزُ (كَوْنٍ) لوطن تختزله في مدينتك "مدينة الخليل" وتشتغل عليه في رواياتك؟

يُعتبر المكان من أهم مكونات الرواية وبالعادة ترتكز القضايا التي يناقشها السرد على هذا الفضاء لما يحمله من ارتدادات تؤثر على الشخصية وتركيب الأحداث ككل، وهذا يحتم على الكاتب الإلمام بتفاصيل ذلك المكان من أجل التمكن من عكس كل تلك الأبعاد على مستوى الشخصيات أو الحدث، ومن هذا التفصيل أنطلق من فضاء مدينة الخليل مسقط رأسي في تناول القضايا التي أطرحها والتي عادة تكون محصورة في فضاء هذا المكان، لكن بنفس الوقت يمكن الولوج منه نحو تفسير دوائر مكانية أوسع. كما أن مدينة الخليل ظلت لعقود تعاني من ركود في العملية الأدبية سواء في الإنتاج أو الطرح ربما بسبب سيادة بعض التيارات الأصولية واحتكارها للخطاب الشعبي، كما أن بيئة المدينة خصبة لأي كاتب لطرحها على المتلقي لتعدد القضايا التي تعاني منها سواء على المستوى الاجتماعي أو السياسي والاقتصادي. كما أن الانتماء للمكان يحتم على كل كاتب الانطلاق من تركيبة بيئته من أجل إنتاج أدب حقيقي وصادق وقادر على التأثير في فضاءات مكانية مغايرة على المستوى المحلي أو الإقليمي، وهذه الخصوصية تعطي للنص شكلًا مغايرًا في الطرح ومختلفًا ومتميزًا، لكنها أبدًا لا تعني الانعزال عن فضاءات مكانية أخرى.

(*) تختلف عن روائيين فلسطينيين وعرب في أن المكان عندكَ مِنْ (كُنْ) فتكون. في حين أن سلطات الاحتلال تعمل على (كانَ) هناك فلسطين. أهي رؤيا سياسية، أم موقف إنساني من المكان الذي وُلدتَ فيه؟

إنه موقف مركَّب من الرؤيا السياسية وتأتي كتحصيل حاصل لفرد يتفاعل مع قضيته التي يحتك بتفاصيلها بشكل يومي، كما أن الموقف الإنساني الرافض لأي عملية تزوير أو طمس أو تغيير في الحقائق والتاريخ يحتم خوض هذه العملية من التفاعل مع المكان، ويرتكز الاحتلال الإسرائيلي على استلهام الوجود من تاريخ غير موجود، من خلال الترويج لأحقيته التاريخية في أرض فلسطين من خلال قصص دينية وأساطير لا علاقة لها بجغرافيا أرض فلسطين ولا بأي مركب من مركباتها الأركيولوجية. ومن أجل التصدي لهذه العملية الممنهجة من التزوير ومن خلال فعل كينونة الفلسطيني المتجذِّر على أرضه يأتي الدافع لدي من الانطلاق من الواقع الوجودي لإبراز الكينونة من خلال عدة منطلقات أهمها تتبع الهوية الوطنية والتاريخية للفلسطيني بخط عامودي من الحاضر حتى الماضي من أجل التأكيد على أصالة الوجود في محاولة للتصدي للسردية الإسرائيلية التي لا ترتكز على أي حقيقة في ادعاءاتها. كما أن هذا المنطلق في الكتابة يأتي في سياق إعادة ترتيب واقع الصراع الوجودي بين الفلسطيني والإسرائيلي ليخرج من دائرة النزاع الديني الذي حاولت الصهيونية فرضه من أجل الانتصار لرواية دينية يهودية تجد لها مكانًا في السردية القصصية الإسلامية الكلاسيكية، فالصراع الوجودي لا يأخذ فعله من هذا الفضاء، فالقضية أكبر وفي تركيبتها تعتمد على متراصفات ثقافية وتاريخية مركبة عند الفلسطيني تعطيه صفة الوجود، وغير موجودة عند الإسرائيلي سوى في ماضٍ متخيل.





(*)
في عملك "في كانون يموت الحب حيًّا" تشتغل شخصيتا الرواية بالآثار- عودة إلى تأكيد الهوية الفلسطينية للمكان- وقيام سلطة الاحتلال برشق ندى بالحجارة وكسر آلة تصويرها على يد بعض اليهود الصهاينة أثناء قيامها برحلة تدريبية في أطلال "تل رميدة" الذي قامت سلطات الاحتلال بإجراء حفريات فيه بحثًا عمَّا يثبت أنَّه أثرٌ عبري، وليس كنعانيًا ولا عربيًا.. أيضًا أنت في المكان؟

عملية تتبع المكان في التاريخ بكافة مكوناته وخاصة في ظل صراع وجودي بين أصحاب الأرض وكيان يحاول بكل ما أوتي من قوة وتجبر طمس هذا التاريخ، عملية معقدة وشاقة ولا يمكن حصرها في سردية واحدة ولا سياق واحد، فكل عمل روائي فلسطيني يبرز سردية سواء كانت اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية عليه أن يتفاعل مع المكان بطرق مختلفة ومتعدِّدة بحيث لا تخل بالسياق الدرامي وتركيبة الحبكة، كما أن عملية اقحام التاريخ بالنص الروائي بشكل جامد يثقل القارئ ويحجم عملية تفاعل المتلقي مع النص. من هذا المنطلق يصبح المكان والتاريخ جزءًا أساسيًا من أي عملية كتابة ولكن ضمن سياق محدد وفي مسار خاص، من أجل توصيل الفكرة بشكل سلس وغير فج، وهذا الشكل في الكتابة الروائية ذات المسؤولية التاريخية والحضارية تترتب عليه كتابة سرديات متعددة تطرح كل مركب مرتبط بالهوية الثقافية بشكل منفرد وخاص.


(*) في روايتك "خيانة مقدَّسة" تستدعي التاريخ؛ الأحداث التي وقعت على أرض فلسطين مثل مجزرة الحرم الإبراهيمي، كما تؤكِّد أن القدس كمكان كانت مركزًا ثقافيًا تستقطب المشتغلين بالثقافة والآداب والفنون، ولم تنسَ إذاعة القدس. أيضًا تُعرِّض بأولئك الذين باعوا الأرض- المكان الفلسطيني. أيضًا هنا أنت في المكان؟

المكان حاضر في شكل آخر وفي سياق مغاير، فالمكان هنا تمَّ الحديث عنه من خلال طرح إشكالية الصراع الموجود في المدن الدينية (مثل الخليل والقدس) والتي تحاول إسرائيل بشكل خاص التعامل معها ضمن سياق ديني جرَّدها حتى عند الفلسطيني من تركيبتها الثقافية، فالتأكيد على هوية المكان الثقافية والأدبية في هذا العمل جاء من إيمان شخصي بضرورة فتح حلقة الصراع للخروج من عباءة الدين، فالمدن لها إشعاع حضاري وثقافي وأدبي ذو أهمية كبيرة في بلورة نضج أفرادها، كما أن الصراع الديني كما ذكرت سابقًا والتأكيد عليه يطمس من ملامح المدينة كمكانٍ حيّْ ذي إنتاج ثقافي وحضاري مؤثر ليس على مستوى فلسطين وحسب بل على مستوى إقليمي عربي، وهذا الطرح يأتي انتصارًا للمدينة الفلسطينية التي كانت تساهم بشكل كبير في صياغة ملامح النهضة الثقافية في الوطن العربي، وهذا جزءٌ أساسي يعطي للمكان أهمية عظمى لا تقل عن الأهمية الدينية.

(*) في روايتك "احتضار عند حافة الذاكرة" الصادرة مؤخرًا تؤكِّد على هوية المكان الفلسطيني وعلى وطنية الفلسطينيين مهما كانت دياناتهم، ولكن نرى يهوديًا يقف ضد سياسة التتريك العثمانية، وأيضًا ضد المشروع الصهيوني لاحتلال فلسطين؟

اعتمدت هذه الرواية على الوثائق في بنيتها وتناولت في الأساس حركة التحرر في المدينة من خلال بعض سكانها المنضمين إلى حركة الفتاة العربية التي ناهضت التتريك المتمثل في حكم جماعات الاتحاد والترقي نهاية الحكم التركي، وكان من بين الثوار يهودي يدعى إيلي كستيل، وهذا الطرح مهم جدًا لأنه لا زال يرتبط بواقع المدينة السياسي والاجتماعي وجزء من هوية المكان، خاصة بعد قيام دولة الاحتلال بالمطالبة بأملاك اليهود الذين غادروا المدينة قبل قيام دولة إسرائيل بأكثر من عقد نتيجة ظروف سياسة متعددة عام 1934م إثر ثورة البراق عام 1929م، ولم يرجع يهود الخليل بتاتًا بعد قيام دولة إسرائيل، وقامت الحكومة الإسرائيلية بتوطين المستوطنين في قلب المدينة القديمة بحجة الأملاك اليهودية في حين أن الجالية اليهودية من أهل الخليل، المقيمة في باريس ونيويورك، رفضت ذلك ووقعت عريضة عام 1994م مفادها الطلب من إسرائيل الخروج من تلك الممتلكات وتفويض الفلسطينيين من أهل المدينة بالانتفاع بها لحين عودتهم. وهذا الطرح كما ذكرت سابقًا يندرج في التأكيد على هوية المكان وأصل الصراع الذي يجب أن يخرج من سياقه الديني، كما أن هذا الطرح يعطي المجال لفهم الآخر كجزءٍ لا يتجزأ من عملية بناء فهم أوسع للقضية الفلسطينية.


(*) هذا الإصرار على تأكيد هوية الأرض يكمن وراءه انفعالٌ بدا في السرد عندك غير (مصنوع)؛ بدا عفويًا وعاطفيًا وإن كان مخططًا له. أيهما أكثر تأثيرًا في القارئ: ذاك المصنوع أم العفوي؟

عملية الكتابة وخاصة في مجال التأريخ والهوية عملية معقدة نوعًا ما وتحتاج إلى إدراك ماهية العلاقة بين السرد والزمن، أو السرد والقصص، هناك العديد من النماذج التي كتبت من خلال رؤية مصنعة عن فضاءات مكانية وزمانية مغايرة لكنها نجحت بفعل الدراسة وإدراك العلاقة بين السرد والزمن، وقامت بإنتاج سرديات مهمة أثرت في أجيال متتابعة من القراء. كما برز العديد من الكتاب الذي تفاعلوا بعاطفة مع قضاياهم ومع الأرض التي انتموا إليها بشكل كبير لكن النص المنتج عندهم لم يعط أي تأثير أو أي قيمة إضافية للقارئ أو للأدب بشكل عام. لذا أرى أن الكتابة هنا معقدة وتأتي ضمن عدة مسارات أهمها الانتماء للمكان بطريقة حيادية من أجل الولوج إلى الآخر البعيد بشكل فعال، إلى جانب الإلمام بالحد الأدنى من الثقافة في الطرح وتكنيك السرد، والقراءة للسياق المنوي الكتابة عنه للخروج بأكبر قدر من المصداقية، فالصدق هو من يثير مشاعر الكاتب وبالتالي ينعكس على النص فيتلقفه المتلقي بلهفة وتفاعل.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.