بين عسقلان وغزة، ومصر وليبيا وبيروت، ثم إلى مصر، ليحطّ الطير المهجّر قسرًا في إسطنبول؛ تلك حكاية لجوء مستمرة ونموذجية للفلسطيني اللامستقرّ في منافيه؛ تلك حكاية عائلة عدوان وابنتها الأديبة والناشرة والناشطة بيسان؛ دوّنت على صفحات الذاكرة المطويّة في القلب وجدان كل تلك المدن والبلاد، ارتبطت بها ولم ترتبط، إذ بقي القلب معلّقًا على بوابة الوطن المسلوب ـ فلسطين.
ولدت في مخيم عين الحلوة في جنوب لبنان، ونشأت في مصر. صحافيةً عملت في عدد من المؤسسات الإعلامية، وباحثةً أصدرت مؤلفات وأبحاثًا في القضية الفلسطينية، وفي المجالات السياسية، وناشطةً لصالح قضيتها الأم، وفي الثورة المصرية. أسّست "دار ابن رشد للطباعة والنشر"، لتصير بمنشورات الدار فاعلًا ثقافيًا ذا حضور ملموس في المشهد الثقافي العربي. عن اللجوء والمنفى، والقضية والثورة، والاستعمار والاستبداد، والكتابة والنشر، وحول كتابها الأخير "رسائل الشتات: سرديّة المنفى والوباء" كان هذا الحوار:
(*) نبدأ مع تجربة اللجوء من لبنان إلى مصر في بداية الثمانينيات؛ لتخوض بيسان الطفلة مسيرة أكاديمية وبحثية وثقافية طويلة في القاهرة، حاولتِ خلالها خلق موازنة بين هويتك الفلسطينية من ناحية، والتفاعل والاندماج مع الثقافة المصرية من ناحية أخرى. ماذا عن الحضور الفلسطيني في المشهد الثقافي المصري؟ وماذا أضافت تجربة معايشة المجتمع المصري لبيسان اللاجئة الفلسطينية والناشطة والكاتبة؟
أذكر بدايةً أن عائلتي كانت قد جاءت إلى مصر عام 1967، وجدتي في الأصل مصرية من محافظة الشرقية، أما أجدادي فمن مدينة عسقلان في فلسطين، هُجّروا قسرًا عام 1948 إلى غزة. ولديّ جدّان كانا قد عملا في مصر منذ الخمسينيات، وكانا ينتقلان بحرية بين فلسطين ومصر، حتى نكسة 1967، ليستقرا في مدينة حلوان. تزوج أبي وأمي بعد حرب أكتوبر، ومن ثمَّ سافرا إلى ليبيا، وولدتُ أنا في مخيم عين الحلوة في لبنان.
نتيجةً للحرب، خرجنا من لبنان إلى مصر في بداية الثمانينيات، لألتحق بالمدارس الخاصة، ومن ثمّ التحقت بجامعة الأزهر، وهذا بسبب الضائقة المالية، ولأن تكاليف الدراسة فيها كانت قليلة نسبيًا مقارنة بالجامعات المصرية الأخرى، إذ فُرض على الفلسطينيين في أوائل الثمانينيات دفع تكاليف دراسية كالأجانب، وذلك بقرار من الدولة المصرية، بعد وقوع اضطرابات في العلاقات بين الفلسطينيين والمصريين. وقد واجه أبي مشكلات اقتصادية في مصر، ومن ثمّ مشكلات سياسية، أدت إلى اعتقاله ثم ترحيله إلى ليبيا عام 1992، ليستقر فيها 25 عامًا من دون أن نتمكن من لقائه حتى وفاته هناك.
لسنوات طويلة، كانت لدي مشكلة الموازنة بين الهوية الفلسطينية والاندماج في المجتمع المصري؛ كان علينا أن نعيش بشخصيتين وهويتين؛ واحدة في البيت، والأخرى في الشارع، رغم أن المجتمع المصري كان يحب الفلسطينيين، ولم ير فيهم غرباء إلا في حالات الأزمات السياسية، والتي كانت تذكّرنا دومًا بأنه لا يمكننا التأقلم أو الاندماج، ناهيك عن السياسات الرسمية تجاه الفلسطينيين في مجالات التعليم، والعمل، واستصدار بطاقات الإقامة.
مثّل انطلاق ثورة 25 يناير عام 2011 بدايةً لنشوء فكرة التصالح مع وجود هويتين لدى الفلسطينيين في مصر. بل إن الثورة وما تبعها من أحداث حتى عام 2013 كانت بمثابة تحررٍ للروح الفلسطينية تجاه مصر، وبالتالي إمكانية المشاركة الفعّالة في المجتمع المصري، من دون أن ينتقص ذلك من هويتنا الأم. فبعد قرابة ثلاثين عامًا من اللجوء، صارت مصر بلدًا ثانيًا لنا، نحبه ويحبنا، بعد سنوات من القسوة والارتباك في هويتنا.
(*) عايشتِ أحداث ثورة 25 يناير وكنت فاعلة فيها؛ لتصيري منذ ذلك الحين صاحبة قضيتين، القضية الفلسطينية الأم، والثورة المصرية؛ أين هي الثورة المصرية اليوم؟ وهل تعتقدين أن مشاركتك فيها كانت سببًا في ترحيلك القسري من مصر؟
شاركتُ في الثورة المصرية في الفترة بين 2011 و2013، ثم قررت أن أحقق حلمًا كان يراودني منذ الطفولة، وهو أن أؤسس دار نشر لأصبح صانعة كتب. وبدأت بالفعل، بالتعاون مع رفيق مصري، في إنشاء دار نشر بإمكانات متواضعة، تتبنّى رؤى التنوير والقضايا العلمانية وحقوق النساء؛ كنت أرى أن السوق العربية في حاجة إلى كتب فكرية أكثر من حاجتها إلى الروايات التي ظلت لسنوات تغرق سوق الكتاب العربية.
وبالفعل، عملت الدار ضمن مسارين؛ مسار الكتب التنويرية، والآخر يُعنى بالقضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي. نشرنا كتبًا في مجالات متنوعة، فكرية وسياسية واجتماعية واقتصادية وتاريخية وثقافية وأدبية، وأولينا اهتمامًا خاصًا للمبدعين الشباب. كنا نمضي بهدوء وبخطوات واثقة، وننتج ما بين 20 إلى 30 كتاب سنويًا. وبهدف أن تكون الكتب في متناول الجميع، بقيت كتب دار ابن رشد رخيصة الثمن، بحيث لا يتعدّى سعر الكتاب الواحد خمسين جنيهًا مصريًا.
منذ سنوات بدأ النظام المصري بالتضييق على حرية الفكر والإبداع، وحبس الناشرين وأصحاب المكتبات، مثل اعتقال الناشر المصري خالد لطفي، صاحب "مكتبة تنمية"، ومنع شركائه من المشاركة في معرض الكتاب، وكذلك منع كتب بلال فضل القديمة من إعادة الطبع، والتوصية بعدم طبع أي إصدار جديد له. ومنذ عام 2019، بدأت أتلقّى إنذارات وتهديدات على وسائل التواصل الاجتماعي، ومكالمات تهدد بالترحيل من مصر، وذلك بعد أن أصدرت "دار ابن رشد"، التي أملكها مع مجموعة من الورثة، كتابين أثارا جدلًا كبيرًا، وحقّقا نسبة مبيعات عالية؛ وهما كتاب "قبل تشييع الجنازة" لسعد القرش، وكتاب "أرواح على الهامش" لخيري حسن.
يتناول كتاب سعد القرش مسألة موت الصحافة المصرية، وعسكرة المؤسسات الصحافية، وأزمة الورق، والشللية داخل المؤسسات، والعلاقة بين رؤساء التحرير والدولة. أحدث الكتاب ضجة كبيرة لدرجة أن رئيس اتحاد الناشرين المصريين اتصل بي ليطلب، وبطريقة غريبة، نسخةً من الكتاب، ما يعني أن ثمّة أشخاصًا من جهات أمنية يسألون عن هذا الكتاب. قال لي بطريقة استنكارية "إلى أين أنتِ ذاهبة بهذه الإصدارات؟"، بمعنى أنني قد دخلت بالفعل عشّ الدبابير بسبب إصداري هذا الكتاب.
أما كتاب "أرواح على الهامش" فهو عبارة عن تحقيقات صحافية تبحث عن أولئك المهمّشين، الذين تم وأد تجاربهم وتضييق الخناق عليهم وعلى إبداعاتهم، نتيجة عدم ارتباطهم بالدولة، وبسبب آرائهم السياسية والفكرية؛ مثل الشاعر زكي عمر، وهو من شعراء اليسار المصري، والكاتب الحقيقي لأغنية "مدد مدد شدّي حيلك يا بلد". يثبت الكتاب بالمستندات أن الأغنية سُرقت ملكيتها لمصلحة الشاعر إبراهيم رضوان، وتم تهميش زكي عمر عمدًا لأسباب كثيرة أغلبها سياسية. ما أغضب الشاعر إبراهيم رضوان، الذي قام بدوره بنفي ذلك، وبدلًا من التوجه إلى القضاء لإثبات صحة كلامه ومقاضاتي، ظلّ يهددني بالترحيل والوشاية ضدي أمنيًا، وذلك بشكل علني وواضح أمام الناس وعلى وسائل التواصل الاجتماعي.
على صعيد آخر، تخلّل عام 2019 أحداث وأزمات تضامنت خلالها مع الشعب المصري، ومن بين ذلك انتفاضة سبتمبر/ أيلول ضد الغلاء، لأفاجأ بناشر مصري يهددني بالوشاية ضدي لدى الأجهزة الأمنية لكوني "جاسوسة ومُطبّعة". وبسبب هذه الوشايات، بدأت الدولة المصرية بفتح ملفي السياسي الذي أفتخر به، فأنا مشاركة في ثورة يناير، وعضو في حركة "كفاية"، وكنت ناشطة مثل جميع النشطاء المصريين، وذلك لأنني أرى في مصر بلدي وبلد أجدادي، ولا أرى نفسي فلسطينية فحسب.
تقدمتُ عام 2019 بطلب للحصول على إقامة لمدة ثلاث سنوات، باعتباري مستثمرة في مصر. قبل ذلك كنت أحصل على إقامة لمدة عام فقط. لكني فوجئت بتعسّفات وتأخير في إصدار الإقامة وصلت إلى 8 أشهر، كنت خلالها أتلقّى مكالمات أشبه بتهديدات تتضمن ترحيلي واعتقالي، وبالفعل تم احتجازي لساعات بتاريخ 20 فبراير/ شباط 2020، ومن ثم تم ترحيلي في مارس/ آذار 2020 إلى إسطنبول. رفعت قضية ضد الحكومة المصرية اعتراضًا على قرار الترحيل، وتم اتهامي "بالإلحاد وترويج أفكار هدّامة تضر بالمجتمع وتهدّد النظام"، وقبل أيام أيّدت المحكمة العليا في مصر قرار الترحيل لأخسر بدوري القضية.
المنفيّ منفيّ لا يمكن
أن يتحوّل إلى مستقر!
(*) تخوضين الآن، بترحيلك من مصر، تجربة اقتلاعٍ ولجوءٍ ثالثةٍ وقاسية، ربما أعادت تشكيل شخصية بيسان اللاجئة والكاتبة؛ ماذا يعني فقد الأوطان المتكرر؟ وكيف استطاعت بيسان عدوان التعامل مع تجربة المنفى في إسطنبول بما يضمن لها استمرارية كونها فاعل ثقافي على أصعدة عدة؟
سأقتبس ما قاله إدوارد سعيد لأنه يلخّص كل الأشياء "إنّ صعوبة المنفى لا تكمن في الإجبار على العيش بعيدًا عن الوطن، بل العيش مع أشياء كثيرة تذكّرك دائمًا بأنك منفيّ". المنفيّ منفيّ؛ لا يمكن أن يتحول إلى مستقِرّ مهما طالت سنوات اللجوء، وحتى ذلك الوقت لا يمكن أن أعترف بأنني قد فارقت مصر نفسيًا، أو وجدانيًا، أو سياسيًا، تمامًا كما لم أفارق فلسطين نهائيًا.
هنا، في إسطنبول، كل شي أراه، أو أفعله، أو يحدث لي، أو أتعامل معه، يذكّرني دائمًا بأنني في المنفى، وأنه لا يمكنني الاندماج، أو القبول بالاستقرار في تركيا، خاصة مع تصاعد وتيرة وسلوكيات العنصرية والكراهية ضد العرب بعامة والسوريين بخاصة، ما يمثل سببًا آخر يجعل من فكرة الاندماج أمرًا مستحيلًا، كما أن خلفيتي المعرفية تقف دومًا حاجزًا كبيرًا بيني وبين الاندماج في تركيا.
لذا، اتجهت إلى العمل على إنتاج المعرفة والثقافة في أوساط العرب المقيمين في تركيا، وذلك بهدف مواجهة أي عملية اندماج ثقافي يقطع صلاتهم بالبلاد الأم، ونفّذتُ نشاطات ثقافية عدة للترويج للثقافة العربية والفلسطينية للحفاظ على الهوية الثقافية، ولتقوية روابطنا كعرب بالوطن الأم، سواء كان مصر، أو سورية، أو فلسطين، أو العراق، أو اليمن، أو غيرها من البلاد العربية.
يمكن أن أخبركِ: أنا هنا.. أنا هناك.. كل الأشياء تذكّرني بالبلاد، لذا من الصعب الاندماج في هذا المجتمع، ولا أقصد الاندماج الاقتصادي، بل المعرفي. وباعتباري ناشطة ثقافية وسياسية، فكل الأشياء تربطني بفلسطين بدرجة كبيرة، وبمصر كذلك، وبسورية الكبرى التي أنتمي إليها.
(*) تبدو تجربة "دار ابن رشد" التي أسّستها في القاهرة، ثم في إسطنبول، بعد ترحيلك إليها من بين أهم مشاريعك التي عزّزت حضورك ليس في المشهد المصري فحسب، بل في الثقافي العربي كذلك. ما هي المعوّقات التي قد تواجهها امرأة عربية صاحبة دار نشر؟
سيطر الرجال على مهنة النشر في العالم العربي منذ عقود، وقليلات هنّ النساء المثقفات اللاتي حاولن دخول هذا المجال بمبادراتهنّ الفردية المستقلة عن العائلة أو الدولة، وعلى رأسهنّ روز اليوسف، بل يمكن أن نزعم أنها الرائدة في مجال صناعة الكتب، وليس فكرة النشر فقط. ولا تقتصر مهنة النشر على اختيار العناوين وترشيح الأعمال فحسب؛ ففي عالمنا العربي النشر هو قيام الناشر بمتابعة كل مهام العمل، بدءًا من اختيار العناوين وتحريرها، ومتابعة عملية الطباعة وكافة التفاصيل حتى خروج الكتاب إلى يد القارئ.
وغالبًا ما تكون صناعة النشر في العالم العربي مشروعًا عائليًا، ولهذه الأسباب لم تتصدّر الناشرات النساء المشهد. ولكن في العقد الآخير اقتحمت النساء مهنة النشر وصناعتها، ولم تعد صناعة الكتب تقتصر على العائلات أو التعيين من قبل الدولة ومؤسساتها الثقافية، ما فتح الباب أمام دخول النساء اللاتي تميّزن بتوجهاتهنّ الفكرية وتركنَ بصمتهنّ الخاصة، تمامًا كالرائدات في هذا المجال في منتصف القرن العشرين حتى الثمانينيات.
(*) أخيرًا، في كتابك الأدبي الأول "رسائل الشتات" الصادر أخيرًا، باحت اللاجئة بذاكرة الأجداد التي طالما خبّأتها طيّ القلب كنزًا يُخشى عليه من الكشف، وربما شكّل هذا الكتاب نقلة نوعية في عالم الكتابة لديك؛ من بيسان الباحثة إلى الأديبة، كيف ولماذا حدثت هذه النقلة؟ وهل سيفتح الكتاب الباب على مزيد من السرد الأدبي حول الوطن والحبّ والمنفى؟
"سأظل أكتب حتّى تعود الحكايات إلى البلاد"، بهذه الجملة يمكن أن أجيب على هذا السؤال؛ كانت الرسائل هي الطريقة الوحيدة التي رأيتها مناسبة لطرح كافة القضايا التي عانى منها اللاجئ الفلسطيني في لجوئه المتكرر الذي لا ينتهي، ولا يمكنه الاندماج أو التأقلم معه رغم مرور أكثر من سبعين عامًا. "رسائل الشتات" هو تدشين لمشروع أدبي اكتشفته في منفاي الثاني، بل كان حاملًا لمشروعي المعرفي الذي تكوّن في روحي منذ سنوات، وهو المقاومة ضد الاستعمار والاستبداد. ومن دون قرار مسبق، أو مقصود، ولجت من خلال السرد الأدبي إلى الميثولوجيا والتاريخ والجعرافية، لعلها تجيب على كل التساؤلات التي يطرحها الفلسطيني، وعلى رأسها سؤال "هل العودة ممكنة؟".
كل العناصر التي اتكأتُ عليها، سواء كانت شخصيات تاريخية (جلال الدين الرومي، وعبدالله النديم)، أو معاصرة (أيمن صفيّة، ومريد البرغوثي)، أو أماكن جغرافيّة (إسطنبول، وقونية، والإسكندرية، وعكّا، وطبريّة، وغيرها)، أو أحياء داخل إسطنبول (كورتولوش، زقاق إراك..)، أو على مزيج من كل ذلك، إضافة إلى الأساطير وعناصر الطبيعة، كلّها كانت تستحضر البلاد، ليس بمفهومها التقليدي فحسب، والذي يعني الأرض والانتماء، بل كفكرة مهيمنة على شعوري، أو لنقل بشكل أدقّ، كعقيدة عايشتها لسنوات، فلم يكن الوطن بالنسبة إلي شيئًا ماديًا ملموسًا فحسب، بقدر ما هو حقيقة تتجلّى في كل شيء.
لذا، كانت الرسائل نقطة الانطلاق الأولى إلى مشروعي الإبداعي، والذي يؤرّخ لسرديّة المنفى، ويعيد محو الذاكرة، أو إفراغها من كل الوجع الذي لاحقها، لتحلّ ذاكرة أخرى متحررة من كل التشوّه الذي أصابنا في المنافي. هذا كان جوابي في "الرسالة صفر"، حيث قلت "كانت تحاول المضيّ بجنون لتحتمي بالبلاد، وفي الوباء كانت تحاول الحياة ما استطاعت إليها سبيلًا، وفي الرسائل، كانت تحاول أن تُبْصِر نفسها لتتجلّى البدايات".