}

محمد الداهي: العرب أيضًا أبدعوا في التخييل الذاتي

عزيز العمراوي 19 مايو 2022


 

فاز كتاب "السارد وتوأم الروح.. من التمثيل إلى الاصطناع" لمؤلفه الباحث والناقد والأكاديمي المغربي الدكتور محمد الداهي بجائزة الشيخ زايد للكتاب في دورتها السادسة عشرة، في فرع الفنون والدراسات النقدية لعام 2022.

ويقدّم الداهي، أستاذ السرد الحديث وسيميائيات السرد في جامعة محمد الخامس، في كتابه هذا ـ صدر عن منشورات المركز الثقافي للكتاب 2021ـ مقاربة جديدة ومختلفة لأنماط الكتابات الذاتية من منظور السيميائيات الذاتية.

هنا حوار معه في هذه المناسبة:

(*) ما شعورك بعد فوزك بجائزة الشيح زايد العالمية للكتاب، فرع الفنون والدراسات النقدية؟

أشعر بغبطة وسرور فائقين وأنا أفوز بهذه الجائزة، التي أعدها ثمرة جهد سنوات من البحث والعمل المتواصلين. حفزتني القيمة العالمية للجائزة، وصرامة تدابيرها، ونزاهة المحكمين وأعضاء الهيئة العلمية والأمناء، على الاعتراف بجدوى ما أنجزه من أبحاث وما أدرسه للطلبة زهاء أربعة عقود، وأفعمتني بطاقة إضافية لمواصلة المشوار بالجدية والمسؤولية المتوخيين.

(*) فيم تكمن قيمة الكتاب بالنظر إلى أداء النقد العربي الراهن؟

الكتابُ يُعدّ أول حفر في المنطقة البينيَّة عربيًا. هذه المنطقة شغلتْ اهتمام الباحثين الغربيين (فيليب لوجون، جيرار جنيت، فليب كاصبريني، أرنو شميت) بعد اكتشاف أنواع كثيرة تثير التباسًا في ازدواجية نوعها، وتلقيها المضاعف بحكم التجاذب بين الطرفين النقيضين (الروائي والسيرذاتي، التخييلي والواقعي). حفزتني قراءة كتبهم والاحتكاك بهم في مؤتمرات وندوات دولية على البحث في المنطقة البينيَّة العربية بأدوات ومفاهيم جديدة حرصًا على إثبات أن العرب لا يقلون نبوغًا عن أندادهم الغربيين، وعلى تأكيد موقعهم في النسق الثقافي الكوني.

ظلت هوة سحيقة بين ملفوظات الواقع وملفوظات التخييل على حالها منذ كتاب "الشعرية" لأرسطو إلى حدود العقود الأخيرة من الألفية الثانية. أول من انتبه إليها هو فيليب لوجون عندما حدد شروط الميثاق السيرذاتي (الميثاق السيرذاتي- 1975) مميزًا بين السيرة الذاتية والأشكال المجاورة لها التي حصرها في عشرة (السيرة، واليوميات، والبورتريه، والفضاء السيرذاتي، والمذكرات... إلخ)، ثم أضاف إليها فيما بعد ستة أنواع تاركًا خانتين شاغرتين لعدم تمكنه وقتئذ من استحضار أمثلة تناسبهما (أنا أيضًا- 1986). إنها تربو على سقف الثلاثين بعد أن اكتشف جيرار جنيت (التخييل والواقع- 1991) أنواعًا جديدة؛ من قبيل التخييل السيرذاتي، والسيرة الذاتية المتباينة حكائيًا، والسيرة الذاتية التخييلية.. إلخ. وهكذا نعاين - على المستوى الكوني- أننا أمام "قارة مجهولة" تستدعي اكتشافها بأدوات ومناهج جديدة لتجنيسها من جهة والتأكد من هويتها الملتبسة من جهة ثانية. أيتعلق الأمر بالاختلاط (النظرية العقلانية والكلاسيكية الخالصة) أم بالهجنة (النظرية التخييلانية Fictionnaliste) أم بالتدفق (النظرية العبر أجناسية)؟ يصل التوتر إلى أوجه في حال التخييل الذاتي الذي يعتبره فريق خلقةً هجنيةً أو مُنافرةً عجيبةً في حين سعى فريق آخر- وفي طليعته فيليب كاصبريني- إلى إثبات جدارته بصفته جنسًا مستقلًا له مميزاته وخصائصه.

 

(*) ما موقعك الثقافي حيال الثقافة الغربية؟

بالنسبة لي- بصفتي أعيش على الضفة الأخرى-  أكتفي بترديد ما يرد علينا من الغرب واجتراره أم أتموضع ضمنه بالاستفادة منه والرد عليه (الرد بالكتابة بحسب بيل أشكروفت)؟ نلاحظ - في هذا الصدد- أن الباحثين العرب ما فتئوا يهتمون بالسيرة الذاتية الكلاسيكية التي تعنى بتقليد النموذج أو المحال إليه المترجم له، وقلما يهتمون بما يقع في المنطقة البينيَّة التي تعد قارة مجهولة تتطلب منا أن نكتشفها بالأدوات والمناهج المناسبة. إن الأدب العربي حافل بمختلف هذه الأنواع والأجناس مما يدل على أنه -عكس ما روجه الأدب الكولونيالي عنه- جزء من النسق الكوني. ودورنا نحن المثقفين والباحثين العرب هو أن نثبت ذلك بالأدلة الملموسة. وهو ما سعيت إليه منذ كتابي "شعرية السيرة الذهنية محاولة تأصيل" (1994) إلى كتابي الأخير "متعة الإخفاق في المشروع التخييلي لعبد الله العروي" (2022)، وحرصت على التوسع فيه في كتابي "السارد وتوأم الروح.. من التمثيل إلى الاصطناع" (2021) باعتماد منهجية مرنة تزاوج بين مكاسب الشعرية والسيميائيات الذاتية تطلعًا إلى استيعاب هوية أجناس بعينها (السيرة الذاتية، التخييل الذاتي، المحكي الذاتي) وفق المحورين الأفقي والعمودي: بينتُ عموديًا كيف تدرجت المحكيات الشخصية (الأدب الشخصي Littérature personnelle) من الإبدال الحداثي الذي كان يراهن على التمثيل بالتطابق مع المحال إليه والضرب على منواله مع الوعي بألاعيب الكتابة ومغامراتها (السيرة الذاتية الكلاسيكية) إلى الإبدال الما بعد حداثي الذي أصبح المحال إليه في صور وهيئات عديدة (أصوات متعددة، صور المؤلف وتوائم روحه الملتبسة). سعيت على المستوى الأفقي لأن أبين كيف تتأرجح المحكيات الشخصية البينيَّة بين ثلاث حقائق: الحقيقة التاريخية (يتحول المحكي الشخصي إلى وثيقة لملء ثقوب الذاكرة) والحقيقة الذاتية (لا تهم الموضوعية بل الصدق لما له من أهمية في الإحساس بالوقائع والأفعال كما وقعت فعلًا) والحقيقة المصطنعة (يتوهم المؤلف بأن النظير أو المثيل هو امتداد لروحه، لكن لا يتوقع – باستقواء الشك والتصنع والزيف في العصر الراهن- أن يتحول إلى صوت من الأصوات التي لا تنافسه فقط بل تزيحه عن عرشه لتنحيته وإلغائه، والتحدث باسمه بصيغة الجمع).

 



(*) ما هي الرهانات النقدية والثقافية للكتاب؟

إن الكتاب – علاوة على مسعييْه الأدبي (اكتشاف المنطقة البينية العربية أو سرديات البرزخ العربية) والتربوي (حفْزُ الشباب العربي على دراسة تراثهم السردي، وخاصة ما يصطلح عليه بالأدب الشخصي الذي ما فتئت مكوناته تثير إشكالات على مستوى تجْنيسِها وتَعرُّفِ هويتها)- يراهنُ على الإسهام في المسار التنموي العربي بتوسيع مجال شعرية المحكيات الذاتية والأجناس التذكارية، وتحصين الذاكرة الجماعية وتعزيز دورها الثقافي والحضاري، وملء فرجات التاريخ المنسي أو المغيب، ودَمقْرطة الكتابة عن الذات بتشجيع العرب على سرد تجاربهم ومذكراتهم، وإنشاء خزانات ومكتبات وسائطيَّة لجمع مؤلفات المحكيات الذاتية والوثائق والمسودات الشخصية ورقْمَنتها (أسوة  بمقر "الجمعية من أجل السيرة الذاتية" في مدينة أمبري- ون- بوغي Ambérieu-en-Bugey أو ما يُنعت بمدينة السيرة الذاتية في فرنسا)، والحرص على إدماج الفئات التي تعاني من الهشاشة الاجتماعية أو الإعاقة بمختلف أصنافها (النفسية والذهنية والجسدية) وتيسير سبل ولوج الثقافة والإسهام فيها، وتحسين اقتصاد المعرفة أو الرأسمالية المعرفية سعيًا إلى تأهيل المورد البشري، وتطوير صناعة المعرفة، وتحسين التنافسية الاقتصادية، وتطوير المعدات التكنولوجية، وتشجيع الطلبة على تنمية شخصياتهم ومؤهلاتهم باكتساب مهارات الابتكار والإبداع والنقد والرَّقْمَنة.

هناك رهان آخر أضحى ملائمًا بعد "صحوة الذاكرة" التي انتعش الحديث عنها من جراء "انهيار جدار برلين" عام 1989، وهو المتعلق بإثارة النقاش العمومي حول "نزاعات الذاكرة" بالمراهنة على المصالحة وطي صفحات الماضي الأليم، وإعطاء الكلمة للشهود والضحايا لسرد محكياتهم والإدلاء بشهاداتهم، ثم الاعتذار لهم، وتضميد جراحهم الجسدية والرمزية.

 

(*) لماذا تبنيت في الكتاب خلفية الرد بالكتابة على الثقافة الغربية المهيمنة؟

ما سعيت إليه في كتابي "السارد وتوأم الروح.. من التمثيل إلى الاصطناع" هو الرد بصفة عامة على مزاعم النقد الكولونيالي الذي يتعامى عن المنجز السيرذاتي العربي ويغفله من حساباته بداعي أن العرب محرم عليهم التحدث عن ذواتهم. لا أعرف كيف ترسخت هذه الأغلوطة في أذهان النقاد والباحثين الغرب، ولا أعرف دواعي تجاهل ما كتبه العرب عن ذواتهم. وفي هذا الصدد حاولت أن أبين صنيع العرب في طرق مختلف أجناس الكتابة عن الذات وأصنافها، وأنهم لا يقلون نبوغًا عن أندادهم الغربيين في هذا المجال. الشيء بالشيء يذكر، عندما راج مفهوم التخييل الذاتي في الغرب تضاربت الآراء حول أصوله وهويته. ما أثار انتباهي هو حرص أطراف من الباحثين على ترسيخ "النسب اليهودي" للمفهوم والافتخار باعتماد مؤلفيْ "الطائر المزركش" (1957) لجيرزي كوزينسكي Jerzy Kosinski و"الأم/ الابن" (1977) لسيرج دبروفسكي  Serge Doubrovski إرضاءً لدواع عرقية ودينية. من عوائق البحث العلمي تدخلُ مثل هذه الاعتبارات المجانبة للحقيقة من جهة والمتنافية مع نسق الثقافة الكونية من جهة ثانية. يعود الفضل إلى سيرج دبروفسكي في نحت المفهوم على ظهر غلاف كتابه (الأم/ الابن) عام 1977؛ وبذلك يكون قد ملأ خانة من الخانتين الشاغرتين في الجدول الشهير- الذي سعى من خلاله فيليب لوجون إلى استيعاب التركيبات الممكنة (الميثاق السيرذاتي 1975) - وهي التي تهم إمكانية أن يسترجع الكاتب ماضيه الشخصي باستخدام شخصية خيالية تحمل اسمه. هذه هي الحقيقة ولكن العرب أيضًا أبدعوا في التخييل الذاتي بالمفهوم المقيد منذ سنوات من قبل، ويحضر في ذهني مثلًا "الساق على الساق فيما هو الفارياق" لأحمد فارس الشدياق (1855) و"إبراهيم الكاتب" لإبراهيم عبد القادر المازني (1931)، ثم تعاقبت بمرور السنين تجارب هامة من قبيل "ثلاثة وجوه لبغداد" لغالب هلسا، و"وردة للوقت المغربي" ثم "ممر الصفصاف" لأحمد المديني، و"مثل صيف لن يتكرر" لمحمد برادة، و"دليل العنفوان" ثم "دليل المدى" ثم "من قال أنا" لعبد القادر الشاوي.. إلخ.

 

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.