}

نورة زايير: أحاول وصف الحياة في وهران عبر الصورة

فائزة مصطفى 28 يونيو 2022

 

تبدو مدينة وهران منفردة ومتجددة وثائرة في جميع معارض المصورة الفوتوغرافية نورة زايير، فبعيدًا عن المشاهد المتكررة في البطاقات البريدية وكليشيهات المستشرقين، تحول عدسة نورة الأزقة الهامشية والمباني المتداعية والأسواق الفوضوية إلى تحف فنية، كما تظهر تلك الشاعرية والحنين التي تملأ وجوه الناس البسيطة، لكن في الوقت نفسه، تشد انتباهنا إلى حجم الألم الكامن وراء كل صورة، حتى بإمكاننا سماع أنات حي سيدي الهواري العريق وصراخ البيوت المهجورة، وملامسة وجع الشباب الحالم بالهجرة.

هنا حوار معها:

(*) أي شخص يزور معارضك الفوتوغرافية أو يشاهد صورك على صفحتك على مواقع التواصل الاجتماعي، يدرك أنه أمام مصورة استثنائية في بلد يفتقد مدارس متخصصة في هذا النوع من الفنون ويفتقر إلى سوق الصورة، فما سر هذا الشغف في التقاط تفاصيل الأماكن الشعبية والمكتظة؟

تعلقت بالتصوير منذ طفولتي لأنني كنت مفتونة بالرسم، وشغوفة بالصورة، لكن عائلتي رفضت التحاقي بمدرسة الفنون الجميلة بالجزائر العاصمة، فاتجهت نحو دراسة هندسة الري حيث قضيت سنوات مملة بعيدَا عن مجال الفن، كل ما همني هو إرضاء والدي والحصول على شهادة جامعية، لكن ظلت الصورة تسكن داخلي خاصة مع ثورة الإنترنت، فلجأت الى عالم الأنفوغرافيا من مزج وتصميم الملصقات، ثم افتتحت مشروعًا تجاريًا أكسب به لقمة عيشي؛ إلى أن أهدتني صديقة آلة تصوير، وساعدني الفوتوغرافي حمدي أوراغ على أخذ تدريب في المجال من خلال أتيلييه داخل المركز الثقافي الفرنسي، ذلك الفضاء سمح لي بحضور معارض ولقاء مصورين أجانب. رؤية صورة لي داخل أحد المعارض منحتني إحساسًا لا يوصف. وفي ظل غياب مدرسة متخصصة، صقلت موهبتي العصامية بمطالعة كتب ومشاهدة دروس على الإنترنت، وتبادل النصائح مع بعضنا البعض. نحن نفتقر في بلادنا لسوق الصورة، والفنون عامة لا توفر استقرارًا اجتماعيًا ولا وضعًا ماديًا مريحًا. لكني اخترت التضحية في سبيل تحقيق هذا الشغف.

نورة زايير خلال تصويرها الحراك الشعبي الجزائري وفي النيجر



(*) ألهمت مدينة وهران الكثير من المصورين والرسامين على مدى عقود طويلة، لكن تبدو مختلفة في صورك، كيف تستطيعين استنطاق وجوه الناس وصيد كل تلك البهجة رغم كل تلك الفوضى التي تحيط بهم؟

لا أحد يستطيع الإفلات من حب وهران، ولا ينجو أي زائر من الوقوع في حب هذه المدينة، ولأنني اخترت تصوير الشارع، تشكل شوارعها وفوضاها وزحامها مصدر إلهامي، لا أستطيع وصف الحياة عبر قصيدة شعر ولكنني أعبر عن ذلك بالصورة. هي مدينة ديناميكية، ومتحف مفتوح على الهواء الطلق، ناسها مبتسمون على الدوام، ينفردون بحس الدعابة والنكتة والمرح، يتميزون بالترحاب والكرم، يمكن رؤية ذلك على وجوه باعة سوق "لاباصتي" و"بلازدام" مثلا. ترى الناس الكثير من الألوان والتفاصيل المبهرة في صوري عن أماكن شعبية، لم ينتبهوا إليها في حياتهم اليومية. أنا أمنح لمسة فنية لصور مساكن متداعية أو أسواق فوضوية.

(*) لا أحد يفلت من الإحساس بالخيبة والحزن المنبعث من صورك عن أحياء مدينة وهران القديمة، في مقدمتها "سيدي الهواري" الذي يتهاوى يومًا بعد يوم رغم تاريخه العريق، فهو يجسد الانصهار بين الحضارات المتعاقبة على إحدى أجمل حواضر المنطقة المتوسطية. إلى أي مدى يمكن أن تهز هذه الصور ضمير المسؤولين وحتى النخب الثقافية لإنقاذ هذا المعلم الأثري؟

بالنسبة لحي سيدي الهواري، وضعه مأساوي ومؤسف جدًا، وقد خصصت 90 بالمائة من صوري لهذا الحي، أحب الروح التي تسكنه، أتعامل مع الحيطان المتآكلة أو البنايات المهملة كتحفة فنية، لأشعر بمسؤولية توثيق كل ما هو آيل للزوال ومهدد بالاندثار، لذلك أصر على تصوير الأبواب والنوافذ والشرفات القديمة، أو عجوز يجلس على رصيف هذا الحي. فأمام تسارع الزمن وامتداد المباني الجديدة، تتلاشى وهران القديمة، ولذلك أسارع لتوثيق تلك الذاكرة بطريقة عفوية، وتحريك ضمائر المعنيين بإنقاذ هذا الجزء من تراثنا الوطني، وليس بوسعي عمل شيء آخر غير ذلك.

من صور نورة زايير 



(*) في معرضك "إذا روت لي وهران حكايتها" الذي احتضنه المسرح الجهوي في مارس/ آذار الماضي، تناولت مأساة حي سكاليرا الإسباني الذي تم جرفه، كيف ولدت فكرة تصوير أثار الراحلين والتقاط كل تلك الصرخات بعدسة كاميرا؟

بدأ اشتغالي على هذا الحي الإسباني على هامش ورشة أقامها المصور الإيراني رضا دراتي لمدة خمسة أيام في المركز الثقافي الفرنسي بوهران، فالتقطت صورًا لعائلة رفضت مغادرة حي عريق وتاريخي بعد جرف بناياته. صورت آثار من رحلوا بتفاصيلها المؤلمة. امتد المشروع إلى حي سيدي الهواري التاريخي المجاور والمهدد بنفس المصير. أنا أفكر في تعليق صور السكان على جدران العمارات المتداعية للفت الانتباه إلى معاناتهم. وأشير إلى مساعي المهندسين والمعماريين لإنقاذ أحياء مدينة وهران القديمة، وكنيسة سانت لويس العريقة التي تعود للقرن السابع عشر ومرت عليها ثلاث ديانات، لكن لم تؤخذ مخططاتهم بعين الاعتبار، كما لم تلق نداءات جمعيات ثقافية آذانًا صاغية. بل كل يوم يسقط بيت أثري وتنتهي معه قصة تعود إلى مئات السنين.

 

سأروي قصة "الراي" كما لم يروها أحد

(*) قمت بتكريم الشاب حسني، أحد أعمدة أغنية الراي، في ذكرى وفاته، فهل تفكرين في توثيق أعلام هذه الموسيقى التي انطلق مجدها من وهران نحو المسارح العالمية؟

لا توجد آثار تذكارية لهذا الفنان رغم قوة أغانيه ومكانته في ذاكرة الناس، ما عدا تلك اللافتة المعلقة في الشارع الذي قتل فيه بمقربة من بيتهم في حي قمبيطة الشعبي، وبمناسبة ذكرى رحيله، قررت رفقة صديقات وضع إكليل من الزهور في ذلك المكان، ففوجئنا باستقبال عائلته لنا في بيتها البسيط، حيث تملأ صوره الشخصية الجدران إلى جانب لوحات عليها سور قرآنية، لا أجد أشياء كثيرة عنه لتوثيقها بعدستي رغم حضوره الطاغي في وهران، لكن في المقابل أرغب في أرشفة تاريخ أغنية الراي بطريقة مختلفة، أن أروي حكاية هذه الموسيقى وأعلامها ومغنيها بعيدًا عن تلك الكليشيهات، ولذلك اعتكف على مطالعة ما كتب عنها، كما كنت حريصة على حضور ندوات الباحث الراحل حاج ملياني عن هذا الفن.

من صور نورة زايير 



*تحتضن مدينتك وملهمتك - كما تسمينها- ألعاب البحر الأبيض المتوسط من 25 يونيو/ حزيران الى 5 يوليو/ تموز 2022، حيث خصص على هامشها برنامج ثقافي ضخم لإظهار ما تنفرد به "الباهية" من تعايش وتنوع حضاري وذلك الإصرار المذهل على الحياة والبهجة، ألا ترين أنها فرصة لتوثيق مظاهر هذا الاحتفال؟

ليست لدي رغبة في متابعة الحدث لأنني لست مصورة صحافية، بل فقط التفاصيل وأحداث هامشية قد تشد انتباهي. لكن أفكر في عرض مجموعتي عن وهران تزامنًا مع ذلك، بعدما جابت مدنًا ودولًا وقارات أخرى، على غرار فيينا، وستراسبورغ، وباريس، ونيامي حيث ذهل النيجريون باكتشاف عوالم مدينة أفريقية متوسطية. وكانت المجموعة تتسع في أسفاري، وكلما دعيت إلى المشاركة في دورات تدريب وإقامات فنية، مثلًا هناك "وهران في الضباب"، "وهران القديمة"... إلخ. أنا أركز على الجزء القديم، ولا تستهويني الأحياء الجديدة ولا العمارات الزجاجية، ولا المجمعات السكنية الحديثة أو المراكز التجارية الكبيرة، لست مصورة بطاقات بريدية، مشروعي مختلف ينحاز إلى الشاعرية والجانب الإنساني، عدستي مرتبطة بقصص الناس والشارع والزحام والضجيج. ولذلك وجدت نفسي مكتئبةً وغير قادرة على تصوير خلال فترة الحجر بسبب وباء كورونا. لم أرغب في رؤية وهران خالية كمدينة أشباح.

(*) في إطار سفرك وترحالك بحثًا عن أماكن هامشية وتفاصيل تلهمك أكثر، تكللت رحلتك الفنية والاستكشافية إلى الجنوب بمعرض وكتاب جماعي بعنوان "بوسعادة، نظرات متقاطعة" من تمويل الاتحاد الأوروبي، كأنك كسرت تلك الصورة النمطية التي روج لها المستشرقون عن هذه المدينة وحتى عن مدن أخرى، فهل كان ذلك مقصودًا أم عفويًا؟

شاركت إلى جانب عشرة مصورين آخرين في هذه الرحلة الفنية، فكانت الصور مغايرة لتلك الرؤية الاستشراقية التي جسدها الرسام الفرنسي إيتيان دينيه. لم يتبق من آثاره في هذه المدينة إلا ضريحه وبيته الذي تحول الى متحف. لقد حرصنا على تصوير حاضر "بوسعادة اليوم" كمدينة هامشية ومهملة، يعاني شبابها من البطالة والضياع والخيبة. عرضنا تلك الصور في رواق محمد راسم في الجزائر العاصمة، وفي جناح بعثة الاتحاد الأوروبي بالمعرض الدولي للكتاب في طبعته الأخيرة. وخلال ورشات التصوير التي شاركت فيها اكتشفت أن كل مدينة تختلف عن الأخرى بسحرها ومناخها وأهلها، فقد جذبتني جسور قسنطينة وأزقتها الضيقة، وتضاريس بجاية الساحلية ومنظر يما قوريا الفاتن، كذلك تشكل مناظر الجنوب مثل الأغواط التي هي بمثابة استوديو مفتوح للفوتوغرافيين.  وبدت لي مدينة جانات في الصحراء كجنة معلقة من الرمال وقرية توجة في منطقة القبائل كقطعة من سويسرا خصصت لها مجموعة بعنوان: "توجة من خلال نسائها الشجاعات".. كل ذلك يمنحنا مادة خامًا لتشكيل مادة مصورة مبهرة.

(*) ما هو مشروعك المصور القادم؟

أحضر حاليًا مجموعة صور تحت عنوان: "رحيل"، أتناول فيها مشاكل من عمق مجتمعنا، كالبطالة والهجرة غير الشرعية، وأزمة السكن... إلخ، كتصوير شعارات مكتوبة على الجدران، عائلات تعيش في ظروف مزرية، شباب عاطل عن العمل.

 

من صور زايير  

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.