حنان عواد مصوّرة فلسطينيّة أميركيّة مقيمة في هيوستن بولاية تكساس، عُرضت أعمالها في متاحف ومعارض مرموقة حول العالم، وأبرزها مهرجان الصورة في عمّان بالأردن (2024)؛ معرض P21 في لندن ببريطانيا (2024)؛ معرض Accademia di Belle Arti di Roma في روما بإيطاليا (2024)؛ بينالي الفنّ في فينيسيا بإيطاليا (2022)؛ معرض القدس في واشنطن العاصمة بالولايات المتّحدة (2019). كما نُشر لحنان عدد من الأعمال في مجلّة "القدس" الفصليّة الصادرة عن "مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة" بالقدس، تحت عنوان "خان الأحمر: الهجوم على بدو القدس" في العدد 76- شتاء 2018. وفي رصيدها العديد من اللقطات المهمّة التي نالت اعترافًا دوليًّا؛ جراء حرصها الشديد على التقاط صور تحفظ التراث والموروثات والتقاليد الفلسطينيّة التي يسعى الاحتلال الصهيونيّ لمحوها أو طمسها وتهويدها ليجد له موطئًا على أرض ليست له. كما تعمل حنان عند كلّ زيارة لها إلى قرى وبلدات ومدن فلسطين المحتلّة على تصوير المناظر الطبيعيّة الخلابة، محقّقة لقطات فنّيّة توثّق تفاصيل الحياة لشعب يقاوم الاحتلال...
حنان حاصلة على درجة البكالوريوس من "جامعة روتجرز"، نيوجيرسي، في دراسات الشرق الأوسط، ودرجة الماجستير في أميركا اللاتينيّة والشرق الأوسط من "جامعة وسط أوكلاهوما"، بالإضافة إلى شهادة في الإخراج من أكاديميّة نيويورك للأفلام.
هنا حوار معها:
(*) بداية أسألك عن تفاصيل رحلة شغفك بالتّصوير وملاحقة الضّوء ودهشة الأشياء الأولى، كيف ومتى بدأت؟
لطالما اعتبرت التصوير هواية جميلة، ثمّ تحوّلت إلى أداة فاعلة في التوثيق... بدأت بالتصوير التوثيقيّ من خلال رحلات عدّة قمت بها لعدد من الدول ومنها فلسطين، والتي احتلّت موقع الصدارة في جولات التصوير التي قمت بها... ومن خلال هذه اللقطات أقمت معارض مختلفة، في عدد من مدن العالم منها: أبو ظبي ودبي في دولة الإمارات، وهيوستن وواشنطن العاصمة في الولايات المتّحدة، وشاركت أيضًا في معارض بفينيسيا وروما بإيطاليا، وفي لندن ببريطانيا.
التصوير أداة ممتازة تساعد كثيرًا في الاحتفاء بالأماكن والتقاليد والموروثات وحفظها. والحقيقة أنّني استفدت كثيرًا من التصوير التوثيقيّ كوسيلة لتوثيق مأساة النزوح القسريّ، والمقاومة الفلسطينيّة ضدّ الاحتلال.
(*) حدّثينا عن معرضك الأخير "أن تكون موجودًا هو أن تقاوم"، الذي جاء ضمن فعاليّات الدورة الـ 12 من مهرجان الصورة ــ عمّان، إلى جانب خمسة وثلاثين معرضًا توزّعت بين أحد عشر موقعًا في العاصمة الأردنيّة تحت عنوان "وجود"، في الفترة ما بين 29 نيسان/ أبريل و29 أيّار/ مايو الماضي.
مهرجان الصورة في عمّان حدث ثقافي مهمّ جدًا، ولتعريف القرّاء الكرام بالمهرجان، فإنّ انطلاقته الأولى كانت في عام 2011 بتنظيم من "دارة التصوير"، واعتبر إطلاق المهرجان حدثًا مميّزًا في عالم التصوير في عمّان كونه اختصّ بفنّ التصوير الفوتوغرافيّ التوثيقيّ، ويستمرّ لمدّة شهر كامل. ومنذ إطلاقه شارك في فعاليّاته ما يزيد عن 400 مصوّر من جميع أنحاء العالم.
بالنسبة لي، وكما أشارت ليندا الخوري منظّمة المهرجان، أن تكون فلسطين حاضرة في الدورة الثانية عشرة يعني الكثير... ففلسطين تمرّ بظروف مختلفة عن السنوات السابقة... ظروف أشدّ قسوة وضراوة ممّا مرّت به، فحرب الإبادة الجماعيّة على قطاع غزّة مستمرّة.
ومع الأوضاع المتصاعدة في غزّة اتّخذت ليندا الخوري قرارًا بعدم التعاون مع أيّ جهة لم تدعم وقف إطلاق النار وإنهاء الحرب في غزّة. وفي هذا العام عُرضت في المهرجان مجموعة أعمال كبيرة لمصوّرين من غزّة، وخُصّصت مساحات واسعة لنقل حقيقة ما يحدث من أهوال مأساة الغزّيين من خلال عدسات المصوّرين هناك، ومن ثمّ كانت مشاركتي بمعرض "أن تكون موجودًا هو أن تقاوم" ضمن الإطار العامّ للمهرجان هذا العام.
التأريخ لبدو فلسطين بالصورة والكلمة
(*) في هذا المعرض "أن تكون موجودًا هو أن تقاوم"، كان تركيزك على التقاط صور تبيّن ملامح الوجود البدويّ الفلسطينيّ ولم يقتصر اهتمامكِ على توثيق هذه الحكاية بالصور فقط، بل دعمتها بدراسة تاريخيّة أيضًا، مكرّسة عدّة سنوات من البحث والعمل الميدانيّ مع "بدو الجهالين" في فلسطين ونلت درجة الماجستير حول محنتهم من "جامعة وسط أوكلاهوما" عام 2019، فكيف يمكن للصورة أن توثّق ذاكرة السكّان الأصليّين في أرضهم، وتفضح سياسات الإلغاء والمحو الصهيونيّة في فلسطين؟
من خلال التقاطي للكثير من الصور للبدو في فلسطين أحاول التأريخ لهم ولحياتهم وقصصهم المختلفة وتدوينها وحفظها، ثمّ طوّرت الفكرة وحوّلتها لتكون موضوع رسالتي للماجستير.
اعتمدت في عمليّة التدوين على الشهادات الحيّة عبر حوارات متعدّدة مع عدد من البدو توثّق معاناتهم مع الاحتلال وما تعرّضوا له من طمس للهويّة البدويّة، بالإضافة إلى مشاهداتي لواقعهم ومعايشتي لهم عبر قضاء عدّة أيّام، في كلّ عام، بين مجموعة من البدو في بقاع مختلفة في الضفّة الغربيّة، وذلك على مدار ثماني سنوات. أعقبها عمليّة بحث مطوّلة في المراجع والمصادر المختلفة لباحثين ومؤرّخين كتبوا حول معاناة البدو الفلسطينيّين ووجدت العديد من المصادر المحفوظة لدى الأرشيف الخاصّ بالأمم المتّحدة في نيويورك.
في يومنا هذا، يقبع بدو الضفّة الغربيّة بين قيود الاحتلال وظلال التقاليد. فعلى الرغم من اشتهار البدو عامّة بالترحال الدائم، إلّا أنّ قبائل البدو الفلسطينيّة استقرّت نوعًا ما، واستمرّت في نمط حياة شبه بدويّ، وحافظت على بنائها الاجتماعيّ التقليديّ. لكنّ حياتهم الاجتماعيّة تغيّرت بشكلٍ ملحوظ بسبب الاحتلال الصهيونيّ. وقد ناضل البدو من أجل المساواة والحصول على حقّ الاعتراف والعدالة الاجتماعيّة.
في سنة النكبة 1948، أُجبِرت عشيرة الجهالين البدويّة على ترك موطنها الأصليّ، تل عراد، في بئر السبع بعد طرد أفرادها من أرضهم، وأقام الجهالين تجمّعًا سكّانيًّا على أراضٍ يملكها قرويّون فلسطينيّون في الضفّة الغربيّة. وفقًا لتقرير "المجلس النرويجيّ للاجئين"، يعيش حوالي 30,000 بدويّ في مناطق مختلفة بالضفّة الغربيّة، بالقرب من القدس ورام الله وبيت لحم وأريحا والخان الأحمر ووادي أبو هندي وغور الأردن وعناتا وبير نبالا وأبو ديس. تُعرف هذه المجتمعات باسم "عرب الجهالين"، وقد عانى سكّانها الفقر المدقع، وانعدام الأمن الغذائيّ، والبطالة، وهدم المنازل المتكرّر، والتهجير القسريّ، والأهمّ من ذلك؛ أنّهم عانوا فقدان أسلوب حياتهم التقليديّ. وبعد أكثر من 75 سنة على إقامة دولة الاحتلال، لا تزال قضيّة البدو حاضرةً ودون حلّ. وللأسف، فإنّ نمط الحياة البدويّة الأصيل يتلاشى شيئًا فشيئًا بفعل التهجير والتغيير الجذريّ في بنية تقاليدهم وثقافتهم.
لأضرب مثالًا هنا... "أبو فهد"، المقيم في قرية بيت إكسا، يقول: "بعد طرد الجهالين من بئر السبع عام 1950، أصبحت وعائلتي لاجئين، أملك شهادة ميلاد تُثبت أنّني ولدت في الأردن وجواز سفر يُشير إلى أنّني من الضفّة الغربيّة. أتمنى العودة إلى زمنٍ مضى، ورغم الاضطّهاد الذي حدث خلال الفترة العثمانيّة، فإنّه لا يُقارن بالوجود تحت الاحتلال الصهيونيّ. أنا وعائلتي نمتلك وثائق تركيّة تُثبت ملكيتنا لنحو 260000 دونم في بئر السبع".
يُعدّ صراع "أبو فهد" من أجل هويّته صراعًا للحفاظ على أرضه بالأساس؛ فالمحتلّ الصهيونيّ يسيطر على الأرض ويجرّد الضفّة الغربيّة من عروبتها ويهودها، فالهويّة البدويّة على وشك التطهير مثلها مثل الهويّة الفلسطينيّة بالكامل.
مثال آخر، يقول الشيخ صيّاح الطوري، المتحدّث باسم قرية العراقيب: "كيف تتّهمنا السلطات الإسرائيليّة بأنّنا غزاة ومستوطنون بينما كانت قرية العراقيب موجودة قبل إنشاء دولة إسرائيل؟ على العكس، هم الغزاة وهم المستعمِرون".
تمّ تهجير سكّان القرية سنة 1951 من قبل سلطات الاحتلال وسط وعود بالعودة إليها بعد بضعة أشهر. بين سنتي 1950 و1953، أصدرت سلطات الاحتلال قانونين شرعا ترحيل البدو ومصادرة أراضيهم. وفي سنة 1965، أعلن الاحتلال قانونًا يزعم أنّ "القرى البدويّة في صحراء النقب، بما في ذلك العراقيب، "غير شرعيّة". إنّ وضع القرى غير المعترف بها وفقًا للمحتلّ يعني أنّ العائلات البدويّة التي تعيش فيها تواجه خطر هدم المنازل والحرمان من الخدمات الأساسيّة، التي تتوفّر فقط لليهود، كالبنية التحتيّة الحكوميّة؛ بما في ذلك إمدادات المياه والكهرباء، والصرف الصحّيّ، والطرق، والمدارس، وخدمات الرعاية الصحّيّة.
وعلى الرغم من المعاناة الكبيرة التي يواجهها بدو فلسطين من الاحتلال فإنّ نساء البدو الفلسطينيّات تأثّرنّ بصورة أكثر سلبًا بسياسات الاحتلال المتمثّلة في التوطين القسريّ وهدم المنازل. فبعد اتّفاقيّة أوسلو عام 1993، اعتبر الاحتلال الصهيونيّ البدو عقبة أمام توسيع المستوطنات غير القانونيّة في الأراضي المحتلّة؛ ليواجه البدو الطرد للمرّة الثانية. وعلى الرغم من امتثال المرأة البدويّة للسلطة الأبويّة والتقاليد، فإنّ الاحتلال في الضفّة الغربيّة لعب دورًا رئيسيًّا في قمعها وتهميشها ومضايقتها وإهانتها. وهو أمر ترك ظلاله السلبيّة عليهنّ آخذًا في الاعتبار الدور الجوهريّ الذي كانت تلعبه المرأة البدويّة ذات يوم في بناء الأسرة من خلال العمل في الزراعة ورعاية الماشية وصناعة منتجات الألبان، إلّا أنّ التهجير القسريّ، حدّ من الفرص الاجتماعيّة والاقتصاديّة المتاحة لها.
أضرب لك مثالًا، "أمّ أحمد" أرملة وأمّ لستّة أطفال، أحدهم لديه إعاقة شديدة وهو على كرسي متحرّك. تنتمي "أمّ أحمد" إلى عائلة "أبو دويك" من عشيرة الجهالين. تسكن بالقرب من مدخل قرية بيت إكسا في خيمة صغيرة، في منزل صغير مصنوع من الزينكو، ولديها حظيرة صغيرة للحيوانات، تحتفظ فيها بالماعز والكلب والحمار. تفتقر المنطقة إلى الخدمات الأساسيّة مثل الطرق المعبّدة وخطوط المياه والكهرباء، كما تمنع سلطات الاحتلال البدو من بناء منازل من الحجر أو تطوير مجتمعات خاصّة بهم. يلاحقها خوف مستمرّ من هدم منزلها، أو طردها مرّة أخرى إلى مكان مجهول من قِبل سلطات الاحتلال. حكت لي "أمّ أحمد" المصاعب التي يواجهها البدو تحت الحكم العسكريّ وقالت: "تزوجتْ ابنتي من شخص يعيش خارج بيت إكسا. لم تعد مسجّلة عند نقطة التفتيش الأمنيّة الإسرائيليّة. عندما تأتي لزيارتي، تحتاج إلى إذن دخول مسبق من السلطات الإسرائيليّة. أخي وأختي في وضع مماثل، لا يمكنهما زيارتي للسبب ذاته. في إحدى المرّات، خاطرت أختي التي تعيش في أريحا وأتت لزيارتي، وتمّ إيقافها عند نقطة التفتيش ومُنعت من الدخول. لم أعلم بالأمر إلّا بعد أسبوع من حدوثه".
لديّ صورة أودّ مشاركتها هنا للحاجة خضرة، 110 أعوام عند التقاط الصورة، هي من أهالي بئر السبع، هُجّرت قسرًا مع عائلتها إلى الضفّة الغربيّة منذ 1948، وحتّى وفاتها عام 2016، ظلّت تحلم بالعودة إلى مسقط رأسها في بئر السبع.
في الذكرى الـ 77 للنكبة: "غزّة حبيبتي" في هيوستن
(*) أتوقّف معك للحديث عن تفاصيل المعرض الجماعيّ "غزّة حبيبتي" لمجموعة من المصوّرين والمصوّرات من فلسطين، الذي نظّم ضمن مهرجان الصورة في عمّان، والذي تعملين حاليًّا على تنظيمه في "متحف فلسطين- الولايات المتّحدة" في ولاية كونيتيكت، في شهر كانون الثاني/ يناير 2025، وبعدها سينتقل إلى مدينة هيوستن، دعمًا لغزّة التي تتعرّض لحرب إبادة جماعيّة متواصلة منذ أكثر من 430 يومًا.
"غزّة حبيبتي" هو عنوان المعرض الفلسطينيّ ضمن مهرجان الصورة في عمّان. عندما تشاهد الصور في هذا المعرض ترى الصورة الحقيقيّة لحياة سكّان غزّة قبل وفي أثناء عدوان جيش الاحتلال... المعرض عبارة عن مجموعة صور لعدد كبير من المصوّرات والمصوّرين الفلسطينيّين الذين وثّقوا الحياة قبل وبعد العدوان عبر عدساتهم.
أعتبر أنّ هذا المعرض هو بمثابة رسالة قويّة مفادها تأكيد أنّ الصورة أداة مقاومة ضدّ الاحتلال وأكاذيبه، فكلّ الصور توثّق لحظات ومواقف من داخل غزّة، خاصّة فترة ما قبل العدوان الصهيوني الأخير.
تتنوّع الصور المشاركة في "غزّة حبيبتي" لتنقل ما اعتبره "لحظات إنسانيّة" في حياة الغزّيّين... صور لأطفال يلعبون، وشباب يمارسون الرياضة؛ بعضهم لديهم عاهات مستديمة من حروب سابقة، فترى أطفالًا بأرجل صناعيّة لكنّهم مع ذلك يلعبون كرة السلة ويبتسمون... وهناك صور للطيور وقت الغروب في غزّة... صور للطبيعة الجميلة التي توضّح كيف أنّ سكّان غزّة يحبّون الحياة، وتعكس صمودهم المستمرّ وهم يعانون ويلات الاحتلال والحصار لسنوات عديدة، وتؤكّد أنّهم بشر يقاومون بحبّهم للحياة وتمسّكهم بالأمل رغم كلّ المآسي التي مرّوا بها..... ثمّ تنتقل الصور لتعرض مأساة العدوان الأخير المستمرّ منذ السابع من تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023، كذلك تجد صورًا لأكثر من ألف شابّ وشابّة وطفل هم اليوم في عداد الشهداء...
لقد حاول المشاركون في "غزّة حبيبتي" نقل ما حدث لغزّة بعد هذه الحرب، والمرحلة اللاإنسانيّة التي بات عليها القطاع... وكيف مُحيت الابتسامة والطبيعة والجمال هناك ليتحوّل كلّ ذلك إلى دمار وخراب وجثث جراء حرب إبادة تامّة لغزّة لم تذر شيئًا للأسف.
أمّا عن تفاصيل تنظيم المعرض في "متحف فلسطين- الولايات المتّحدة"؛ فبعد مشاهدتي له في عمّان، شعرت بأهمّيّة وصوله إلى الولايات المتّحدة، بعد تنظيمه في ألمانيا وإسبانيا ومصر، لأنّ الولايات المتّحدة برأيي محطّة ضروريّة جدًا له...
وسيقام المعرض في ولاية كونيتيكت في كانون الثاني/ يناير 2025 لمدّة شهر برعاية "متحف فلسطين- الولايات المتّحدة" ومديره السيّد فيصل صالح، ثمّ ينتقل في الشهر الخامس إلى هيوستن، وسيفتتح المعرض في إحدى أكبر صالات العرض فيها في 22 أيّار/ مايو الذي يصادف الذكرى الـ 77 لنكبة فلسطين، ويستمرّ لمدّة أسبوعين، بدعم ورعاية الجالية الفلسطينيّة والعربيّة هناك. إنّ الهدف الرئيسيّ من تنظيم هذا المعرض هو أنّ يتمكّن الجمهور غير العربيّ من مشاهدة صور من غزّة تبيّن كيف كانت، وكيف أصبحت بعد حرب الإبادة الجماعيّة التي لا يزال القطاع يتعرّض لها بوحشيّة غير مسبوقة في التاريخ الحديث.
وراء كلّ صورة قصّة
(*) تعملين منذ سنوات على الكثير من المشاريع الفوتوغرافيّة لتوثيق الحياة اليوميّة الفلسطينيّة تحت عناوين مثل "شجرة الزيتون"، "أبواب وحجارة فلسطين"، "قصّة من القدس"، "بدو فلسطين"...، كيف تختارين مواضيع هذه المشاريع؟
اللقطة التي أختارها هي مجرّد محاولة لحفظ لحظة مرّت سريعًا، وقد لا ننتبه إلى ما تحمله من جمال، إلّا بعد مرورها، فأحاول نقل هذا الجمال من خلال مشاهد متنوّعة، لوجوه، أو طبيعة، لبحر، لكنيسة، لمسجد، لأبواب وشبابيك، لشجر الزيتون والرمان واللوز وغيرها ولكلّ ما يمكن أن يأتي فجأة من دون تخطيط إنّما من وحي اللحظة.
قصص الصور لا تنتهي بل وراء كلّ صورة قصّة؛ هناك صور لبحر عكا وبحر غزّة، وصيادي الأسماك فيهما، ومشاهد تبرز الحياة اليوميّة، في نابلس وقراها والقدس وبيت لحم وحيفا وغيرها من أماكن... قصص عن الزيتون وموسم قطفه وزراعته، وكيف نزرع وكيف يحرق الاحتلال الأشجار، وكيف يبني ويعمر الفلسطينيّ في ذات المكان الذي يهدمه الاحتلال.
الصور محاولة توثيق للحاضر وللماضي ومثال على ذلك أكشاك الصحف... كانت أكشاك الصحف في القدس في السابق مركزا لجذب سكّان المدينة وزائريها. كانت هذه الأكشاك تشكّل جانبًا مهمًّا من ثقافة المدينة، تناقلته الأجيال، حيث كان المقدسيّون يقفون لقراءة العناوين الرئيسيّة اليوميّة للصحف. بعد عام 1967، بدأ الاحتلال الصهيونيّ لشرقيّ القدس والضفّة الغربيّة، وبدأت أكشاك الصحف في القدس تتلاشى ببطء واحدًا تلو الآخر. لقد مسح الاحتلال آثار هذه الأكشاك في القدس.
اسمح لي أن أروي لكم قصّة صورة التقطتها للحاج مِصباح محمد شبانة (أبو محمد)، في السادس والعشرين من آذار/ مارس عام 2019، كنت أمشي بالقرب من شارع السلطان سليمان عندما مررت بكشك يبدو متواضعًا. أخبروني أنّه الكشك الوحيد المتبقي في القدس، لذلك بدأت التحدّث مع صاحبه، الحاج شبانة. يقع كشك شبانة في شارع السلطان سليمان بجوار باب الساهرة (باب هيرودس) ومدرسة الرشيدية الحكومية؛ منطقتان صغيرتان لكنّهما معروفتان جدًا لدى الفلسطينيّين في القدس. روى لي شبانة عن رحلته مع كشكه "آخر كشك صامد في مدينة القدس". لقد تمكّن الحاج شبانة من ترسيخ سمعةً رائعةً بين المجتمع المقدسيّ على مدار 70 عامًا، حتّى تاريخ وفاته عن عمر ناهز 95 عامًا. وبعد وفاته اختفى آخر كشك للصحف في القدس للأسف، واختفى معه أحد معالم القدس القديمة.
لذلك فإنّ مثل هذه الصور التي ألتقطها أنا وغيري تحفظ الذكريات. وعلى الرغم من السياسة الإسرائيليّة الهادفة إلى تدمير الثقافة الفريدة للقدس القديمة، تلك الثقافة التي لعبت دورًا مهمًّا في تشكيل طابع المدينة وهويّتها، فإنّ مثل هذه الصور ستظلّ وسيلة لتخلّد معالم القدس وحياة المقدسيّين.
(*) ماذا عن مشروعك التطوّعيّ الخاصّ "شجرة الزيتون"، الذي أطلقته عام 2012، بالتعاون مع "جمعية التنمية الزراعيّة الفلسطينيّة" (PARC)، والذي يهدف إلى زراعة ألف شجرة زيتون في فلسطين سنويًّا، لدعم المزارعين الفلسطينيّين وتعزيز صمودهم في أراضيهم؟
مشروع "شجرة زيتون" انطلق عام 2012، ويهدف إلى زراعة ألف شجرة زيتون في فلسطين سنويًّا، ويعتمد على ريع المعارض التي أقوم بها، إذ يذهب ريع كلّ مبيعاتي من الصور إلى هذا المشروع. ومن ثمّ أقوم خلال كلّ زيارة إلى فلسطين، بالتقاط الصور الفوتوغرافيّة الّتي تُظهر جمال بلادي وطبيعتها، وحياتها الاجتماعيّة، وتسرد جزءًا من معاناة الفلسطينيّين، وعندما أعود إلى الولايات المتّحدة أنظّم الكثير من المعارض الشخصيّة، وأعرض هذه الصور للبيع، وأرصد عائدات هذه المبيعات لمشروعي في فلسطين، وكأنّها حلقات متواصلة تساند إحداها الأخرى.
ومع الوقت تحوّل هذا النشاط إلى "مؤسّسة دبوانية غير الربحيّة"، والتي تعتمد في تمويلها على عدد من المصادر أوّلها مبيعات صوري وبعض العناصر الأخرى المعتمدة على الصور التي ألتقطها، وثانيها تبرعات الأشخاص المهتمّين حيث يقوم هؤلاء بشراء شجرة زيتون واحدة أو أكثر ويتبرعون بزراعتها للفلسطينيّين من خلال موقع المؤسّسة... واللافت أنّ التبرعات التي تصل للمؤسّسة لا تتوقّف على الفلسطينيّين بل إنّ أكثريّة التبرعات هي من عرب ومن غير العرب المهتمّين بالقضيّة الفلسطينيّة والمدافعين عن قيم العدل والحرّيّة والإنسانيّة... كلّ هذه المصادر نتمكّن من خلالها من توفير الأموال اللازمة لتمكين المزارعين في فلسطين من زراعة وحصاد أشجار الزيتون في الأراضي الفلسطينيّة، خاصّة للمزارعين الذين تتعرّض أشجارهم للاقتلاع من قِبل المستوطنين أو جنود الاحتلال. ونقوم في المؤسّسة بتسجيل الأشجار التي يتمّ شراؤها من المتبرعين بأسمائهم وترسل لهم شهادات شكر لقيامهم بزراعة هذه الأشجار. وبذلك لا تقتصر المساعدة التي تقدّمها المؤسّسة على تقديم المال للمزارعين بل توفير الأشجار التي سيزرعونها، وفي هذه الحالة يكون لديهم مصدر مستدام للدخل من خلال زراعة الزيتون وبيعه وصناعة الزيت والصابون. تعتمد آلاف العائلات الفلسطينيّة على الزيتون وزيت الزيتون كمصدر دخل أساسيّ. وحاليًّا تساعدني في هذه المهمّة "جمعية التنمية الزراعيّة الفلسطينيّة" (PARC)، وتفخر "مؤسّسة دبوانية" بزراعة أكثر من 14000 شجرة زيتون، حتّى الآن، خلال إحياء مناسبة يوم الأرض في 30 آذار/ مارس من كلّ عام، كما حفرنا ثلاث آبار ماء عذب وهي عمليّة مكلفة جدًا. تزرع جميع الأشجار على أراضٍ مملوكة للقطاع الخاصّ حول مدينتي نابلس وجنين وبيت لحم والأغوار الفلسطينيّة.
حنان عواد تتوسط المناضلة الفلسطينيّة ليلى خالد ووزيرة الثقافة الأردنيّة هيفا نجار ومعهنّ منظّمة مهرجان الصورة ليندا خوري |
ما نراه اليوم في غزّة هو مؤشرات للنكبة المستمرّة
(*) آخر زيارة لك إلى غزّة، كانت في شهر تشرين الأوّل/ أكتوبر عام 2022، أيّ قبل عام من بدء الحرب الصهيونيّة الهمجيّة على القطاع، ما الذي تحتفظ به ذاكرتك عن تلك الرحلة؟
زرت غزّة الجميلة وشواطئها الساحرة ومدارسها وجامعاتها ومستشفياتها وجوامعها وكنائسها واستمتعت بالتجوال في شوارعها وتناول الطعام في مطاعمها المختلفة... كانت زيارتي الأولى للمدينة... وحفرت في ذاكرتي كلّ تفاصيلها وسجلت بكاميرتي مئات الصور... كنت محظوظة بزيارتها في شهر تشرين الأوّل/ أكتوبر 2022، كونه شهر الحملة العالميّة للتوعية بسرطان الثدي، وكنت ضمن وفد يهدف إلى التوعية بخطر هذا المرض. دخلت غزّة عبر معبر رفح المصريّ... وعقدنا مؤتمرنا هناك وتجوّلت في شوارعها وأزقتها... التقيت عشرات الغزاويّة ودخلت بيوت عدد منهم... يا الله كم كانت بيوتهم عامرة وجميلة ونظيفة... كم كانت هذه البيوت دافئة ومليئة بالحبّ والضحك والأمل بالمستقبل...
من الأمور التي بقيت في ذاكرتي أيضًا عن غزّة غياب الحواجز... صحيح أنّ غزّة بكاملها تحت الحصار منذ سنوات لكنّ التنقل فيها يتمّ بحرّيّة كاملة... ولفلسطينيّة مثلي قادمة من الولايات المتّحدة فإنّ التنقل في الضفّة الغربيّة يكون عبر حواجز جيش الاحتلال وهو أمر مرهق وصعب؛ فالتنقل من رام الله إلى جنين ونابلس يمرّ عبر نقاط تفتيش مرهقة جدًا ومزعجة... فبصمات الاحتلال الصهيونيّ الغليظة في الضفّة ظاهرة بقوّة... لكن في قطاع غزّة كنت أتجوّل بحرّيّة بين مدن غزّة ودير البلح ورفح... القطاع كلّه حرّ لكنّه بالكامل تحت الحصار... أيضًا من الأمور التي بقيت في ذاكرتي أنّ ختم الدخول لغزّة من رفح المصريّة كان ختم فلسطين وليس دولة الاحتلال كما هو الوضع في الضفّة الغربيّة... فإذا سألتني ما هي خلاصة زيارتي أقول لك: صمود وأمل وحرّيّة.
(*) هل اقتربتِ من الناس الذين صوّرتهم وتحدّثتِ معهم؟ وقمتِ بتسجيل تقارير عن بعض الحالات الإنسانيّة التي التقيتها؟
كما أشرت في إجابتي للسؤال السابق... بالفعل اقتربت من ناس كثر هناك في غزّة وقمت بتصويرهم، وتركوا لديّ انطباعات لا تنسى بمعنى الصمود والأمل... ومن تلك الصور صورة أحد الصيادين... ذات يوم استيقظت باكرًا لمشاهدة الصيادين خلال عودتهم من رحلات الصيد والتقيت أحدهم من كبار السنّ، وأجريت معه حوارًا مطوّلًا، وطوال الحوار ظلّ يخيط شبكته بهدوء وصبر وأمل كونه لا يمتلك ما يتيح له شراء واحدة جديدة... قال لي إنّه توارث المهنة أبًا عن جدّ... وتحدّث عن ذكرياته وعن أسرته والصعوبات التي مرّ بها، وعن حزنه لعدم قدرته على زيارة الضفة الغربية... اعجبت بصموده رغم ضيق الحال الشديد... هو ذات الصمود الذي يتّصف به الفلسطينيّون في كلّ مكان... الأمل والصمود رغم كلّ المآسي.... والآن أسأل: ترى كيف هو حاليًّا؟ وهل نجا من حرب الإبادة التي تشهدها غزّة؟
(*) في نهاية حوارنا، ماذا تقولين لأبناء شعبك الفلسطينيّ في القطاع المحاصر؛ المنكوب؟ وهل من رسالة توجهينها إلى أشخاص معينين كنت قد التقيتهم في زيارتك الأخيرة؟
لا تزال النكبة منذ عام 1948 مستمرّة إلى يومنا هذا، ولكنّ المقاومة والصمود والثبات على المبدأ وهو تحرير الأرض والتضحية الفلسطينيّة اليوميّة دليل على أنّ الفلسطينيّين لم ولن يفقدوا الأمل في تحرير فلسطين... إن ما نراه اليوم في غزّة وكلّ مدن فلسطين هو مؤشرات للنكبة المستمرّة منذ الـ 48، حيث يستمرّ المستعمِر الصهيونيّ في محاولاته لتطهير فلسطين من سكّانها الأصليّين. ينتابني حاليًّا شعور بالقهر والألم عندما نشاهد المجازر المستمرّة لأكثر من عام والقتل والإبادة الجماعيّة ومنع الغذاء والدواء وهدم المستشفيات والجامعات، مع هيمنة رغبة متوحّشة من المحتلّ الصهيونيّ لقتل الحياة في غزّة... ومع كلّ المآسي والألم ما زال الأمل موجودًا... ومع رؤيتي يوميًّا للعلم الفلسطينيّ يرفرف في مسيرات تجوب شوارع مختلفة في كلّ أنحاء العالم أشعر بالأمل... وفي كلّ صورة ومشهد أجد فيه الكوفيّة الفلسطينيّة حاضرة في كلّ مكان في العالم وعلى أكتاف الأجانب كرمز للتضامن مع الفلسطينيّين أشعر بالأمل... إن الكوفيّة أصبحت رمز المقاومة للحرّيّة في العالم. إن الأمل موجود، والحقّ سوف يعلو على الظلم، والحرّيّة قادمة.