}

نجم الدين سمّان: الرسم بالقهوة أشبه بالطقوس الصوفية

فائزة مصطفى 25 أبريل 2022
حوارات نجم الدين سمّان: الرسم بالقهوة أشبه بالطقوس الصوفية
السمّان أمام ملصق معرضه التشكيلي في بيزانسون/ فرنسا

ما يعرف في سيرة الكاتب والصحافي السوري، نجم الدين سمّان، هو وفاؤه اللامحدود لفعل الكتابة، وما يسكنه من هواجس العمل الثقافي المثابر. فالإبداع بالنسبة لصاحب كتاب "المدن النساء" هو متنفس لرحلة اللجوء العسيرة التي خاضها بين عشرين بيتًا، وأربعة بلدان، وثلاث قارات، ليحط رحاله مؤقتًا في شمال فرنسا البارد، مجهزًا حقيبته للبحث عن مستقر آخر في الجنوب المشمس. أما الرسم والتصوير بالنسبة له، فهما استراحة محارب أنهكته متاهات الحرب السورية، إذ استغل إقامته لمعرضين فنيين في مدينة فيكتور هوغو لتكريم غرقى البحر الأبيض المتوسط، وقتلى السلاح الكيماوي، وضحايا الديكتاتوريات، وأيضًا ليدعو إلى التضامن مع اللاجئين الأوكرانيين، إيمانًا منه بفاعلية كلمة المثقف من أيّ خطاب سياسي آخر.
هنا حوار معه:

نجم الدين السمّان في معرضه التشكيلي في بيزانسون/ فرنسا: "الرسم بالقهوة السورية"

 




(*) لم يكد ينتهي معرضك الفوتوغرافي في مارس/ آذار الماضي حتى بدأ معرضك التشكيلي في أبريل/ نيسان الجاري. تفاديت فيهما التناول المباشر للحرب السورية ومآسيها، مكتفيًا باستحضار ثيمة الحنين، وجراح الشتات، كما هي الحال بالنسبة لمعرضك الذي يحمل عنوان" الرسم بالقهوة السورية". القهوة أيضًا هي من التقاليد العريقة للمدن الفرنسية، موطن لجوئك، فكيف بدأت قصة هذه اللوحات في دمشق إلى غاية رحيلها إلى بيزانسون؟

كان المعرضان مبرمجين قبل جائحة كورونا؛ وتأخرا عامين كاملين بسبب تجميد النشاطات الجماعية في فرنسا؛ وصادف أن المعرض الأول كان فوتوغرافيا، وبعنوان: "من دمشق إلى بيزانسون"، والثاني كان تشكيليًا. بقيت هواياتي في التصوير الضوئي، وفي الرسم والخط العربي، حاضرة بين نصين إبداعيين أكتبهما، أو بين مقالتين؛ فقد كرست نفسي ككاتب وكصحافي؛ لكن تلك الهوايات كانت تجرني أيضًا إلى غواياتها.


(*) تجمع أعمالك الفنية بين رائحة البن ومشاهد تراكمات بشرية، ما يلفت الانتباه هو غياب ملامح وأطراف هؤلاء الناس المرسومة في اللوحات، لماذا؟
علاقتي بالرسم وبالقهوة يومية ودائمة، بل هي علاقة أشبه بالطقوس الصوفيّة. وعنها كتبت أكثر من نص؛ ولدي قصة بعنوان: "12 فنجان قهوة"؛ وصادف أن نفدت علبة الألوان ذات يوم، وكان فنجان قهوتي أمامي، فغمست ريشة ألواني فيه ورسمت. وما زلت أمارس تلك التقنية. وحين صرت في فرنسا تابعت تحضير قهوتي بالطريقة السوريّة ذاتها؛ وتابعت الرسم برحيقها؛ أمّا عن غياب ملامح الوجوه في لوحاتي فتعود إلى ما شهدناه كسوريين من قتلٍ وموتٍ تحت التعذيب، ودمار نصفِ مدننا وقرانا؛ ففي المقتلة الدموية التي مارسها النظام وحلفاؤه الإيرانيون والروس.. تختفي الملامح الفرديّة حين يُعاني السوريون من المصير ذاته؛ فعناوين لوحاتي تراوحت بين: رحيل؛ السوريون يصعدون إلى السماء؛ هجرة.. إلخ؛ لا مكان لقصة فردية؛ بل لقصة الجموع.


(*) عمدة مدينة بيزانسون اهتمت كثيرًا بمعرضك التشكيلي نظرًا لخصوصيته، فكيف كانت الأصداء وإقبال الفرنسيين المفتونين بتاريخ الاستشراق وهم يرون مشاهد مُغايرة عن سورية؟
كنت أقيم في دمشق القديمة بجانب "مدرسة بيزانسون" التي أنشأتها "راهبات العناية الخاصة" القادمات من تلك المدينة الفرنسية عام 1924، وقد تبرّع التاجر الدمشقي أنطون حمصي بقصره ليكون مقرًا لها؛ دخلت إلى القصر، وصوّرت لقطاتٍ له قبل 20 عامًا. لم أكن وقتها أتخيّل بأنّي سأكون لاجئًا سوريًا في بيزانسون بالذات؛ التي تربطني بها أيضًا محبّتي لفيكتور هوغو المولود فيها؛ والذي قرأتُ أعماله وأنا يافع مُترجمةً إلى العربية. وفي معرضي الفوتوغرافي "من دمشق إلى بيزانسون" خصصت قسمًا لدمشق القديمة، حيث كنت أعيش وأعمل؛ وقسم آخر لهذه المدينة التي استقبلتني؛ والتي رأيتها بعين كاميرتي أيضًا. وكانت أصداء المعرض جيدة في الصحافة المحلية، وعبر الحضور والمتابعة؛ ولم تكن شريحة من السكان تعرف بوجود مدرسةٍ في دمشق باسم مدينتهم.. وربما هذا ما دفعهم لمُتابعة المعرض والاهتمام به؛ إضافة إلى كونهِ جولةً لهم في دمشق القديمة التي أحفظ أزقتها وظلال بيوتها بعيني الثالثة. ونقلتها لهم بكاميرتي.

ملصقا معرضي نجم الدين السمّان "من دمشق إلى بيزانسون"، و"الرسم بالقهوة السورية" 




(*) كيف زاوجت بين المدن السورية والفرنسية عبر عينك الثالثة كما تقول، ما دام هناك تقاطع بين أزقة بيزانسون وباريس مثلًا مع حارات حي باب توما بدمشق، والقلاع الفرنسية الشبيهة بقلعة حلب القديمة؟
علاقتي بالمدن هي علاقة مُغامرة واكتشاف؛ وقد خصّصت مجموعة قصصية بعنوان: "المدن.. النساء" عن تلك العلاقة؛ وهكذا أيضًا بدأت اكتشاف بيزانسون الفرنسيّة بلا خارطة سياحية وبلا دليل.. كما أفعل دائمًا في كلّ المدن التي زرتها؛ مُصطحبًا معي كاميرتي/ عيني الثالثة. وفي عدستها اكتشفتُ أزقةً قديمة تُشبه أزقةَ دمشق وحلب، وغيرهما من المدن السورية؛ كما أن قلعة بيزانسون في إطلالتها على المدينة تُشبه قلعة حلب الشهيرة؛ وكما لكلّ امرأةٍ نكهتها الخاصة وجمالها الخاص كذلك هي المدن أيضًا.

شرفات دمشق (يسار) وشرفات بيزانسون (يمين) لنجم الدين السمّان


(*) خلال الكلمة التي قدّمتها في حفل افتتاح معرضك الفوتوغرافي، أعلنتَ تضامنك كلاجئ سوري مع اللاجئين الأوكرانيين؛ عادًا ما يحدث في أوكرانيا مُشابهًا لما حصل في بلدك منذ عام 2011؛ مُحملًا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مسؤولية ما يحدث في البلدين، إلى أي مدى يُمكن لصوت المثقف السوري أن يؤثر على مواقف السياسيين من الحرب الروسية؟
كلّ ما يحدث في أوكرانيا اليوم حدث في بلدي سورية منذ أكثر من عشرة أعوام؛ فقد بلغ عدد المُهاجرين السوريين عشرة ملايين؛ بما يعادل نصف سكانها تقريبًا؛ وكسوري أرغمه قصفُ النظام وحليفه بوتين على مُغادرة بلده؛ كان من الطبيعي أن أتضامن مع اللاجئ الأوكراني؛ وأن أذكر هذا أمام حضور معرضي من الفرنسيين؛ وللرأي العام الفرنسي من خلال الصحافة؛ وعبر الخطاب الثقافي والفنيّ.. لأني أراه أكثر فاعليةً من أيّ خطاب آخر؛ فالثقافة هي الجسر الأزليّ بين الشعوب حتى لو اختلف ساستها في ما بينهم؛ وبخاصةٍ.. لأنّي مررتُ بأربع تغريباتٍ عن بلدي قبل أن استقرّ أخيرًا في فرنسا؛ لقد بدّلتُ البلدان كما لو أنّي أُبدّل قمصاني، وكان كلّ بلدٍ يرميني إلى بلدٍ آخر، مثل أوليس في متاهته البحريّة؛ وكسيزيف يحمل حقيبة لجوئه على ظهره، صاعدًا بها إلى الجُلجُلة.

ثلاث لوحات من معرض "الرسم بالقهوة السورية"


(*) منذ أن أقمتَ في فرنسا، لم تتوقف عن الكتابة، خاصة في المسرح، وتتراكم على مكتبك كثير من المشاريع المشتركة بين بلدك الأصلي وبلد اللجوء، فما هي نشاطاتك وإبداعاتك الآنية والقادمة؟
كتبت في بيزانسون ثلاث مسرحيات؛ بالعربية طبعًا؛ ترجم منها صديقي إيمانويل بريجون إلى الفرنسية نصّ "القنّاص" وقام بترجمة النصّين الآخرين ابني فرات؛ النصّ الأول الذي يحمل عنوان: "العشاء السوري الأخير" يحكي قصة عاشِقَين فرّقت بينهما حربُ النظام على الشعب السوري؛ وجمعتهما باريس بعد رحلة لجوءٍ مريرةٍ تعرّض الشاب فيها للغرق في البحر خلال عبوره للبحر الأبيض المتوسط؛ أو ما يُعرف برحلات الموت؛ التي حوّلت كثيرًا من أجساد شبابنا إلى طعام للأسماك؛ واستشهدت فيها بقصيدة سان جون بيرس عن الغريق السوري.



في مسرحيتي "القنّاص"، وظفت فيها ديوان "أزهار الشرّ" لشارل بودلير؛ وتبدأ المسرحية بسؤال مفتوح: هل نحن أحفاد قابيل القاتل؛ أم أحفاد هابيل القتيل؟!؛ مستندًا إلى أسطورة شعبية في بلاد الشام تقول بأن حادثة القتل الأولى في التاريخ الإنساني قد وقعت على "جبل قاسيون" في دمشق؛ ويبدو أنها تكرّرت، ولكن بشكل ملموسٍ ودموي؛ حين قتل السوري الأسديّ إخوته السوريين بكلّ الأسلحة؛ وصولًا إلى استخدام السلاح الكيماوي.


(*) حسب اطلاعي على نصك المسرحي:" كواليس 50"، كأنك أثرت معضلة تراجع الفن الرابع حتى في البلدان المتقدمة، وهي مُشكلات المسرح المعاصر في العالم كله. فما السبيل لتجد نصوصك وفرقتك الفنية طريقًا للوصول إلى الجمهور؟
لقد لحق التهميش بهذا الفنّ الراقي الجميل؛ وبخاصة في فرنسا، بعد أن توقفت وزارة الثقافة فيها عن دعم الإنتاج الثقافي والفني؛ تاركةً إيّاه للشركات الخاصة العابرة للقوميات، تُموّل ما تشاء من الفنّ الاستهلاكي اليوميّ والسطحيّ. وفي تلك المسرحية استخدمت جزءًا من خطاب فيكتور هوغو في الجمعية التأسيسية الفرنسية بعد سقوط نابليون الثالث؛ يُخاطب نوّاب الشعب الفرنسي قبل مئتي عام: "ما دام في فرنسا جائع واحد؛ أو شبابٌ بلا عمل؛ أو رجلٌ واحد بلا بيتٍ يؤويه.. فأنتم لم تفعلوا شيئًا". وقد بدأت بتأسيس فرقة مسرحية سورية فرنسية في بيزانسون؛ ولكنها تُواجه صعوبات حقيقية.. ليس أبرزها بالطبع العطالة بسبب وباء كورونا لمدة عامين مضيا؛ ولكن لأنّ الإنتاج المسرحيّ في فرنسا صعب جدًا وعسير؛ كما هو الحصولُ على تمويل نصوصنا وإنتاجها؛ لكني لا أعرف لليأس مكانًا فأنا "مُتشائِلٌ" على الدوام على طريقة بطل رواية الفلسطيني إميل حبيبي.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.