}

سلمى جمو: الشعر يخاطب الفكر والإحساس في آن واحد

إدريس سالم إدريس سالم 6 يوليه 2022

 

الشعر هو حيازة أبعاد اللغة والحفاظ على عمقها واتّساعها ورحابتها، والفكر هو ما يُطعّم منها ويغذّيها. في المقابل مَن يخشى الشعر أو يقاومه فهو لأنه لا يعرف ماهية الاستخدام الشعري للغة، فيبدو له مجرّد استخدام للغة في حدّ ذاته، دون أن يدرك أن الشعر يساهم في تموّج آلاف الأسئلة في الرأس، عن الخير والشرّ، عن الحبّ والجنس، عن الوطن والخيانة، عن الحياة والموت، عن كلّ التناقضات.

قصائد الشاعرة سلمى جمو في ديوانها الأول "لأنك استثناء" تتشكّل بما تخلقه النفس من مشاعر وأفكار وصور حزينة للشاعرة – بل للإنسان – من رحلاتها سعيًا إلى المعرفة والخلاص، قصائد مليئة امتلاء الشاعرة نفسها بالفكر النفسي والفلسفي. إنها تتأمّل في نصّها برصانة لغوية، جامعة بين التفكير الفلسفي والمعتقد الديني.

عن سلمى جمو وعالمها كان الحوار التالي:

 

(*) هل الشعر العظيم أو الشعر الخالد يقوم على عمودين أو ركنين أساسيين: الفكرة العميقة واللغة المبدعة، أم أن الأمر يتعدّى إلى حدود وأركان أخرى؟

منذ فترة ليست ببعيدة سألني أستاذي في الجامعة، وهو مختصّ باللسانيات، عن كيفية خلق الشاعر، وهل يستطيع أيّ شخص من خلال الممارسة والقراءة أن يتحوّل إلى شاعر. ما هي المكوّنات التي يجب على الفرد أن يوفّرها في شخصيته كي يتحوّل إلى شاعر؟

وكان جوابي وقتئذ مرتجلًا: الشعر هو شيء إلهي، يُخلق معك وبك منذ أن تبدأ رحلتك في هذه الحياة. لكن إن عملت على تطوير ذاتك لغويًا وفكريًا كنت شاعرًا استثنائيًا، وإلا فإن تلك الهبة تُعمى وتختفي إلى الأبد.

 

(*) ماذا تعني لك "الدفقة الشعورية" التي تقابلها "الدفقة اللاشعورية" في تجربة التحليل النفسي؟ وكيف تقتنصين أو تحاورين استراتيجيات الدفاع النفسية، باستعاراتها وإزاحاتها ومجازاتها وتكثيفها، وغيرها من الاستراتيجيات؟

نحن دائمًا ما نهرب ونُخفي ظلالنا النفسية والفكرية التي ربما ستتلقّى صدًّا من المجتمع خلف الكلمة وتفرّعاتها. هي عملية تحويل وتسام عن طريقها نحاول تخفيف توتّر اللاشعور وضغطه. الشعر هو تلك الساحة المتشعّبة من الظلال. نافذتنا الوحيدة في زنزانة الصدمات والماضي، عن طريق تلك النافذة نتنفّس دون أن نصاب بالجنون. 


(*) اللافت في ديوانك حوار العقل مع لبّ الشعور، أيّ وجود كيمياء واضحة ولاذعة أثناء تبنّيك لأيّ فكرة مع مشاعرك، وهذه السمة لا يجيدها كلّ الشعراء، فما هي المادّة الخام أو الحجر الأساس الذي تعتمدين عليه أثناء غوصك بالفكر أولًا، في بحر حبري له خصوصيته كالشعر، أو لنقل كيف تجيدين/ تتجرّأين طرْق أبواب الفلسفة في أحياء عمادها من شعر وشعور؟

أعتقد أن من الخطأ الفادح تفكيك الإنسان إلى شعور وفكر على حِدة، وأن مَن يجيد لغة الفكر والفلسفة ليس بإمكانه التعبير عن مشاعره، أو أن مَن كان مرهفًا بحسّه فإنه يفتقر إلى مَلَكة الفكر والمنطق.

الكمال يكون عندما ندمج هذين الركنين، والفنّ يكمن عندما يستطيع أحدنا أن يوظّف أحدهما لخدمة الآخر.

إن الأمر يشبه أن تتأمّل لوحة ثم تذهب بعدها إلى حفل موسيقي لتستمع إلى سيمفونيتك المفضّلة، كلاهما يبهج الروح، لكن ماذا لو كنا نستمع إلى تلك السيمفونية أثناء تأمّلنا لإحدى اللوحات؟

بعض الشعراء عندما يكتبون فقط للغة والاستعارة، المتلقّي سيصل لحدّ التخمة الروحية مع جوع مستمرّ في الفكر، والعكس صحيح. السرّ في القدرة على خطاب الفكر والإحساس في آن واحد.

(*) كيف تقدِرين على التعامل مع النقد، خاصّة أنه قد يتعرّض لك بشكل غير محبّب، وأستطيع أن أقول بصريح العبارة: إنك امرأة متمرّدة وشجاعة، ونادرًا ما قد نلتقي بهكذا كاتبة في مجمعاتنا الكردية والسورية؟

في الحقيقة إن آخر ما أفكّر فيه هو النقد؛ ذلك أن الشعر كان قائمًا قبل وجود النقد، وانعدام الثاني لا يُحتّم فناء الأول.

في الشرق يكفي أن تكون امرأة لتدور حولك ألف إشارة استفهام وألف قيد، فما بالك بامرأة شاعرة، والأنكى شاعرة تخاطب الفكر قبل أن تشحذ العاطفة. ليس من المستبعد والغريب أن أجد ألذع النقد من الشعراء ذاتهم "الذكور"، واعتباره حالة طبيعية، فهو وسيلة دفاعهم الطبيعية عن وجودهم المهيمن الذي يستميتون وسيستميتون للحفاظ عليه. أيّ ملك مستعدّ أن يتنازل عن عرشه عندما يكتشف أنه يوجد مَن هو أكثر استحقاقًا منه في تربّع العرش؟

نعم معك حقّ عندما نتحدّث عن ندرة هكذا نساء في مجتمعنا. إن المشكلة الحقيقية هي في إقناع المرأة ذاتها بأنها ندّ، بل وأحيانًا أكثر رفعة من الرجل، ذلك أن لاشعور نسائنا الجمعي قد تبرمج على فكرة أن المرأة دونية وبأنها مهما فعلت وعملت فإنها لن تصل لمكانة الرجل.

 


(*) كانت القصائد ثائرة، تبحث عن ضالّتها كلّ مرّة بطريقة مبتكرة، ولا تشبه سابقاتها، ولكن بعضها كان بلسان ذكر، والبعض الآخر بلسان أنثى، كيف تشرحين ذلك؟ وإلى أيّهما تنتمين أكثر؟

يقول كارل غوستاف يونغ، عالم النفس السويسري، إن في داخل كل ذكر "أنيما"، وداخل كل أنثى "أنيموس". عندما تكتب سلمى بصيغة الذكر فإنها لا تتقمّص رجلًا آخر تعرفه، الأمر باختصار هو أن "الأنيموس" الذي يسكنني ينادي ويصرخ على "أنيما" رجل ما، وعندما أكتب بصيغة الأنثى فإن جانبي الأنثوي الطاغي يخاطب رجلًا ما.

في الحقيقة أنتمي إلى الاثنين، لأن كل منهما يمثّل ظلًّا ساكنًا داخلي، وما أفعله هو أني أجعل الظلّين يتكلّمان بصوت عالٍ.

 

(*) تعمّدت أن تجعلي بعض الأمراض النفسية السائدة في مجتمعاتنا موضوعًا أساسيًا في نصوصك الشعرية، تلك التي يتجنّب طرحها الكثيرون، ماذا كانت غايتك من طرحها؟ وإلى أيّ فئة مجتمعية توجّهين رسالة بخصوص ذلك؟

نحن عندما نتحدّث عن مشكلة ما فإننا نكون قد خطونا الخطوة الأولى والأهم، وهي الاعتراف بوجود المشكلة، والاعتراف بوجود مشكلة ما يدفعنا إلى البحث عن الأسباب والنتائج والعلاج، وهو بالضبط الغاية التي أهدف إليها؛ أيّ تسليط الضوء.

هي رسالة مفتوحة لكلّ مَن لا يزال له ضمير حيّ، ولكلّ مَن عانى من هذه المشكلات كي تكون شعلته في ظلام طريق بحثه عن شفائه.

 

(*) لعلّ أعظم المشاعر تتولّد من التقاء النقيضين: قلمك الحاضر ورواسب ماضيك. هل هما نقيضان كانا سببًا في ولادة "لأنك استثناء"؟ وهل الديوان جزء منه هو لكراهيتك للماضي وشخوصه وظروفه، والجزء الآخر الخوف من المستقبل؟ هنا أقول إنك في الديوان كنت المطرقة والسندان معًا.

"لأنك استثناء" كان محاولة للشفاء، وإحدى طرقه الأكثر قربًا من قلبي، وأكثر تلك الطرق وجعًا وأذيّة. "لأنك استثناء" محاولة لولادة ذات أخرى، أن أقرّر ما تحبّه وتكرهه.

 

(*) من وجهة نظرك إلى أيّ مدى يمكن أن يؤثّر كتابك على واقع النساء إذا ما طبّق بشكل سليم؟

إن كتابي نقطة في بحر ما يسمى "دعم المرأة"، بما يحمله هذا المفهوم من لغط ومطّاطيّة، كلّ يسحبه على هواه. كما قلت سابقًا، لا هدف تربويًا توجيهيًا يحمله كتابي، هو فقط محاولة ثورة على كلّ ما هو متعارف ويؤذينا. أما الجواب عن سؤالك فأظن أن العامة هي مَن تستطيع أن تجاوب عليه.

 

(*) كيف تقرأين عالم النشر، ودَوره ودُوره؟

سوق النشر أصبحت سوقًا تجارية بامتياز؛ تهدف إلى استقطاب الكتّاب القدماء الذين هم متأكّدون من أن نتاجهم الأدبي سيدرّ عليهم ماديًا، وهنا لا أعرف أألوم أم أعطيهم الحقّ في ذلك؟ لكن يوجد ظلم واضح وملموس للكتّاب الجدد، على أمل أن تزول هذه الغمّة، ويأخذ الجميع على قدم المساواة والاستحقاق مكانته.

 

(*) ماذا تعني القراءة لسلمى جمو؟

القراءة ليست ترفًا، أو من الكماليّات، القراءة حاجة وضرورة لنخلع عن أنفسنا شخصياتنا التي خلقوها وأرادوها لنا، ونقوم بعملية ولادة جديدة لأنفسنا وِفق ما نريده ونحتاجه.

ربما لم نفكّر يومًا أننا عبارة عن ردّات أفعال متراكمة منذ مرحلة الطفولة. الأمر أشبه بأن تأتي بورقة بيضاء أو قطعة من لعبة العجين، وتقوم برسم شكل على هواك ومزاجك ووعيك وإدراكك، ثم تقول لهذا الشيء الذي خلقته لتوّك بعد أن تبثّ فيه الروح: انطلقْ وعِشْ حياتك.

عندها، هذا المخلوق سيعيش حياة أخرى دون أن يدري حتى ما الذي جرى ويجري، يعيش أفراحًا وأحزانًا ووعيًا لم يملك أدنى خيار في خلقه.

المُحزن في الأمر أننا جميعًا نأتي ونرحل من هذه الحياة وفق هذه الجبرية، دون أن ندرك أننا لسنا نحن، وإن اكتسبنا هذا الوعي بأننا عبارة عن نسخة من أحدهم، فإن الكثير منّا لا يمتلكون الجرأة والقوّة لتحطيم هذه الذات وإعادة هيكلة أنفسنا دون أن تكون تصرّفاتنا وحياتنا ككلّ عبارة عن ردّة فعل على ما تعلّمناه، وتكون قراراتنا ناتجة عن وعينا التامّ لما نريده أو لا نريده.

والفئة القليلة التي تحاول التغيّر إما أن تنصدم بحاجز الرفض، وبالتالي كلّ تلك الطاقة، طاقة التغيّر التي تمتلكها، تكبتها، وتخلق شخصية عُصابية/ هستيرية، وإما تنجح. والذي ينجح يكون قد غيّر مجرى حياته وحياة الكثيرين، إنهم تلك الفئة التي يُطلق عليهم العظماء.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.