}

آلان ديبارديو: للسينما قوة في فتح أبواب الحوار

ليندا نصار ليندا نصار 12 يناير 2025
حوارات آلان ديبارديو: للسينما قوة في فتح أبواب الحوار
آلان ديبارديو
يعدّ المنتج والمخرج الفرنسي العالمي آلان ديبارديو رمزًا من رموز السينما الشعرية الفرنسية، وقد اشتغل على صناعة الأفلام وأنتج أكثر من مائة فيلم، وهو يطرح مواضيع عصرية مكّنته من محاكاة الجمهور الفرنسي والعالمي بعقله المتجدد وفكره النيّر، وذلك عبر رفضه للمألوف والنمطي والعمل على الإبداع السينمائيّ.
عاش ديبارديو متحمّسًا ومؤمنًا بشغف التجارب الجديدة، وساهم في رسم الخطوات الأولى للشباب في عالم السينما وصناعة الأفلام. فهو أول من اكتشف المخرج عباس كيارستامي (إيران) الذي أخرج فيلم "طعم الكرز" عام 1997 وغيره. كما أنه نشر كتابًا حول علاقته بأخيه الممثل جيرار ديبارديو، من هنا تبدى اهتمامه بالكتابة التي تجلت عنده على شكل اعترافات وشهادات من مرحلة طفولة عاشها مع أخيه، وقد لاقى صدى واسعًا وأثرًا كبيرًا في السينما الفرنسية والعالميّة.
لم ينحسر اهتمام هذا المنتج بالسينما المحلية الفرنسية، بل نشر التغيير والتجديد للعالم وخصوصًا أنه حمل تقديرًا كبيرًا للسينما العربية واللبنانية بشكل خاص، إذ ظهر هذا الاهتمام في علاقته بالمخرج اللبناني مارون بغدادي.
حصل آلان ديبارديو على جوائز في مهرجان "كان" السينمائي ونال السعفة الذهبية عن فيلم "البيانو" للمخرجة جين كامبيون عام 1993 وغيره من الأفلام المتميّزة التي يمنحها هذا المهرجان، هذا بالإضافة إلى مشاركته في مهرجانات أخرى سينمائية وشعريّة.
وقد خصّ آلان ديبارديو "ضفة ثالثة" بهذا الحوار:

(*)  ما هي أهمية الموهبة في بدايات النشاط السينمائي للمنتج؟ هل تحدثنا قليلًا عن بداياتك؟
ليست موهبة المنتج العنصر الحاسم الوحيد في بدايات النشاط السينمائي. ففي سنواته الأولى، من المهمّ للمنتج أن يطور شبكة واسعة من العلاقات، ومن البديهي أن يظهر المثابرة، وأن يقتنص الفرص التي تأتيه. كما أن ذلك يتطلب حساسية عالية ودقة ملاحظة بما يمكن أن يحاكي الجمهور ويجذب اهتمامه. في البداية، قد لا يفهم المنتج كل شيء، لكن اللقاءات والفرص تشكّل القدرة على التعلم بسرعة، وهذه الأمور تساهم في تكوين مسار المنتج وتنمي موهبته.
الموهبة تعني أن يكون لدى الإنسان الحدس لاكتشاف ما يجول في روح الجمهور وعقله، وأن يعرف طريقة اختيار الأشخاص وأن يكون محاطًا بالأشخاص من أصحاب القدرة لإحياء مشروع معين.

نال ديبارديو السعفة الذهبية عن فيلم "البيانو" للمخرجة جين كامبيون عام 1993

المنتج كالمحرك، وتشكل الحماسة الوقود، ويمكن أن يضاف إليها الإيمان والمثابرة أيضًا لنجاح العمل، وذلك عندما يدرك، انطلاقًا من إحساسه الداخلي وحدسه، قوة مشروع الفيلم، وما يحمله المخرج من رؤى. أتحدث بالطبع عن سينما المؤلف، التي أطلق عليها أحيانًا "سينما المرتفعات".




لا يمكن للمنتج السينمائي أن يكون كالآلة الحاسبة أو كبرنامج المحاسبة، الأمر مختلف تمامًا في هذا المجال. المنتج هو الرائي، أقول ذلك بكل تواضع ولكن مع قناعتي بأنه الخالق الشغوف للأعمال الفنية، وبالتالي يعدّ هذا الأخير مستكشف العوالم الفنية. وغالبًا ما يكون رجل الظل أو يتابع من وراء الكواليس. لم أسعَ يومًا لأكون نجمًا، بل لطالما أردت أن أكون رسولًا بين الفنان والجمهور.
إنّ تخصصي هو الهندسة المعمارية ومع ذلك حين أقرأ السيناريو أشعر كأنني أقرأ مخططًا لمشروع هندسي معماري. أنظر للعمل كفكرة في البداية كما أنني أعرف طرق تجسيده بالوسائل الملموسة التي تؤدي إلى تحقيقه. ذهبت إلى باريس، ورافقت شقيقي جيرار إلى مواقع التصوير. كان لقائي مع بولانسكي حاسمًا. تعلمت في كواليس الأماكن وهي مواقع تصوير الأفلام في حدّ ذاتها، فأنا لم أخرج من مدرسة إدارة الأعمال أو التجارة، بل من مدرسة الحياة.

(*) حصلت على جوائز عدة في مهرجان "كان". ما هي أهمية الجوائز بالنسبة إليك؟ وماذا تقول عن هذه التجربة؟
لقد كانت الجوائز في مهرجان "كان" بمنزلة عرفان كبير، ليس فقط لعملي كمنتج، ولكن للرؤية التي تمتع بها المخرجون ومواهبهم وللفرق التي تعاونت معها أيضًا. بالنسبة إلي هذه الجوائز هي شهادات على دعم صناعة الأعمال الجريئة والفريدة. يجمع المهرجان كل عام صانعي الأفلام من جميع الآفاق والأوساط، ما يسمح بإثراء التبادل الفني والإنساني . ويمنح هذا التكريم زخمًا فريدًا ورؤية للأفلام، ما يتيح لها الوصول إلى جمهور عالمي.
إن نجاح فيلم "درس البيانو" لجين كامبيون وأفلام عباس كيارستمي مثل "طعم الكرز" و"عبر أشجار الزيتون" يُظهر أن مهرجان "كان" يعرف طريقة تكريم الأعمال التي تتجاوز الثقافات وتلامس عمق التجربة الإنسانية العالمية. هذا النجاح يعبّر عن احترام عميق ويظهر قوة السينما في فتح أبواب الحوارات وتقريب المشاهدين من بعضهم البعض.
ومع ذلك، هناك أفلام كبيرة لم يتمّ تكريمها في مهرجان "كان" لأنها لم تُعرض هناك أو لم يتم اختيارها. تجدر الإشارة إلى أني سبق أن رصدت فيلم عباس كيارستمي "من خلال الزيتون" في مهرجان "أميان" Amiens ولذلك، أنا أُولي أهمية كبيرة للمهرجانات التي لا تتمتع بشهرة "مهرجان كان". فأنا لم أتردد يومًا في الذهاب لاكتشاف أفلام عرضت في مهرجانات أقل شهرة لأنها أساسية وضرورية للتعريف بمخرجين كبار وبصانعي أفلام المستقبل.
مؤخرًا، ذهبت مع شريكي المخرج مانويل سانشيز إلى مهرجان الفيلم السعودي في السعودية وإلى مهرجان "Nouvelles images persanes" في "فيتري Vitres" في بريطانيا حيث اكتشفنا أعمال اثنين من المخرجين الإيرانيين موهوبين.

ديبارديو: كانت صداقتي مع مارون بغدادي (في الصورة) عميقة ومبنية على احترام متبادل (Getty)


(*) أخبرنا عن أهمية الكتابة بالنسبة إليك وخصوصًا عن التأثير الذي أحدثه في الجمهور كتاب "أخي" الذي يتضمن اعترافات شخصية وسيرة ذاتية حول الأم والعائلة والسلوكيات الطفولية والذي تتكلم فيه عن أخيك الممثل جيرار ديبارديو وعن علاقتكما بالسينما الفرنسية
.
أحب الكتب، وقد كانت كتابة هذا المنجز بالنسبة إلي وسيلة لملامسة الكلمات المشاعر التي غالبًا ما كانت مدفونة، وعن ذكريات غالبًا ما كانت معقدة. من خلال "أخي"، تمكنت من التعبير عن أشياء ربما لم أكن قادرًا على قولها بصوت عالٍ، بما فيها اعترافات تدور حول علاقتنا، وعن السينما التي انتهى بها الأمر إلى احتلال مكانة كبيرة في حياتنا، ولكن أيضًا هناك حديث يدور حول المسافات والتوترات التي خلقها ذلك أحيانًا في ما بيننا. لقد أتاح لي هذا الكتاب استكشاف علاقتي المعقّدة بأخي جيرار ديبارديو، وآمل أن تسمح لي الفرصة بأن أشاركه رؤية أكثر أصالة ودقة عن حياته، وعما يتجاوز الشخصية العامة التي تعرف إليها الجمهور.

معجب بالمخرجين العرب الذين لا يلتزمون بالرؤية الغربية للعالم العربي

(*) هل يمكن أن نتحدث عن سينما عربيّة اليوم؟ وماذا عن تأثير الرؤية الذاتية للمنتج أو للمخرج؟
من وجهة نظري، لا توجد "سينما عربية" واحدة، بل هناك أفلام سينمائية عربية تأتي من بلدان عربية تنتج في سياقات مختلفة. السينما ليست عربية أو أوروبية، بل هي عالمية، حتى وإن كان صنّاعها مرتبطين بثقافات مختلفة. من الواضح أن كل تجربة فردية في ثقافة محددة تعطي أشكال تعبير ومواضيع ذات دوافع مختلفة. من ناحية أخرى، لدى بعض المخرجين العرب رغبة في التعبير عن سينما ليست سينما تجارية مُعدّة للبيع في السوق الغربية. أنا معجب كثيرًا بالمخرجين العرب الذين لا يلتزمون بالرؤية الغربية للعالم العربي، والتي غالبًا ما تُختزل في كليشيهات أو صور نمطية. أتطلع إلى مقترحات سينمائية من المخرجين العرب برؤى ذاتية ومن وجهات نظر شخصية. أظنّ أنه ما زال لدي الكثير لاكتشافه في هذا الفضاء الثقافي العربي.

(*) ما الذي اختلف بين صناعة الأفلام وخصوصًا السينما الشعرية التي كانت في الماضي وبين ما يعرض اليوم من جهة اختلاف الأذواق والتمويل؟
في الماضي، كان تمويل الأفلام الشعرية والمستقلة يعتمد غالبًا على كل منتج شغوف. اليوم، المنافسة شديدة وصعبة، وغالبًا ما يكون التمويل لمنصات البث واستوديوهات الإنتاج التي تتقصى تحقيق الربح بسرعة. وهذا ما يفرض قيودًا على المحتوى والشكل، بينما تزدهر الأفلام الشعرية وتطلق في مساحة أكثر حرية.




لكن التوزيع الرقمي قد غير مستوى التأثير الذي يمكن أن يحدثه عرض الأفلام في دور السينما، بخاصة الأعمال التي يتم تقديرها في ظروف صعبة. قد يتردد الجمهور المعاصر في مشاهدة الأفلام التي تتطلب نهجًا تأمليًا ويميل إلى ما يعرض أمامه من محتوى سريع وهو الأنموذج الناجح تجاريًا اليوم.
يبدو أن السينما الشعرية، التي تلعب على الإيقاع والصور، نخبوية أو متطلبة، ما يحد أحيانًا من نطاقها التجاري أو تسويقها. كذلك تسمح التقنيات الرقمية لمزيد من المبدعين بالدخول في مشاريع مستقلة، ما يقلل من تكاليف الإنتاج. وقد أتاح ذلك فتح الباب أمام تنوع الأصوات في السينما الشعرية، لكنه أيضًا زاد من زحمة السوق، ما جعل من الصعب على كل فيلم أن يبرز ويأخذ حقه. يجب على السينما الشعرية اليوم أن تجد طريقها بين الحرية الفنية والقيود التجارية، مع الاستفادة من مزايا التكنولوجيا الحديثة للبقاء وفية للطبيعة الشعرية التي تميزها عن القيمة التجارية.

(*) أخبرنا عن الصداقة التي جمعتك بالمخرج اللبناني مارون بغدادي. وماذا تقول عن السينما اللبنانية؟ وما هي رسالتك للشباب المختصين في هذا المجال اليوم؟
كانت صداقتي مع مارون بغدادي عميقة ومبنية على احترام متبادل. بغدادي كان مخرجًا موهوبًا وشغوفًا، يتمتع بأسلوب ورؤية سينمائية فريدة تأثرت بالوضع السياسي والثقافي المعقد في لبنان آنذاك. كان تعاوننا مستوحى من إرادة تجسيد وإحياء قصص قوية ومؤثرة.
غالبًا ما كان يستهان بالسينما اللبنانية في الساحة العالمية آنذاك، لكني بالفعل أراها في الواقع غنية ومعقدة في آن، تتناول مواضيع عميقة مثل الهوية، والحرب، والسعي إلى السلام في سياق غير مستقر. وقد أظهر المخرجون اللبنانيون، مثل مارون بغدادي، شجاعة فنية كبيرة، من خلال تناول مواضيع صعبة وسرد قصص عابرة للحدود.
شكلت وفاة مروان بغدادي صدمة وخسارة كبيرة لكل من عرفه ولعالم السينما. لقد تركت وفاته المأساوية فراغًا في سينما العالم العربي وأوقفت مسيرة كانت لا تزال واعدة بالعديد من الأعمال التي لا تُنسى.
مع شركة Quizas، نحن مهتمون بالسينما اللبنانية. وقد قمنا بتوزيع الفيلم الجميل "Good Morning"  لبهيج حجيج، الذي أدى فيه الأدوار، الممثلان الرئيسان غابرييل يمين وبشارة عطا لله. حصل هذا الفيلم على جائزة رامبو دو سينما Les Rimbau Du Cinema في عام 2022. يستكشف هذا الفيلم مواضيع عميقة، مثل الشيخوخة، والذاكرة، وذكريات بلد عانى من النزاعات.
رسالتي هي وبالتعاون مع شريكي المخرج مانويل سانشيز، نحن نريد أن نساهم في التعريف بالجيل الجديد من المخرجين وصانعي الأفلام اللبنانيين والعرب، كما أننا منفتحون ونرغب في دعم وتعزيز المخرجين الشباب الموهوبين من جميع القارات أيضًا.

(*) ما هو مستقبل مجال السينما في ظل وجود الذكاء الاصطناعي الذي يستطيع أن ينتج عددًا كبيرًا من الأفلام خلال فترة قياسية؟
تندرج هذه المسألة ضمن رؤية صناعة السينما. الذكاء الاصطناعي هو، بطريقة ما، طريق سريع للفكر. أود أن أقتبس قولًا لكاتب أميركي هو ريتشارد بروتيجان، الذي قال: "في الماضي، كان الناس يعدّون مخيلتهم بأنفسهم، كما تعدّ الطعام بنفسك. الآن، أحلامنا لم تعد تشبه سوى أي شارع في أميركا، محاط بمطاعم مقيّدة بسلاسل من الجانبين". 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.