د. زهير توفيق (1957- القدس) كاتب وأكاديمي، وباحث في قضايا الفلسفة والنقد والفكر السياسي. رئيس جمعية النقاد الأردنيين. وعضو الجمعية الفلسفية الأردنية. شغل مدير تحرير مجلة عمان الثقافية. ونشر عشرات الأبحاث في الدوريات الأردنية والعربية. صدر له عديد من الكتب، منها "أديب اسحق مثقف نهضوي مختلف"- المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2004، "خطاب العلم والتقدم" - دار الشروق -2006، "المثقف والثقافة"- المؤسسة العربية للدراسات والنشر – 2013، "النقد الفلسفي: من الإصلاح إلى التغيير ومن النقض إلى التقويض""، 2016. حاز على جائزة أحسن كتاب في العلوم الانسانية- جائزة جامعة فيلادلفيا الدولية عام 2018 عن كتاب "النهضة المهدورة". كما نال جائزة حبيب الزيودي للشعر، 2022 وجائزة دار نعمان الثقافية، بيروت 2006.
يعد واحدًا من المبدعين الأردنيين القابضين على جمر الفكر في مواجهة التحديات، معيدا أهمية موقف المثقف العربي، وعدم تهميش دوره، بعد أن غدت السطحية هي الدارجة، وعدم فهم ما يجري من أحداث سياسية متلاحقة هو السائد. وما حواري معه هنا إلا محاولة لطرح أسئلة غدت مستهجنة في زمن التشظي العربي الراهن: أسئلة النهضة العربية، والتراث، والفلسفة، والفكر، وهي أسئلة كانت مشروعة، بل ومطروحة بقوة قبل عقود قليلة، وكان ثمة مفكرون يضعون أسسًا لمشروع عربي نهضوي يمكن أن يتحقق. أين نحن من هذا؟
(*) لنبدأ بكتابك الذي أثار الاهتمام عند صدوره "النهضة المهدورة"، ماذا أردت القول فيه؟
صدر هذا الكتاب سنة 2018 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، وفاز بجائزة "جامعة فيلادلفيا" لأحسن كتاب في العلوم الإنسانية في تلك السنة. الكتاب حتى ذلك الوقت كان عصارة أفكاري في موضوع النهضة العربية وخطابها في الفكر العربي الحديث، وغطى مرحلة النهضة الأولى والثانية من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين. تناولت فيه السجال والتناقض في تيارات الفكر العربي السلفية والليبرالية، وما بينهما، والقضايا التي شغلت ذلك الخطاب، كالعلمانية والعلم والقومية والعروبة وغيرها، إضافة لتحليل أهم مشاريع النهضويين وأفكارهم حسب اتجاهاتهم الأيديولوجية، كالأفغاني، ومحمد عبدة، والكواكبي، وعمر فاخوري، ونجيب عازوري وغيرهم، إضافة لمشروع النهضة الأهم، وهو مشروع محمد علي باشا في مصر.
وفكرة الكتاب باختصار شديد، هي تهافت خطاب النهضة القيّم على المشروع على مستوى معرفي، وتناقضه مع ذاته، مما جعله قابلًا للتصفية من حيث المبدأ، وغير قادر على الوفاء بوعوده في المشروع النهضوي، أو تحقيق المشروع الحضاري العربي بالحرية والوحدة والاستقلال والتقدم، وبغض النظر عن العامل الخارجي، الذي يتربص بالمشروع ويناصبه العداء.
(*) حقًا، قبل أكثر من نصف قرن كان هناك من ينظر إلى إمكانية نهضة عربية، ومع الوقت بدأ يتلاشى هذا الأمل كيف ترى أسئلة النهضة اليوم؟
يرتبط هذا السؤال بالسابق، فقد تحول أولًا مشروع النهضة وخطابها في الفكر المعاصر إلى موضوع للتحليل والتفكيك، ولم يعد الرهان كما هو سابقًا، فقد فشل المشروع في تحقيق وعوده وعبارة استئناف النهضة، إذ غدت هذه عبارة مجانية جوفاء، فبعد الفشل، نحتاج لإعادة بناء المشروع كليًا والتصالح مع الذات والعالم، وتغيير زاوية النظر للأشياء، أي هدم المسلمات والمنطلقات التي أسست للمشروع وسببت سقوطه. أي "بيروسترويكا" عربية نهضوية جديدة بكل معنى الكلمة.
(*) أنت مهتم كثيرًا بالفلسفة، بماذا تفيدنا الفلسفة؟
لا شك أن هناك هجمة سياسية وفكرية ضد الفلسفة، أدت في المرحلة السابقة إلى إبعاد الناس عنها، ووصمها بما ليس فيها، والتسبب بمشكلات مجتمعية جمّة. ولحسن الحظ بدأت هذه الصورة النمطية السلبية بالتفكك، واكتشف الجميع - الأعداء قبل أصدقاء الفلسفة - جدواها وأهميتها العملية والمعرفية، وخطورة غيابها عن المشهد التربوي، في المدرسة والجامعة، وعن الفضاء العام. الفلسفة تعني العقلانية وتحكيم العقل المعرفي في حياتنا، كمرجعية في فهم الأمور والنقد والمساءلة في السياسة، وعدم قبول أي شيء إلا بعد التحقق. ترتبط الفلسفة بالتربية فهي المؤهلة لتزويد الطالب والفرد، بشكل عام، بالتربية الجمالية - الأساس والذوق وتقييم المنتج الفني والإبداعي- والأخلاقي، ومهارات التفكير العليا، ومنهجية البحث، ولكل مادة مهارات وقيم، وعند إلغاء الفلسفة من المنهج المدرسي - على سبيل المثال كما حصل في الأردن أواخر السبعينيات – فإنك تلغي قيمًا ومهارات لا يمكن تعويضها في أي مادة أو حقل معرفي آخر. الفلسفة قاعدة العلوم الإنسانية وجوهر الأسئلة العلمية الكبرى في العلوم الطبيعية. أسئلة الفلسفة تنتشر اليوم في دول الغرب، هناك ما يمكن تسميته عيادات فلسفية تشبه عيادات الطب النفسي (بيوت خبرة فلسفية) لفهم الذات والآخر والعالم من حولنا، لكن روادها ليسوا مرضى بل أشخاص أسوياء يؤرقهم الوجود ومغزى الحياة ومشكلات الإنسان والمستقبل وما يهدد الإنسانية. طبعًا للفلسفة خصوم أشداء ولهم مصلحة حيوية في استبعادها والتشكيك بجدواها، فالفلسفة (العقل والنقد والمساءلة) لا تستقيم مع الاستبداد، فهي المؤهلة لفضح الفساد وغياب الحريات. ومن السهل جدًا على الفاسد المستبد إدارة الجهلة والسيطرة عليهم وفرض الطاعة والامتثالية بلا مبرر، وتعميم النظام الرعوي الذي يتعامل معهم كرعايا في أفضل الأحوال وليس كمواطنين مؤهلين للمشاركة في السلطة، فهم في عُرف الاستبداد أطفال قصّر وعامّة ورعاع ودهماء. الفلسفة في السياسة تنوير وشحذ للعقل والمخيلة وطرح البدائل وصياغة البرامج والأفكار الكبرى ومشاريع التغيير.
(*) لك رأي يقول إن الفلسفة ليست بعيدة عن الواقع؛ بل هي ترصد ما يخفى من الواقع، لو اسقطنا هذا الرأي على الحال الفلسطينية وواقع حرب الإبادة في غزة الآن ماذا تقول؟
لطالما اتُهمت الفلسفة بالتجريد، أي أن الفلاسفة بالبرج العاجي بعيدًا عن الواقع ومشكلاته، لكن هذا الابتعاد عن الواقع ومشاكله السياسية هي فكرة فلسفية دعت لها تيارات فلسفية وضعية كالمدرسة التحليلية في بريطانيا وفيتغنشتاين وغيره، وربما كان للدعوة في السياق الغربي ما يبررها رغم أنها برأيي المتواضع غير مقبولة، ولا يمكن عزل الفلسفة عن الواقع لا منطقيًا ولا تاريخيًا، فقد كان الفلاسفة والعلماء رأس حربة في مشروع التقدم الغربي، ودفعوا الثمن غاليًا من عصر النهضة إلى التنوير وانخرطوا بالحياة والتغيير والثورة، ولم يكتفوا بالتحليل والتفسير.
في موضوع كارثة غزة هناك، أولًا، مقاربات فجة على مستوى الأدب والفن أنتجت نصوصًا شعورية وليست شعرية، وتحليلات شعبوية غرائبية، وعروض تسجيلية... إلخ لم ترتق لمستوى المأساة. بمعنى آخر، لا يوجد ما يرتقي لمستوى الكارثة والنكبة الفلسطينية وآخر تجلياتها في غزة.
الفيلسوف، أو لنتواضع ونقول المفكر العربي، مسؤول عما يجري ويفترض أن تكون له كلمة وحضور، وسلطة اعتبارية، لكن الاستبداد وغياب الحرية والديمقراطية – وارتباط المثقفين بمؤسسات تابعة للدولة وغير مستقلة - فرّغ دوره من أهميته، وعزله عن الناس؛ بل وعاقبه بطرق مختلفة. لكن رغم السواد والجو القاتم، على المفكر فتح آفاق أوسع ونافذة أمل وتعريف الجماهير بالطريق الأمثل للوصول للهدف بعيدًا عن الشعبوية والأيديولوجيا.
(*) حصلت على الماجستير في الفلسفة، والدكتوراه في العلوم السياسية، هل ثمة علاقة بينهما؟
طبعًا، فكما قلت سابقا قاعدة العلوم الإنسانية وأصولها قاعدة فلسفية، فالفلسفة أم العلوم الإنسانية والطبيعية، وما زال كتاب السياسة لأرسطو راهنا ويدرس في سياق تدريس تاريخ الأفكار السياسية والفلسفية في أقسام الفلسفة والسياسة وعلم الاجتماع السياسي وغيرها. الفلسفة تعطيك النظرة الشمولية والترابطية بين الأحداث السياسية، وتكشف لك المعنى والمغزى الأعمق في كل ما يدور حولك، لقد أورثنا الزواج أو التركيب بين الفلسفة والسياسة الفلسفة السياسية التي تختلف في أدواتها التحليلية ومنهجها التركيبي في فهم الأمور وتحليلها عن غيرها، حيث نجد نقيضها في التحليل الأيديولوجي، والمنهج الرغائبي، والعقل الشعوري ونظرية المؤامرة والنظرة الأحادية، والشعبوية، والقصور المعرفي الذي أوصل البعض أفرادًا وتنظيمات ومؤسسات لمقاربات كارثية، أودت بهم وبغيرهم للكارثة والواقع العربي خير دليل.
(*) هناك اجتهادات ومقاربات عدة لإشكالية التراث في الفكر العربي كيف ترى الموضوع؟
لدي كتاب صدر 2014 بعنوان "إشكالية التراث في الفكر العربي المعاصر"، والتراث الوجه الآخر للثنائية التي أصبحت ضدية وهي التراث والحداثة، وتنطوي الإشكالية أو الثنائية على التنافر والتضاد فإما الحداثة عند الليبراليين وتنويعاتهم وتجاوز التراث بكل معطياته، وما التراث عند السلفيين وما بينهما من الوسطيين التوفيقيين، الذين يأملون "بأخذ ما يناسبنا من الحداثة ودمجه بالتراث الحي"، إذ يبدو هذا الحل جذابًا، ووجيهًا نظريًا، لكنه في الواقع والممارسة المعرفية أنتج التلفيق، فلا يوجد أصلًا اتفاق على مفهوم التراث، أو التراث الحي. وما زالت الإشكالية مفتوحة، ولا يوجد مقاربة نهائية، حتى ذهب البعض من اليأس للقول: بأن اشكالية التراث والحداثة أو الأصالة والمعاصرة إشكالية زائفة خالية من المعنى، وهذا غير صحيح.
(*) تكتب الشعر رغم اهتماماتك الفلسفية والفكرية، ماذا تجد في الشعر؟
دعني أولًا أصحّح محتوى السؤال؛ اهتمامي وانشغالي الأول هو الفكر والفلسفة، وأكتب الشعر تاليًا، ورغم أنني حزت على أربع جوائز شعرية، إلا أنني نادرًا ما أقدم نفسي شاعرًا على حساب الفكر والفلسفة، لكن الفلسفة زوّدتني بعدة معرفية ونقدية على مستوى الشكل والمضمون ووسّعت آفاق التجربة، وعمّقت معناها ودلالاتها، وبكل صراحة إذا لم تتزود بحمولة فلسفية فسرعان ما تصل إلى طريق مسدود، وتكرّر نفسك بالقصيدة الوطنية أو الغزلية وتغرق بالذاتية والفردية والتسجيلية. الفلسفة وراء الشعر الخالد والقصيدة العظيمة من الملاحم الشعرية الكبرى إلى أعلام الشعر العربي القديم - المتنبي والمعري – والمعاصر: خليل حاوي، ودرويش، وأدونيس ومحمد بنيس، وغيرهم. وما يكتب بدون فلسفة ربما يكون كلامًا وشعرًا جميلًا، وأنا متأكد من ذلك لكنه في التحليل الأخير نصٌ شعوري وليس شعريًا وانفعاليًا بالحدث أو الحالة الوجدانية الداخلية، ولا يعني ذلك أنني وصلت إلى الحالة المثالية والمعيارية في الشعر أو أنني أقلل من أهمية زملائي وإنجازاتهم الشعرية، لكن الشعر أعظم وأبعد مدى مما أراه وأسمعه على الأقل في الساحة المحلية، وما زال مشوارنا في البداية والدرب طويل.
(*) كيف تصف المشهد الثقافي العربي اليوم؟
المجتمع العربي بشكل عام يمر بمرحلة انتقالية، وهذا ما ينطبق على الثقافة بالمعنى المعرفي وليس الأنثروبولوجي فقط، فنحن نراوح بين الحداثة والتقليد، أي الماضي والحاضر، والخوف المبرر هو هشاشة الحداثة ومكوناتها القابلة للعطب والانقلاب عليها من قوى الظلام والتقليد المتحالف مع الاستبداد. ما أريد الوصول إليه والتأكيد عليه أن الثقافة العربية نتيجة هذه المراوحة والتوتر في أزمة تاريخية، والأزمة في الثقافة غير الأزمة في السياسة فهذه الأخيرة خطيرة وتعني وصول السلطة إلى طريق مسدود لا الحاكم قادر على الاستمرار وتسويغ سلطته بدون القمع والإرهاب، ولا المحكوم مستعد للامتثال والطاعة بدون تشاركية أو مبرر. أما الأزمة الثقافية فمنتجة بطبيعتها، وشكلت حافزًا للفعل الثقافي، والإنتاج المعرفي لمقاربة الأزمة وتجاوزها وهذا ما نشاهده من الكم الهائل من المراكز البحثية، ودور النشر، وورشات العمل والمؤتمرات الثقافية والفكرية والجوائز واستعادة تدريس الفلسفة والاهتمام بها، والإصدارات الفكرية في شتى المعارف والعلوم الإنسانية لقراءة الواقع العربي.