هنا، حوار معه:
(*) ما هي الفكرة الرئيسية والموضوع العام لكتاب "ريموندا حوّا طويل: الإبداع الإعلامي والعمل السياسي"، وكيف خرجت هذه الفكرة إلى الوجود؟
الفكرة الرئيسية من الكتاب هي محاولة رسم خطوط أساسية لشكل مرحلة نهوض وطني فلسطيني جديدة. هذه المرحلة الحالية، وبالتحديد بين عامي2007 و2023، هي فترة كبوة عنيفة كادت أن تطيح بكل نضالات شعبنا التي تحققت طيلة مئة عام. البحث عن الظلام وسط الليل الدامس أمر سهل جدًا، ولكن المهم هو البحث عن النجوم، ومعرفة مطالعها ومساراتها، وسبل السير وتحديد الاتجاه في ضوئها.
في سياق البحث عن مكونات خطاب وطني فلسطيني جامع، برزت ثلاث نساء حاربت كل واحدة منهن وحيدة ضد الحركة الصهيونية، ودافعت عن حقوقها وحقوق شعبها من خندقها الخاص. يسرى، هي فتاة فلسطينية عملت مع علماء آثار بريطانيين مرموقين، وهي التي اكتشفت أن أوّل إنسان سوي عاش في مغارة الكرمل، أي أن فلسطين هي مهد النشوء الإنساني الأول، وذلك الإنسان لم يكن يهوديًا بالطبع. إنها حقيقة علمية تدحض رواية "الأقدميّة التلمودية". حقيقة انسجم معها عمر بن الخطاب، وكل الخلفاء من بعده، حيث لم يجعلوا القدس يومًا عاصمة سياسية لهم، مع أن كل واحد منهم كان يستطيع ذلك. لا أحد منا يذكر يسرى، وأنا حاولت البحث عن اسمها الكامل، وسألت عنها عبر وسائل التواصل من دون جدوى. يسرى هدتنا منذ الثلاثينيات إلى المنهج العلمي الواجب اتباعه لدحض الرواية التلمودية، ولكننا نسيناها. نسينا فتاة مكافحة كانت تعيل عائلتها، وبدأت حياتها كعاملة حفر، ثم تخصصت في تنخيل التراب بيديها كي تبحث عن الآثار البشرية فيه، وصارت عالمة آثار. أين كانت قياداتنا السياسية عنها؟ وكيف اختفت آثارها منذ عام 1947؟ كلها أسئلة محيرة. ولم تكن يسرى هي النموذج الوحيد، بل تلتها امرأة تدعى بهية، استولى الإسرائيليون على ودائع زوجها في بنك بريطاني، وظلت تناضل سنوات حتى انتصرت قضائيًا، واستردت ودائعها رغم كل من حاولوا إحباط عزيمتها، بحجة أن بنوكًا عربية كبرى فشلت في استرداد أموالها قضائيًا. كلنا نسيناها ولم نبن معارك قانونية على هدي مسيرتها.
بقيت ريموندا، وهي أول امرأة تؤسس وكالة أنباء فلسطينية، ربما قبل "وكالة وفا". وهو إنجاز لم تأت بمثله امرأة فلسطينية قبلها أبدًا. ووكالة ريموندا كان كل الإعلاميين الأجانب في فلسطين مشتركين فيها، ويستقون الخبر الفلسطيني منها. تجربة واسعة ممتدة لا يمكن اختزالها في صفحات قليلة، ولكن دروسها لا تزال قابلة للتطبيق والنجاح لكل شابة فلسطينية تريد أن تفرض وجودها عالميًا.
على المستوى الفلسطيني، لم يدرس أحدٌ تجربة ريموندا كـ"نموذج قدوة" من النواحي النفسية والوراثية والإدارية والوطنية والسياسية، وهذا ما حاولتُ عمله في هذا المشروع مدركًا دائمًا أن هنالك فروقًا فردية بين البشر، ولكن هناك أيضًا سمات مشتركة في تجاربهم الإبداعية.
(*) في أي فترة زمنية كانت بداية كتابتك للكتاب؟
مرّ هذا الكتاب بمراحل طويلة وعسيرة، ولكن هنالك فاصلة تاريخية مهمة تجلت عند التحضير لعقد الدورة السابعة عشرة للمجلس الوطني الفلسطيني. كانت منظمة التحرير مهددة بعوامل وتداعيات انشقاقات خطيرة في الخارج، وكان الجميع يتطلعون إلى الأرض المحتلة، لأن موقف جماهيرها هو الذي كان سيقرر مصير منظمة التحرير. ظهرت اختلافات خطيرةٌ في الداخل، وصار بيت ريموندا في رام الله مكتب ارتباط لأبي عمار في رام الله. كان مروان البرغوثي وقادة الشبيبة يعملون ليل نهار لرأب الصدع، ونجحت جهودهم. ولم تكتف ريموندا بذلك، بل حملت صوت الفلسطينيين في المناطق المحتلة 1948 كداعم أساسي للمنظمة أيضًا. هذه حقائق موثقة ومصادرها واضحة. كنتُ بعد ذلك أتابع كثيرًا من وسائل الإعلام العالمية بحكم عملي، وكنت أشعر بالمرارة من كثرة التحليلات والمتابعات لنشاطات ريموندا في وسائل الإعلام الأجنبية، مع تجاهل إنجازاتها حتى في بعض الرسائل الأكاديمية الفلسطينية، إلى أن حصلت زوبعة قبل سنوات قليلة واندلعت حملة ظالمة ضدها، والتزمت ريموندا الصمت كعادتها في مواجهة الزوبعة التي لم ينتبه مثيروها إلى أن كل طمس أو تشويه لأي نموذج ريادي فلسطيني لا يخدم إلا الدعاية الصهيونية. فتحتُ ملفاتي، وبدأت مشروع الكتاب قبل حوالي سنتين، ولم تكن ريموندا متحمسة للفكرة. واستمر التواصل بيننا يوميًا، وأظن أنها اقتنعت بفكرة الكتاب، بعد أن صارت تطلع على منهج البحث، وتبين لها بوضوح أنني لست بصدد الدخول في جدل مع أي طرف، وأن كل ما أقوم به هو فتح صفحات المصادر لكل من يريد أن يقرأ، لأن الجدل من دون معلومات موثقة لا يفيد إلا الجانب الإسرائيلي.
(*) ما هو الدور الذي قامت به ريموندا في الإعلام والعمل السياسي؟
يكفي أن ننظر إلى واقع الإعلام الفلسطيني الحالي. فهل ثمة وزير للإعلام الفلسطيني الموحد الآن؟ هل لدينا عنوان يمثل الخط الوطني العام يمكن أن يستقي منه الإعلام العالمي أخبارنا وتوجهاتنا؟
(*) هل يمكن أن تشاركنا ببعض اللحظات البارزة، أو الأحداث المؤثرة، في حياة ريموندا تم تناولها في الكتاب؟
يوضح الكتاب، ومن مصادر وأرشيفات مراكز إعلام ومعلومات، أن ريموندا استطاعت أن تجعل آبا إيبان (وزير خارجية إسرائيل) يخرج من استوديو التصوير للتلفزيون الفرنسي علنًا بعد أن فشل في مواجهتها. وكانت ريموندا قادرة على التأثير في مواقف أحزاب وشخصيات عالمية. لم أذكر في الكتاب معلوماتي الشخصية، بل حفرت منقبًا في مصادر أجنبية. المثبت أيضًا من التوثيقات التي لا تزال موجودة أن ريموندا لم تستنكر العمل الفلسطيني المسلح، ولا في أي اجتماع، ولم تنقل لأية جهة استعداد القيادة الفلسطينية لـ"نبذ الإرهاب"، بل كانت تكتفي بإعلان ما كانت تعلمه علم اليقين، من أن عرفات وقادة الاتجاه الرئيس في منظمة التحرير هم دعاة سلام، وقادرون على صنع سلام. كما كانت ترى الفرق بين السلام والوهم. وهذه الرؤية لم تكن مناسبة لظرف الاستعجال الذي ساد بعد فشل مؤتمر مدريد. وكان ابتعادها مريحًا لكثيرين على طرفي المعادلة ممن كانوا يريدون البدء من جديد، وليس البناء على ما تم إحرازه على الأرض بحكم الانتفاضة، أو ضمن اللقاءات العلنية بين فلسطينيين وإسرائيليين يعارضون حكومتهم ويميلون إلى سلام إنساني وفق قواعد عادلة ونديَّة بدرجة ما، وليس إلى سلام الإملاءات وفرض الأمر الواقع. وهي لم تستنكر أي حادثة اختطاف طائرات قام بها فلسطينيون في السبعينيات، في وقت كانت فيه لهجة معظم القيادات لهجات اعتذارية عندما يخاطبون وسائل الإعلام الأجنبية. وكثير من هذه القيادات كانت في مأمن نسبيًا في المنافي، في حين كانت هي في الوطن المحتل.