}

ناثان ثرال: "يوم بحياة عابد سلامة" يكشف وحشية الاحتلال

يورن ده كوك 28 يوليه 2024
حوارات ناثان ثرال: "يوم بحياة عابد سلامة" يكشف وحشية الاحتلال
ناثان ثرال
ترجمة وتقديم: عماد فؤاد


تقديم

في 16 فبراير/ شباط 2012، اصطدمت شاحنة بضائع بحافلة مدرسيّة في طريق جبلي وعر بين القدس ورام الله، وأدّى تحطّم الحافلة إلى مقتل معلّم وستّة أطفال، من بينهم الطفل ميلاد عابد سلامة البالغ من العمر خمس سنوات، عن هذه الحادثة بتفاصيلها المأساوية كتب الصحافي الأميركي اليهودي ناثان ثرال كتابه اللافت "يوم في حياة عابد سلامة"، والذي صدر قبل أحداث السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي بأربعة أيام فقط، وبعد أن حقق الكتاب نجاحًا لافتًا منذ ظهوره، وبالتأكيد بعد العدوان الإسرائيلي الوحشي على قطاع غزة والمستمر حتى يومنا هذا، حصد ناثان ثرال جائزة بوليتزر للقصص غير الروائية في مايو/ أيار الماضي عن كتابه الناجح، والذي ترجم سريعًا إلى عدد من اللغات من بينها الفرنسية والإسبانية والألمانية والهولندية وغيرها.
تبدأ قصة كتاب ناثان ثرال بمقالة نشرها عن الحادث في صحيفة "نيويورك ريفيو أوف بوكس" في 19 مارس/ آذار 2021 بعنوان "يوم في حياة عابد سلامة"، رصد فيها معاناة الأب عابد سلامة في الوصول إلى ابنه ميلاد المصاب في حادث الحافلة وإنقاذه من موت محقّق، لكنه يفشل بسبب الحواجز الأمنية التي تكشف المعاناة التي يعيشها الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال الإسرائيلي، كانت هذه المقالة هي النواة التي بنى عليها الكاتب كتابه الجديد الذي حمل العنوان ذاته (*)، مُضافًا إليه العنوان الفرعي "تشريح مأساة مقدسية"، وصدر عن "متروبوليتان بوكس" في 270 صفحة.
وإضافة إلى جائزة بوليتزر للقصص غير الروائية لعام 2024 التي نالها الكتاب، فقد احتل أيضًا مركزًا متقدمًا ضمن اختيارات محرري مجلة "نيويورك تايمز"، كما اختارته "نيويوركر" و"تايم" ومجلة "الإيكونوميست" وخمس عشرة مطبوعة أخرى كأفضل كتاب لهذا العام.
ناثان ثرال هو أيضًا مؤلف مجموعة المقالات التي نالت استحسان النقاد والتي جاءت بعنوان "اللغة الوحيدة التي يفهمونها: إجبار التسوية في إسرائيل وفلسطين"، وقد نُشرت كتاباته في مجلات وصحف عدّة من بينها: "نيويورك تايمز" و"الغارديان" و"لندن ريفيو أوف بوكس" و"نيويورك ريفيو أوف بوكس". وتُرجمت كتاباته ومقالاته الصحافية إلى أكثر من عشرين لغة، كما تم الاستشهاد بكتاباته في مجلس الأمن والجمعية العامة ومجلس حقوق الإنسان التابعين للأمم المتحدة، وكذلك في تقارير منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش والمقرّر الخاص للأمم المتحدة المعني بالأراضي الفلسطينية المحتلّة، وقد وُصف بأنّه "واحد من أفضل المراقبين المطلّعين والأكثر دقّة في رصد الصراع" (فايننشال تايمز)، و"محلّل أميركي لديه حساسية شديدة من الحكمة التقليدية" (التايم)، ومؤلّف سلسلة من المقالات "التي حدّدت المعايير الفكرية والسياسية الجديدة لما يُعترف به بشكل متزايد على أنه واقع الدولة الواحدة (أو ما بعد الدولتين) في إسرائيل وفلسطين" (نيويورك ريفيو أوف بوكس).



كذلك حصل ثرال على منح وزمالات من مؤسسات المجتمع المفتوح ومدارس "ميدلبري كوليدج" للغات ومعهد الكُتّاب، وغالبًا ما تُنشر تعليقاته في وسائل الإعلام المطبوعة والإذاعية بما في ذلك وكالات: "أسوشيتد برس" و"رويترز" و"بي بي سي" و"سي إن إن" و"الإيكونوميست" و"فايننشال تايمز" و"الغارديان" و"نيويورك تايمز" و"وول ستريت جورنال" و"واشنطن بوست" وغيرها، كما عمل ناثان ثرال لمدة عشر سنوات ضمن "مجموعة الأزمات الدولية"، حيث كان مدير المشروع العربي الإسرائيلي في غزة ثم في القدس حيث يعيش حتى اليوم.
في أسلوب روائي استقصائي، تتبّع الكاتب الأميركي اليهودي رحلة الأب الفلسطيني لإنقاذ ابنه ميلاد البالغ من العمر خمس سنوات، كان ميلاد مع العشرات من زملائه في طريقهم إلى مدينة ملاهي بالقرب من رام الله، لكن اصطدام الشاحنة بحافلة المدرسة في ذلك الصباح العاصف وتحت الأمطار الغزيرة، أدّى إلى انقلاب واحتراق الحافلة وقتل ستّة أطفال ومعلّم، وأصيب عدد آخر من الأطفال بجروح وحروق، وانتشر الحادث في جميع أنحاء العالم، ونال تغطية إعلامية، لكن ثرال أراد أن يروي القصة بشكل مختلف، القصة التي لم تتناولها الصحف ولا آراء المحلّلين السياسيين آنذاك: كيف كشف حادث مرور عابر عن الأوضاع العبثية الرهيبة التي يعيشها الفلسطينيون تحت الاحتلال الإسرائيلي، حيث لم تصل أي مساعدة من نقطة التفتيش الإسرائيلية القريبة، ولا تحرّك أحد من سكّان المستعمرات اليهودية المحيطة في الضفّة الغربية لإنقاذ الجرحى، وانتظرت خدمات الطوارئ نصف ساعة كاملة قبل أن تقرّر التعامل مع الحادث، وتمّ إنقاذ المتبقّي من الأطفال الأحياء بواسطة معلّم كان برفقة الأطفال في الشاحنة المحترقة وعدد من العابرين.
اصطدمت الشاحنة بحافلة المدرسة في المنطقة (ج) في الضفة الغربية، وهي المنطقة التي يسيطر عليها الجيش الإسرائيلي، لذلك لم يُسمح لسيارات الإسعاف الفلسطينية بدخولها لإسعاف الجرحى، ما أدّى في النهاية إلى نقل أغلب المصابين من الأطفال إلى أحد مستشفيات رام الله الفقيرة، ولم يصل سوى عدد قليل منهم إلى مستشفيات القدس الأفضل تجهيزًا.
مع تأخّر وصول قوات الإنقاذ وعربات الإسعاف إلى موقع الحادث الوعر، التهمت النيران الأطفال، وعلى الناحية الأخرى، كان الأب عابد سلامة يبحث مجنونًا عن ابنه ميلاد الذي كان على متن الحافلة، لم يتمكّن عابد من دخول القدس لأنه يحمل بطاقة هوية فلسطينية خضراء، والقدس تتطلب بطاقة زرقاء لدخولها. تسكن عائلة سلامة في عناتا، وهي منطقة اختفت خلف "الجدار الأمني" الإسرائيلي في القدس منذ عام 2002، وفي النهاية، عُثر على جثة ميلاد وقد تفحمت تمامًا، حتى أن اختبار الحمض النووي لم يتمكّن من التعرف عليه إلا بعد يومين من فحوصات عدّة.

اصطدمت الشاحنة بحافلة المدرسة في المنطقة (ج) في الضفة الغربية

يقول الكاتب الأميركي ناثان ثرال من منزله في القدس: "في حفل إطلاق كتابي في نيويورك في الثالث من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، قالت الكاتبة الصحافية الروسية الأميركية ماشا غيسن إن كتابي يدور حول "حادث لم يكن حادثًا في الحقيقة"، لطالما بقيت هذه العبارة عالقة في ذهني، بالطبع كان الأمر حادثًا، فلم يكن سائق الشاحنة ينوي الاصطدام بحافلة المدرسة في ذلك اليوم المشؤوم، لكن كلّ ما حدث منذ ذلك الحين كان متوقّعًا تمامًا، لأنّ النظام القائم على الإهمال المتعمّد لمئات الآلاف من الفلسطينيين الذين يعيشون على الجانب الآخر من الجدار، هو نفسه الذي أودى بحياة الأطفال الستّة في الحافلة".
هنا ترجمة لحوار أجري مع ثرال من هولندا:

(*) ولكن عندما كنت تعمل على عملك الاستقصائي "يوم في حياة عابد سلامة"، لم يكن هناك اهتمام دولي كبير بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي كما هو اليوم، ماذا كان دافعك لتتبّع هذه القصة منذ البداية، حتى اكتملت في صورة كتاب يحقّق اليوم هذا النجاح اللافت؟
أردت منذ البداية أن أكتب "رواية غير خيالية" لوضعها في وجه عالم أصبح مُخدّرًا تجاه الوضع المعيشي القاهر لآلاف الفلسطينيين، مع سرد محدّد يمكن أن يجذب القارئ إلى القصة الأوسع، أردت أن ألخّص واقع المتاهة التي يعيشها الفلسطينيّون في القدس، بدون أن يغرق القارئ في هذا الواقع، هناك بالطبع العشرات من التقارير المتخصّصة عن الاحتلال العسكري الإسرائيلي، ونظام المعابر ومصادرة الأراضي ودور الحواجز الأمنيّة في إذلال الفلسطينيّين، وهي بالتأكيد تقارير قيّمة جدًا، لكن قراءتها مملّة للغاية، لذلك اتّخذت من عابد سلامة شخصية رئيسيّة لكتابي، تتبّعته في رحلة بحثه لإنقاذ ابنه، ما كشف أمام القارئ متاهة متعدّدة الطبقات للاحتلال الإسرائيلي البشع واللا إنساني.

(*) ولماذا لا يُسمح لعابد سلامة بدخول القدس ببطاقة هويّته الخضراء، على الرغم من أنه يعيش بالفعل في أحد أحيائها؟
جيب عناتا/ شعفاط، حيث يعيش عابد، انقسم إلى قسمين منذ حرب حزيران/ يونيو 1967، عندما استولت إسرائيل على القدس الشرقيّة والضفّة الغربية، فصار نصفه يقع في القدس الحضريّة ونصفه الآخر في الضفّة الغربيّة، وهذا كان هدف السياسة الإسرائيلية طوال الوقت: "أكبر قدر من الجغرافيا وأقلّ قدر من الديموغرافيا"، بعبارة أخرى: "احتلال أكبر قدر ممكن من الأراضي مع أقلّ عدد ممكن من الفلسطينيّين عليها"، لذا عندما ضمّت إسرائيل القدس الشرقية من جانب واحد، تم إنشاء جيوب مثل عناتا، وتمّ التعدّي على الأراضي من قبل إسرائيل حتى في الأجزاء الأكثر كثافة سكانية من المناطق الفلسطينية.

ميلاد مع شقيقه الأكبر آدم في عام 2009 

وعندما أقامت إسرائيل جدار الفصل منذ عام 2002، تحقّق الهدف نفسه، وهكذا اختفى جزء من عناتا خلف جدار يبلغ ارتفاعه مترًا واحدًا، فصار نصفه داخل القدس ونصفه الآخر خارجها، وبالتالي صار البعض في عناتا حاملًا لبطاقة الهوية الزرقاء، والبعض الآخر مثل عابد سلامة يحمل البطاقة الخضراء.

(*) يصف كتابك كيف تتحكّم هذه الألوان في حياة الفلسطينيّين، وصولًا حتى إلى تحديد مسارات حياتهم العاطفية.
هذه السيطرة الكاملة على جميع نواحي حياة الفلسطينيّين هي سياسة إسرائيلية متعمّدة ومعتادة، ولكن لحسن الحظ هناك مؤسّسات تعمل على كشف هذه الأوضاع، مثل منظمة "كسر الصمت" Breaking the Silence، وهي منظّمة غير حكومية، حيث تعمل على تنظيم رحلات في الضفّة الغربية لجنود إسرائيليين سابقين للحديث عن تجاربهم الخاصة هناك، وما كشفت عنه هذه الرحلات كان صادمًا، حيث كان على هؤلاء الجنود أن يثقلوا كاهل الفلسطينيين بشعورهم بأنهم مطاردون على الدوام، وعليهم أن يكونوا خائفين من اقتحام الجيش لمنازلهم وقلب حياتهم رأسًا على عقب، وبالطّبع يصل التأثير الإسرائيلي إلى حياة الناس الحميمة، وصولًا إلى اختيار شريك الزواج، حيث يمكن أن يكون لون بطاقة الهوية عاملًا مؤثرًا هنا، كما تحدّد إسرائيل أيضًا الطرق التي يمكن للفلسطينيّين أن يسلكوها، وحتى الأماكن التي يمكنهم العمل فيها، وغير ذلك الكثير.




[ولد ناثان ثرال نفسه يهوديًا أميركيًا في الولايات المتحدة، حيث عمل محرّرًا في مجلة "نيويورك ريفيو أوف بوكس"، وبدأ العمل في مركز الأبحاث المرموق "مجموعة الأزمات الدولية" International Crisis Group  في عام 2010، وكانت غزّة أوّل محطّة عمل له، وبعد مرور عام من وجوده في غزّة، حيث ربطته علاقات جيدة بالفلسطينيين هناك، انتقل إلى القدس حيث يعيش حتى اليوم مع عائلته على مرمى حجر من الأسوار وباب العامود بجوار "الخط الأخضر"، والذي لا يزال الخط الفاصل بين القدس الغربية الإسرائيلية والقدس الشرقية الفلسطينية بموجب القانون الدولي.
دارت محادثتنا في صباح اليوم التّالي لحفل إطلاق كتابه في فندق "أميركان كولوني" الشهير في القدس الشرقية، والذي تطوّر من قصر عثماني إلى مكتب للبعثة الأميركيّة، ثمّ إلى فندق تقليدي في أواخر القرن التاسع عشر، وقد حضر حفل إطلاق كتابه العديد من الكُتّاب الفلسطينيّين ونشطاء إسرائيليّون ودبلوماسيّون دوليّون وعاملون في المنظّمات غير الحكومية، ولكن مع غياب رئيسي واحد: عابد سلامة، الذي لم يحصل على تصريح خاص من إسرائيل للحضور، على الرّغم من أنّه يعيش على بعد 10 دقائق بالسيارة من الفندق حيث حفل إطلاق الكتاب، كان عابد سلامة قد حضر حفل إطلاق الكتاب في نيويورك في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، لكن في مدينته لم يتمكّن من إيصال تحيّاته المكتوبة إلى الحضور إلّا عبر ناثان ثرال].

(*) كيف حال عابد سلامة اليوم؟
كما هي الحال بالنسبة لجميع الفلسطينيّين، أصبحت حياته أكثر صعوبة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، حيث أغلق الجيش الإسرائيلي جيب عناتا لفترة طويلة، وهو أمر سهل للغاية بسبب ذلك الجدار المحيط بها، هناك نقطة تفتيش واحدة فقط باتّجاه القدس وطريق واحد إلى الضفّة الغربية، وبوجود أربعة جنود فقط على نقطة التفتيش تلك، يمكنك حبس 130 ألف فلسطيني! 

عابد سلامة وهو يرفع صورة ابنه ميلاد 


وبالرّغم من رفع القيود جزئيًا عن الفلسطينيين في الضفّة الغربية، إلّا أن حرّية حرّكتهم مقيّدة بسبب عنف الجيش الإسرائيلي والمستوطنين في الضفّة الغربية، وهناك أيضًا قُتل أكثر من 500 فلسطيني منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، من بينهم أحد أقارب زوجة عابد الذي قُتل في عملية إطلاق نار من الجيش الإسرائيلي وهو في طريقه إلى عمله، كذلك تمّ تعليق جميع تصاريح العمل للفلسطينيين في إسرائيل، مما ترك عشرات الآلاف بدون وظائف، ومن أرباب العمل الرئيسيين الآخرين السلطة الفلسطينية في رام الله، والتي تخنقها الحكومة الإسرائيلية الآن ماليًا فترفض تحويل الأموال لها، كعقاب لآلاف العاملين لدى السلطة الفلسطينية، والذين منذ شهور لا يتقاضون سوى نصف رواتبهم، وفوق ذلك كلّه، وبعد أن أصبحت الأنظار كلّها متجهة اليوم إلى غزّة، وما يجري فيها من إبادة وحشية على يد الجيش الإسرائيلي، يرى المستوطنون الإسرائيليون فرصتهم "للتطهير العرقي" في الضفّة الغربية، والذين حظوا منذ العام الماضي على دعم علني من "اليمين المتطرّف" في الحكومة للقيام بذلك، فماذا تتوقّع من وزراء مثل إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش غير ذلك؟ السياسة الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين مشخصنة للغاية، سواء في وسائل الإعلام الغربية أو الإسرائيلية، رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو مسؤول عن كمّ كبير من المشاكل التي زادت من تعقيد المشهد، لكن المشروع الاستيطاني هو الطامة الكبرى، حيث لا يحصل الفلسطينيون على أي تصاريح بناء تقريبًا، ويتم هدم منازلهم تحت أعينهم، وفي الوقت نفسه يتم بناء منازل جديدة في المستوطنات اليهودية، وهي سياسة كل الحكومات الإسرائيلية منذ عام 1967، من اليسار واليمين والوسط، وغالبًا ما يوصف المستوطنون بأنهم مجموعة من المتعصّبين الذين يحتلّون قمم التلال بشكل عشوائي، وبعد ذلك تجد الحكومة صعوبة سياسية في إجلائهم، والحقيقة هي أنه تمت الموافقة على عدة مخطّطات استيطانية رسمية كبرى منذ عام 1967، واليوم كلّ مركز حضري فلسطيني محاط بالمستوطنين من كل جانب، ما يدل على أن المشروع الاستيطاني هو أكبر استثمار للدولة الإسرائيلية على الإطلاق، وبالطبع مع وجود شخصيات رئيسية مثل بن غفير وسموتريتش في الحكومة، من الطبيعي أن تتسارع العملية الاستيطانية، وفي الوقت نفسه يميل المجتمع الإسرائيلي أيضًا بشكل حاد إلى اليمين المتطرّف، وأصبحت الآراء المتطرفة المعادية للفلسطينيين هي السائدة، وأثبت السابع من أكتوبر للكثير من الإسرائيليين أنه لا يمكن الوثوق بالفلسطينيين، وأن الدولة الفلسطينية لن تكون أكثر من منصة انطلاق هجمات جديدة، والحل وفقًا لليمين الإسرائيلي، هو السيطرة الكاملة على جميع الأراضي الفلسطينية وإلى الأبد. أمّا من وجهة نظر الفلسطينيّين، فقد استولت إسرائيل بالفعل على 78% من أراضيهم، ومع ذلك فهم على استعداد للعيش على الـ 22% المتبقيّة منها، وهو تنازل كبير قدّموه في التسعينيات، وقد يعتقدون في إسرائيل أنها صفقة القرن، بل قد يعتقدون أنّها سرقة القرن، وعلاوة على ذلك، فإن الدرس المحتمل من السابع من أكتوبر هو أن "إدارة" هذا الصراع، بدلًا من السعي إلى اتفاق سلام حقيقي، لا يجدي نفعًا، إلّا أن معظم الإسرائيليين اليوم بعيدون عن هذا الاستنتاج، بسبب روح العداء والرغبة في الانتقام المشتعلة، والتي تزداد لهبًا يومًا بعد يوم.

(*) هل ترى أي نقطة مضيئة، أو على الأقلّ تدعو إلى التفاؤل، منذ أحداث السابع من أكتوبر وحتى اليوم؟
على صعيد الدّاخل الإسرائيلي لا، فالتأييد لدولة فلسطينية حقيقيّة يقترب من الصفر، وتفيد استطلاعات الرأي أن الكثير من الإسرائيليين ينادون اليوم بإحلال "السلام"، ولكن حين تقول لهم إن السلام يعني دولة فلسطينية مكتملة الأركان، لها حدودها وجيشها ومواردها الخاصة، بدون مستعمرات إسرائيلية وعاصمتها القدس الشرقية، كلما ذابت الرغبة الإسرائيلية في قبول فكرة "السلام" على هذا النحو.




أمّا على الصعيد الدولي، فالأمور تتحرّك منذ السابع من أكتوبر، ولكن بأي ثمن رهيب يدفعه الفلسطينيون في غزة؟ من الجيد أن هناك المزيد من الدعم للحقوق الفلسطينية بين الأجيال الشابة في جميع أنحاء العالم، فللمرة الأولى في التاريخ السياسي للولايات المتحدة مثلًا، يشعر رئيس ما بأنّ المعارضة العنيدة لحقوق الفلسطينيين قد تنقلب ضده أسوأ انقلاب، وهذا تغير ثوري في حدّ ذاته، وتأتي الضغوط أيضًا من الاتحاد الأوروبي، ولكنها قد تكون أكبر بكثير في المستقبل، على الرغم من استمرار الولايات المتحدة في توريد وتزويد إسرائيل بالأسلحة، وتوفير "مظلّة الأمم المتحدة" لإسرائيل، بينما تحتفظ أوروبا باتفاقية الشراكة معها حتى اليوم. لطالما كان الافتراض الدولي هو أن إسرائيل ستضطر في نهاية المطاف إلى الاختيار، ويبدو أن "الاستمرار في السياسة الحالية لا يحتمل"، فإما أن تمنح الفلسطينيين دولة خاصة بهم، أو يكون عليها أن تنشئ دولة مشتركة مع حقوق متساوية لجميع مواطنيها، فقط إسرائيل ليست مضطرة لاتخاذ أحد هذين الخيارين، ذلك لأنها تنتهج خيارًا ثالثًا، ألا وهو "الإبقاء على الوضع الراهن كما هو عليه"، فبالنسبة لإسرائيل في الوقت الراهن هذا هو الخيار الأقل تكلفة.

(*) أنتَ نفسك عشت في غزّة عام 2010، ما هو شعورك تجاه صور الدمار الشامل التي تراها هناك اليوم؟
ربّما لن أرى غزّة التي عرفتها مرّة أخرى أبدًا، لا أتوقّع إعادة الإعمار في السنوات الـعشرين المقبلة، سيكون من الصعب إزالة كل هذه الأنقاض والحطام والخراب، حيث تم طمس مجتمع بأكمله، سيعيش الناس هناك لسنوات قادمة في الخيام، وسيكون هناك المزيد من سفك الدماء وعمليات الترحيل القسري، وتوسّع أكبر للمستعمرات الاستيطانية، هذا ما أتوقّعه للأسف، ما يصفه كتابي في النهاية هو نظام الهيمنة المسؤول عن كل تلك المعاناة، ومعالجة هذه المأساة ليست مسألة "إبداء المزيد من التّفاهم المُتبادل" أو "الاعتراف بمعاناة بعضنا البعض"، كما نسمع أحيانًا، فهذا لا يخفف من بشاعة الاحتلال الإسرائيلي، حيث تهيمن مجموعة مسلحة على فئة أخرى أضعف في كل شيء؛ وأخشى أن هذا الوضع لن يتغيّر خلال حياتي، ولكن عملي هو المساعدة في تغييره بما أكتبه، وإن لم أستطع فعلى الأقل الإشارة إليه وتوثيقه.

(*)-
Nathan Thrall, ‘A Day in the Life of Abed Salama... Anatomy of a Jerusalem Tragedy’, Metropolitan Books, 3 October 2023.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.